
لكن التجربة التاريخية تُظهر أن التكنوقراطية ليست بديلًا عن الديمقراطية، بل أداةٌ داخلها، وأن المشكلة في بلداننا ليست غياب الكفاءات، بل غياب النظام الذي يُمكّنها من العمل بحرية ومسؤولية في إطار مؤسسي منضبط.
الحكومة في الديمقراطيات الراسخة
في الأنظمة البرلمانية المستقرة، كالمملكة المتحدة وكندا وهولندا واليابان، لا تقوم الحكومات على أسس تكنوقراطية بحتة، بل على منظومة تُعرف بـ حكومة المجلس (Cabinet Government)، حيث يعمل رئيس الوزراء بصفته الأول بين أنداد (Primus inter pares) في فريق سياسي متكافئ من حيث المسؤولية أمام البرلمان والرأي العام.
الوزير هناك ليس خبيرًا تقنيًا فحسب، بل قائد سياسي مدني يجيد الإدارة والتواصل واتخاذ القرار، ويُسأل عن نتائج وزارته أمام البرلمان والإعلام والرأي العام. ولهذا ترى وزير الدفاع مدنيًا، ووزير الداخلية سياسيًا لا رجل أمن، ووزير المالية صاحب رؤية اقتصادية كلية لا مجرد محاسب محترف.
جوهر الفكرة أن الحكومة ليست تجمعًا من الاختصاصيين، بل منظومة سياسية–مدنية تقودها الكفاءة المؤسسية وتضبطها المساءلة الشعبية.
وقد لخّص عالم السياسة البريطاني الشهير “والتر باجهوت (Walter Bagehot)” هذا المبدأ منذ القرن التاسع عشر بقوله:
“الوزير هو صانع القرار السياسي، أما الموظف العمومي فهو من يترجم ذلك القرار إلى فعلٍ إداري منضبط”.
التكنوقراط في الحكومات الرشيدة: منطق الدولة لا الحزب
في الديمقراطيات الناضجة، يُعدّ جهاز الخدمة المدنية (Civil Service) هو القاعدة التكنوقراطية الحقيقية التي تحفظ استمرارية الدولة.
كبار موظفي هذا الجهاز هم “مهندسو الإدارة” الذين يُعيَّنون عبر امتحانات ومقابلات صارمة تقوم على الكفاءة والجدارة، لا على الانتماء السياسي أو الولاءات الحزبية.
تُحظر عليهم ممارسة السياسة، لكنهم يُلزمون بخدمة أي حكومة منتخبة بمهارة وحياد، وهو ما عبّر عنه الفيلسوف الألماني “ماكس فيبر” حين اعتبر البيروقراطية “الآلة العقلانية للدولة الحديثة”.
وبذلك يكون الوزير السياسي هو من يضع الاتجاهات العامة، بينما يقدم له المستشارون والخبراء من داخل الجهاز التنفيذي البدائل والدراسات والتحليلات.
القرار النهائي يظل سياسيًا ومسؤولًا أمام الشعب، أما التنفيذ فهو فني وتقني.
هذا التوازن بين العقل السياسي والإدارة المهنية هو الذي يمنح الديمقراطيات الحديثة مرونتها واستقرارها.
متى تنشأ الحاجة إلى حكومة تكنوقراط؟
في المقابل، تنشأ فكرة الحكومة التكنوقراطية عادة في البيئات الانتقالية أو الدول الخارجة من صراع، حين تنهار الثقة بين القوى السياسية أو يتفشى الفساد والمحاصصة في مؤسسات الدولة.
عندئذٍ تُطرح حكومة التكنوقراط كخيار “علاجي” مؤقت، يُبعد الصراعات السياسية عن الإدارة العامة، ويعيد الاعتبار للجدارة المهنية.
وقد شهدت أوروبا وأميركا اللاتينية أمثلة عديدة على ذلك، منها حكومة “ماريو مونتي” في إيطاليا عام 2011، التي شُكّلت من اقتصاديين وإداريين مستقلين لاحتواء أزمة الدَّين، ثم عادت الأحزاب لاحقًا لاستئناف العملية الديمقراطية.
لكن هذا النموذج لا يصلح كصيغة دائمة، لأنه يفتقد للشرعية التمثيلية والمساءلة الشعبية.
فحين يُدار الحكم دون رقابة سياسية، تتحول الكفاءة إلى أداة باردة تُقصي الإرادة العامة، وهو ما حذّر منه المفكر السياسي الفرنسي ريمون آرون حين قال إن “التكنوقراطية خطر حين تتجاهل السياسة، والسياسة كارثة حين تجهل الكفاءة”.
العبرة ليست في الكفاءة بل في تأطيرها المؤسسي
في بلداننا العربية، كثيرًا ما أُطلقت تسميات مثل “حكومة الكفاءات” أو “الإنقاذ الوطني”، لكنها غالبًا أخفقت لأنها لم تستند إلى دولة مؤسسات مستقلة، بل ظلت رهينة التوازنات والمحسوبيات.
فحين يُعيَّن الوزير لخبرته، لكن الجهاز الإداري تحكمه الولاءات، تظل النتيجة عجزًا مركبًا.
الكفاءة لا تكفي ما لم تُحمَ بقانون وتُدار ضمن منظومة شفافة للمساءلة والرقابة، وهو ما يتطلب إصلاحًا جذريًا في الخدمة المدنية، وتحريرها من سلطة الحزب أو الشيخ أو القائد العسكري.
إن تأسيس خدمة عامة مهنية تُبنى على الامتحان والمفاضلة والاستحقاق هو الطريق إلى التكنوقراطية الحقيقية، لا بتغيير الوزراء بل بإصلاح بنية الدولة ذاتها.
حينذاك تصبح الحكومة — أيًّا كان طيفها السياسي — قادرة على اتخاذ قرارات رشيدة مدعومة بخبرة مستقلة، كما هو الحال في وزارات مثل الخزانة البريطانية أو الخارجية الكندية، حيث يعمل آلاف الخبراء تحت قيادة مدنية مسؤولة سياسيًا أمام الأمة.
الخلاصة
التكنوقراطية ليست بديلاً عن الديمقراطية، بل جزء من عقلها التنفيذي.
في الدول الراسخة، يتجسّد هذا التوازن في شراكةٍ بين الوزير السياسي والخبير المهني؛ بين الرؤية والإدارة، بين القرار والمساءلة.
أما في بلداننا، فغياب هذه الشراكة هو ما يجعل كل حكومة - مهما حسُنت نواياها - عرضة للفشل.
فالدولة الرشيدة لا تُدار بالخبراء وحدهم ولا بالسياسيين وحدهم، بل بسياسيين يفهمون معنى الكفاءة، وكفاءات تدرك مغزى السياسة.
فحين تكون السياسة عقل الدولة، تكون التكنوقراطية ذراعها التنفيذي - ولا قيمة لعقلٍ بلا ذراع، كما لا جدوى لذراعٍ بلا عقل.