وأياً كان مضمون وثيقة الضمانات التي ستتوافق عليها الأطراف المعنية فبإمكاننا مقاربة هذه المحددات التي سترسم ملامح المرحلة القادمة من خلال عدة معايير أراها موضوعية وتعبر عن استحقاقات الواقع المادي الملموس ، وتستجيب لأولوياته ، وتتجاوز أخطاء وثغرات المرحلة الانتقالية.
أول هذه المحددات التي ينبغي الانطلاق منها ، أن تطوي المرحلة الجديدة المحاصصة الحزبية التي قدمت أنموذجاً سيئاً في الاستيلاء على الوظيفة العامة من قبل أحزاب كانت معارضة لنظام صالح وقدمت الى الحكومة باسم الثورة ، وكان متوقعاً منها أن تعمل على تحرير الوظيفة العامة من المعايير الولائية والعصبوية التي كرسها صالح ونظامه لا أن تستبدلها بمعايير الانتماء الحزبي.
لقد كانت تجربة التوافق في تشكيل الحكومة مريرة وشكلت ثغرة كبيرة للمرحلة الانتقالية لأن مفهوم التوافق قد أسيء فهمه ؛ وتحول الى عامل عرقلة ، فيما كان المتوقع منه أن يكون وصفة ناجعة لإدارة الجهاز التنفيذي.
كانت الفكرة تقول إن أي مرحلة تلي نظام حكم مستبد تحتاج الى أكبر قدر من المشاركة في ادارة الشأن العام في المرحلة الانتقالية ؛ استنادا الى تعذر قيام طرف واحد بمفرده بإدارة البلد ؛ إذ أن التوازنات التي بناها الرئيس السابق ونظامه استغرقت زمناً طويلا ؛ وصراعات مريرة ؛ وتأسست ضداً على المصلحة العامة من خلال ربط الجميع بالحاكم الفرد وعصبيته ومصالحهما ؛ وبالتالي فليس ممكنا لطرف واحد إدارة البلد وفق المصلحة العامة بمفرده.
غير أن التوافق المقصود به المشاركة في رسم السياسات والتخطيط لها وتفعيل تنفيذها قد فشل في ذلك كله. وفي البرنامج الاساسي للمرحلة الانتقالية كان «التوافق» سبباً لتراخي اداء الجهاز التنفيذي وهبوط فعاليته الى أدنى المستويات في مواجهة تحديات استثنائية تمثلت بالاختلالات الامنية والتفجيرات لأنبوب النفط والكهرباء وغيرها من مفردات العرقلة التي أثقلت كاهل اليمنيين وأعاقت انجاز مهام المرحلة الانتقالية في موعدها المحدد.
من هنا يبرز دور الرئيس الآن ومحوريته في المرحلة القادمة ابتداء من رسم ملامحها ، باعتباره الوحيد في المشهد السياسي الانتقالي كله الذي يتمتع بتأييد الإرادة الشعبية من خلال التفويض الشعبي الواسع الذي حصل عليه في فبراير 2012.
ويترتب على هذا أن شرعية الرئيس هذه هي المدخل الوحيد للتمديد استناداً إلى ظرف استثنائي يتعذر فيه انجاز الاستحقاقات الانتخابية ، وبالتالي فبإمكانه الاستناد الى صلاحياته الدستورية في إعلان فترة إضافية جديدة لإنجاز هذه المهام وفق هذه الصلاحيات وليس وفقاً لمخرجات الحوار الوطني التي لا تحوز على أي شرعية الآن ، ولن تكون نافذةً الا بعد استيعابها ، والاستفتاء عليها في الدستور الجديد.
من هنا فإن المطلوب من الرئيس كمسؤول عن البلد في هذه اللحظة التاريخية أن يتجاوز المحاصصة الحزبية في تشكيل الحكومة الجديدة ؛ ولن يكون ذلك ممكناً بصلاحياته فقط ؛ ولكن الأسلوب الناجع الذي يمكنه من تجاوز هذه العقبة التي تتطلع للتمدد مرحلة جديدة أخرى هو اعتماده على معايير الكفاءة والمصلحة العامة في تشكيل حكومة كفاءات قوية ومتحررة من كل ثقالات الإعاقة بكافة صورها.
بدون حكومة كفاءات قوية تُفَعِلْ الجهاز التنفيذي الحكومي وتحدث فرقاً بأداءاته في جميع المجالات المرتبطة بحياة الناس وأمنهم ومعيشتهم ؛ بدون ذلك ستكون ثغرة الانتقالية السابقة مضاعفة وأكثر فداحة وضرراً في المرحلة القادمة.
لا بأس أن يشارك وزراء ينتمون الى كافة أطياف الفرقاء الحزبيين ؛ لكن ينبغي أن يشاركوا باعتبارهم كفاءات تكنوقراطية إدارية وليس بحيازتهم على صك الانتماء الحزبي باعتباره بطاقة العبور للوزارة والوظيفة العامة.
في مختلف دول العالم يحدث أن تستدعي الحاجة قيام حكومات توافقية لهذا السبب أو ذاك ؛ كتعذر حصول حزب واحد على الأغلبية البرلمانية التي تؤهله الى تشكيل حكومة بمفرده ، وليس فقط في الفترات الانتقالية. غير أن هذه الحكومات التوافقية لا تعني بأي حال من الأحوال أن يكون الوزير مقطوراً إلى عربة حزبه وأجندته الخاصة ؛ وإنما عليه الالتزام بالبرنامج العام للحكومة ومقتضيات وضوابط الأداء في الوظيفة العامة ومعاييرها المحايدة.
خلاصة القول أن البلد لم يعد يحتمل تراخياً كما شهدناه في الانتقالية الأولى ، وبالأحرى لم تعد يحتمل توافقاً على حساب السلام الاجتماعي والأمن العام والحضور الطبيعي لهيبة الدولة.
فهل يفعلها الرئيس عبدربه منصور هادي ؛ وينجو بنفسه وبالبلاد من أسر التوافقات التي تحولت الى ثقالات حديدية تعيق اليمن عن المضي الى الأمام؟ !!