
كانت الحرب قديما تشن لتحقيق مصلحة اقتصادية أو منفعة معينة، وقد تشن لتخريب مصلحة أو علاقة أو تعزيز مصلحة او علاقة لطرف ثالث أو رابع أو التلويح لطرف آخر بالتفوق والنفوذ. أي توجيه رسالة تحذيرية لطرف ما مفادها أن هذه الساحة أو الدولة هي ميدان نفوذ خالص لا ينبغي الاقتراب منها.
هذه هي استراتيجية الدول القوية ذات الأنياب الفولاذية في التراسل فيما بينها، فهي التي بمقدورها توجيه الإنذار والسهر على تفعيله، وتأخذه بقية الدول المعنية على محمل الجد.
تعتبر الحرب الروسية الأوكرانية نموذجا لمثل هذا التراسل، فعلى الرغم من أن مبرراتها الروسية معززة بنزوع قومي ووجودي، فهي أيضا تتسم بنفس الخاصية بالنسبة لأوكرانيا. لكن المعادلة لا تتوقف هنا.
معادلة هذه الحرب لا تستقيم بحدين حاصل ضربهما يساوي صفراً. ذلك بسبب كثرة العوامل الداخلة فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فأوكرانيا وروسيا ليستا الا مجرد عوامل ظاهرة حرّكتهما دوافع مستترة وخفية لم تظهر ملامحها الا على دفعات متباعدة وليس دفعة واحدة. لكنها بالمجمل تشير إلى طبيعة المصالح التي تتقاطع في هذه الحرب.
يعتمد المجمع الصناعي العسكري الأمريكي في تطوره وازدهاره ونمو أرصدته واستثماراته على عدد الحروب المندلعة في العالم، وهنا تبرز الأهمية الخاصة لهذه الحرب بالنسبة لهذا المجمع، لكن قطاعات أخرى تتأثر بهذه الحروب كقطاع المال والعقارات والتجارة والسياحة؛ ولهذا تتناقض تصرفات الإدارات الأمريكية حيال هذه الحروب ليس بناء على المزاج الجماهيري ولكن بناء على انتماء اغلبية الإدارة لهذا أو ذاك من القطاعات.
أما العامل الأوروبي فله حوامله الخاصة، منها ما هو تاريخي كحال العلاقة الروسية الفرنسية والروسية البريطانية، ومنها ما هو مرتبط أصلا بالدور العالمي المفقود كما هو حال ألمانيا. ولهذا نلاحظ تباعد الموقفين الأمريكي والأوروبي في هذه اللحظة من الحرب في أوكرانيا.
ترامب شخص متقلب المواقف والرؤى باعتباره رجل صفقات يعتقد بقدرته على جني المكاسب المادية في هذه اللحظة بإيقاف الحرب، على عكس الموقف الأوروبي الذي يميل إلى تحقيق المكاسب المعنوية ثم المادية بعد إلحاق الهزيمة بروسيا بأيدي الأوكرانيين حتى لو اقتضى الأمر من الأوروبيين تمويل الحرب لسنوات طويلة.
لأن الولايات المتحدة هي اليد الطولى في المعسكر الغربي فقد رجحت كفة ترامب في هذه المسألة، وبات من الممكن تحقيق اختراق في مسار إيقاف الحرب بعد تمكنه من عقد قمة بينه وبين بوتين في الاسكا في منتصف أغسطس 2025، بعد أن فشل في الإيفاء بوعده الانتخابي بإيقاف تلك الحرب قبل تسلم السلطة.
المراقبون الغربيون اعتبروا مجرد عقد القمة بحد ذاته يعتبر نصراً لبوتين كسر من خلاله العزلة التي فرضها عليه الغرب، ودللوا على ذلك بالطريقة التي استقبل بها ترامب ضيفه، بل واعتبروا أن تصرفات بوتين أثناء وبعد القمة تتجاوز مجرد التعبير البصري عن الثقة التي يتمتع بها بوتين بقدرته على بعث الروح القومية الروسية حتى في تلك الأرض المنسية والنتائج التي يمكن ان يحققها بالحرب أو بالدبلوماسية. ذلك نفسه ما انطوى عليه الإيحاء الذي خلفه سيرغي لافروف بلباسه الحامل للرموز السوفيتية الذي ظهر به في ألاسكا.
وهكذا ووفقا للتقديرات فمن المتوقع أن تفضي رغبات ترامب إلى جمع الرئيس الروسي بالأوكراني ثنائيا لمناقشة ترتيبات إنهاء الحرب ثم يتوج ذلك بقمة ثلاثية بين (ترامب- بوتين- زيلينسكي)، ومن الصورة المتداولة عن الاجتماع الأوروبي الأمريكي في البيت الأبيض يظهر القادة الأوروبيون مجرد شهود في قداس تعميد مولود مسيحي في معبد يهودي.