
الجامعة المستقلة: الشرط الغائب لنهضة الأمة
الجامعة، في جوهرها، مؤسسة نقدية لا تزدهر إلا إذا كانت مستقلة عن إملاءات السياسيين وضغوط الحكام. فقد استطاعت جامعات، مثل بولونيا وأوكسفورد في العصور الوسطى، أن تحافظ على استقلالها من خلال مواثيق ملكية أو بابوية، وهو ما سمح لها بتوسيع التخصصات، وانتخاب العمداء، وتطوير هياكلها التنظيمية على نحو مكّنها من إعادة إنتاج ذاتها مع كل جيل جديد.
في المقابل، بقيت جامعاتنا العربية تفتقر إلى مثل هذا الإطار. محاولات الإصلاح في القرن العشرين غالبًا ما اقترنت بتأميم الأوقاف التعليمية، ففقدت الجامعات استقلالها المالي، وأصبحت أكثر تبعية للدولة المركزية. ومع هذا الفقدان، تراجع دورها من منارة للمعرفة إلى مؤسسة شكلية، وظيفتها تكرار الموروث أكثر من صناعة المستقبل.
ولعل المثال الأحدث على قيمة الاستقلال المؤسسي ما شهدناه في الولايات المتحدة مؤخرًا، حين حاولت إدارة الرئيس ترامب تجميد تمويل الأبحاث في جامعة هارفارد، وقفت المؤسسة بصلابة، مستندة إلى استقلالها الأكاديمي والقانوني، ونجحت في كسب معركة قضائية انتهت بإعادة تمويل قدره 2.6 مليار دولار بقرار من محكمة فدرالية. هذا النموذج يكشف لنا جوهر الفارق: الجامعات المستقلة قادرة على حماية رسالتها ومواجهة تعسف السلطة السياسية، بينما جامعاتنا العربية، المفتقدة لهذا السند، تبقى رهينة التدخلات الفوقية التي تُفرغ رسالتها من مضمونها.
القضاء وسيادة القانون: الحصن الموازي
لكن استقلال الجامعة لا يمكن أن يقوم بمعزل عن استقلال القضاء وتعزيز مبدأ سيادة القانون. فالجامعة، حتى وإن امتلكت إرادة داخلية للتجديد، تظل في حاجة إلى بيئة قانونية تحميها من عسف السلطة. والتجربة الغربية تبرهن أن معركة التنوير لم تُخض في الحرم الجامعي وحده، بل في ساحات المحاكم أيضًا، حيث لعب القضاء المستقل دور الحارس لحرية المعرفة والتفكير. في المقابل، يضاعف غياب مثل هذه البيئة القانونية في بلداننا العربية من مأزق الجامعة، ويجعلها بلا حماية مؤسسية في مواجهة التدخلات السياسية.
بين التراث والحداثة: جسر ضروري
إن الأزمة ليست صراعًا مع الماضي بقدر ما هي قصور في عقلنة قراءته وتفعيله. فتراثنا الجامعي، بما يحمله من مؤسسات عريقة كالزيتونة والأزهر والقرويين، يمكن أن يكون معينًا للتجديد إذا ما أُعيد توظيفه في إطار مشروع نهضوي يزاوج بين الأصالة والابتكار. المطلوب ليس القطيعة مع الموروث، بل تحريره من الجمود، واستثماره لبناء جسر نحو جامعة عربية جديدة قادرة على استلهام الماضي والانفتاح على مناهج العصر.
التعليم المتميز.. المدخل الأول للتنوير
ولا يمكن إغفال أن الجامعة، مهما بلغت مواردها، ستظل أسيرة قاعدة المدخلات. فطلاب المرحلة الجامعية هم في النهاية حصيلة ما تلقّوه في التعليم الأساسي والثانوي، من مناهج وطرائق تدريس وأساليب تقويم. إن ضعف تكوين الطالب في العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية، وتقييد قدراته النقدية والإبداعية في سنوات التكوين الأولى، يجعلان الجامعة منشغلة بسد فجوات أساسية بدل الانطلاق نحو البحث والإبداع.
من هنا، تبرز الحاجة الملحة إلى تطوير التعليم العام في اتجاهين متكاملين:
- تعزيز ملكات التفكير النقدي والإبداعي: عبر مناهج تحفّز التساؤل وتطلق الخيال، بدل الاكتفاء بالحفظ والتلقين.
- تنمية مهارات البحث والتقصي: بحيث يصل الطالب إلى الجامعة مزودًا بالأدوات التي تمكنه من المشاركة الفاعلة في العملية البحثية.
فالجامعة، مهما اجتهدت، لن تستطيع تجاوز قاعدة المدخلات الضعيفة، تمامًا كما تقول القاعدة الشهيرة في علوم الحاسوب: “GIGO – Garbage In, Garbage Out”. فإذا كان التعليم العام ينتج مدخلات هشة، فلن يكون في وسع الجامعة أن تخرج بمخرجات نوعية قادرة على حمل مشروع النهضة.
نحو مشروع إنقاذي
إن ما نحتاجه اليوم ليس مقالات للتشخيص فحسب، بل مشروعًا إنقاذيًا متكاملًا. مشروع يضع على جدول أعماله:
- إعادة الاعتبار لاستقلال الجامعات إداريًا وماليًا.
- إحياء الأوقاف التعليمية وإدارتها بمنهج استثماري حديث.
- تعزيز استقلال القضاء وضمان سيادة القانون لحماية حرية الجامعة.
- إدماج المناهج النقدية والعلوم الاجتماعية الحديثة في قلب العملية التعليمية.
- تطوير التعليم العام بما يرفع مستوى المدخلات ويمنح الطالب أدوات التفكير النقدي والبحث.
- توفير بيئة بحثية ومادية جادة تسمح للجامعة أن تتحول إلى مختبر لإنتاج المعرفة لا مجرد قاعة لتلقينها.
خاتمة
لن تنهض أمتنا ما لم تستعد الجامعة دورها كقاطرة للتنوير ومنارة للنهضة. فالجامعة المستقلة ليست ترفًا، بل شرطًا لوجود أي مشروع حضاري. وإذا كانت الجامعات الغربية قد استطاعت أن تنتقل من هيمنة الكنيسة إلى فضاءات العقل والبحث الحر، فإن جامعاتنا العربية مدعوة اليوم إلى معركة مماثلة، معركة من أجل الاستقلال الأكاديمي والقانوني، وتجويد المدخلات التعليمية، حتى تستعيد مكانتها الطليعية، وتتحول من مستهلكة للمعرفة إلى منتجة لها، ومن أسيرة للوصاية إلى قاطرة لنهضة طال انتظارها.