على أن جميع من يتناول قضية الفساد لم يقدم لنا تعريفا منهجيا لهذا الفساد الذي ينبغي لنا محاربته. كان الراحل عبد القادر باجمال قد شبه الفساد بالإرهاب، بل جعلهما شيئا واحدا، لكنه قال أيضا من لم يغتن في عهد صالح لن يغتني أبدا، وهذه دعوة صريحة لممارسة الإرهاب الذي استنكره في الجملة السابقة. لكن الإرهاب نفسه كظاهرة ليس له تعريف كوني متعارف عليه، او لا يُختلف عليه، فنلاحظ أن كل دولة او نظام سياسي يعرف الإرهاب وفقا لمقتضيات مصلحته الخاصة، ويمكن ان يكون ما يجري في المنطقة اليوم دليلا كافيا لذلك الالتباس الذي يلف مفهوم الإرهاب. هذا الالتباس نفسه يلف الفساد بحيث يمكن لأي جماعة استخدام المفهوم بغموضه هذا بما يخدم مصالحها السياسية أو الاقتصادية او حتى الاجتماعية بجوهرها المناطقي أو الطائفي والفئوي.
يقول ارفيند ك. جاين. إن “مصطلح الفساد مصطلح يشير عادةً إلى إساءة استخدام المنصب الرسمي لتحقيق مكاسب شخصية”- استخدام المسؤول لصلاحياته والحقوق الممنوحة له، فضلاً عن السلطة والفرص والاتصالات المرتبطة بهذا المنصب الرسمي لتحقيق مكاسب شخصية، مخالفة للقانون والمبادئ الأخلاقية.
العلامة المميزة للفساد هي التعارض بين تصرفات المسؤول ومصالح صاحب العمل، أو التعارض بين تصرفات المسؤول المعين او المنتخب ومصالح المجتمع، أو ببساطة بين تصرفات ذلك الموظف ومتطلبات التشريعات النافذة. وتشبه العديد من أنواع الفساد الاحتيال الذي يرتكبه موظف عمومي وتندرج تحت فئة الجرائم ضد السلطة العامة. أي مسؤول يتمتع بسلطة تقديرية يمكن أن يكون عرضة للفساد. في مجال توزيع أي موارد لا تخصه وفقًا لتقديره الخاص (مسؤول، نائب، قاض، مسؤول تنفيذ القانون، مفوض إلخ). إن الحافز الرئيسي للفساد هو إمكانية الحصول على العائد السياسي او المعنوي أو الربح الاقتصادي المرتبط باستخدام السلطة، والرادع الرئيسي له هو خطر التعرض والعقاب.
من مدة طويلة صادفت عبارة تقول: إن” المربي نفسه يجب أن يكون متربيا”، وقياسا على ذلك فإن مكافح الفاسد أيضا يجب ان يكون متربيا. وقد يكون الشخص فعلا متربيا في اسرته لكنه يخضع لاحقا لإعادة التربية ضمن الجماعة التي ينتمي إليها وقد تكون التربية الجديدة متناقضة كليا او جزئيا مع التربية الأسرية الفاضلة، وبالتالي قد تكون ممارسة الفساد واحدة من اشتراطات الترقي في أطر تلك الجماعات أو الأحزاب، وهذه ظاهرة شاخصة في كثير من الأحيان. وبناء عليه فمكافح الفساد يجب أن يكون نزيها.
وكما تحتاج التربية إلى أداوتها الخاصة، تحتاج مكافحة الفساد إلى أدواتها الفعالة التي تضمن ليس فقط إدانة الفاسد بل واستعادة الموارد إذا كان الأمر متعلقا بالسرقة والاختلاس والتبديد.
ولهذا فأهم أدوات الصراع مع الفساد هو الاستقلال الحقيقي لمؤسسة القضاء وعلى الأخص النائب العام الذي تفرض عليه سلطته تحريك كل القضايا التي تمس حياة الدولة والمجتمع بما في ذلك الفساد السياسي والاقتصادي وغيره، دون الحاجة إلى توجيهات من سلطة اخرى، إذا كنا نعتقد أن القضاء سلطة قائمة بذاتها، وبمعنى أدق أن توفر أدوات الضبط القضائي إلى جانب القانون كامل الحماية للنائب العام وفريقه، حيث وهو بحكم انتمائه المدني لا يحتكم على أي اسناد مناطقي أو قبلي أو جهوي.
أما الأداة الثانية فهي خضوع الأجهزة المعنية بكل اشكال الرقابة للسلطة القضائية حتى لا يتم توظيفها لأهداف سياسية أو جهوية. اما الأداة الثالثة فهي إطلاق حرية التعبير والإعلام لكشف ظواهر الفساد وتحليلها وتعريف الرأي العام بها، وذلك لن يتم بدون اتاحة الوصول الحر للمعلومة.
اما إذا كان الأمر مجرد إعادة تبييض أو تلطيخ صفحات لجرد كسب النقاط فلن يكون مصيرها الا مصير تجارب مماثلة مرت أمامنا.