حينها تذكرت واقعة شخصية عشتها أثناء تغطيتي لفعالية الحراك الجنوبي في شهر يوليو 2007 برفقة الصديق ناجي المحلائي وبعض رفقته من شباب الحراك تمكنت من الوصول الى مستشفى النقيب وتصوير بعض الجرحى الذين كانوا يصلون تباعا الى غرف المستشفى ينتظرهم الأطباء والممرضون الذين لا يقلون عن أي ناشط حراكي في الميدان بالجهد الذي يبذلونه والخدمات التي يؤدونها للجرحى والمصابين.
كانت الصورة الاستثنائية التي التقطتها أول ماوصلت للجريح يحيى حسين على ما أذكر ، والرصاصة المطاطية تفقأ عينه ولا زالت مغروسة فيها ؛ وقد لاقت صدىً واسعاً عندما نشرتها مع تقرير موسع في صحيفة الأهالي آنذاك.
قبل أن أنشرها ترددت قليلاً ؛ غير أنني تذكرت لقطة بديعة قرأتها في مذكرات كازنتزاكي ؛ تقرير إلى غريكو.
يذكر الروائي اليوناني الشهير أنه ذات يوم ذهب ومعه إبنه الصغير لإلقاء نظرة على ثلاثة أبطال وطنيين لبلده اليونان أعدمتهم سلطات الإحتلال التركي ؛ وعندما وصل وهم معلقون ورؤوسهم مدلاة فوق حبال المشانق ؛ لاحظ إبنه وهو يشيح بنظره عنهم ، فكان أن أمسك به من خصره ورفعه الى محاذاة الرؤوس المشنوقة وهو يهمس في أذنه : حدق في وجوههم حتى لا تنساهم ؛ هؤلاء هم أبطال وطنك يا بني ...
غير أن هذا التقدير ليس صحيحاً في كل الحالات. فإذا كان مناسباً في بداية الحراك الجنوبي نشر مثل تلك الصورة التي ذكرتها لأنها حالة نوعية ذات دلالة؛ فإن الوضع الآن في البلدان العربية مع سيل الصور الدموية المتدفق كل يوم؛ يحتاج الى حصافة مهنية في إختيار الصورة المعبرة ؛ وإشاحة النظر عن سيل الصور الصادمة التي لا يؤدي نشرها سوى لتكريس العنف وتطبيع الرأي العام مع حالته اليومية كأمر مألوف ؛ وفاقد لتأثيره الإيجابي في استثارة رفض الرأي العام لاستخدام العنف والقتل كأداة سواء من قبل الأنظمة الحاكمة ؛ أو الجماعات المسلحة.
الصورة سيف ذو حدين. وعندما تبرز صور القتل وأعداده اليومية كمعيار فأنت بحاجة في اليوم التالي إلى عدد أكبر من عدد اليوم الأول كي تلفت نظر القارئ والمشاهد للتفاعل مع القضية والتضامن مع الضحايا.
من هنا فإن الميديا تحتاج إلى توظيف الصورة المعبرة ذات المضمون الدلالي على الحدث ؛ وليس بالضرورة أن تكون الأكثر دماً ورعباً.
ذلك أن الصورة غدت حدثاً بحد ذاتها لا يقل عن الحدث الواقعي. وكيفية توظيفها ضمن التناول الخبري في الجريدة وشبكات التلفزة الإخبارية يغدو فناً قائماً بذاته ؛ بإمكانه أن يخرج حدثاً واقعياً من الهامش إلى واجهة الشاشة ؛ أو يدمر حدثاً بارزاً بطريقة تناوله ، وزوايا النظر اليه وتأطيره ...
الإغراق في نشر صور العنف يؤدي في أكثر من ساحة عربية دامية هذه الأيام إلى نوع من اللامبالاة وانعدام التفاعل مع نزيف الدم اليومي هناك في دمشق وبغداد كمشهدين بارزين للدم المسكوب بمجانية لا مثيل لها منذ سنوات.
ذلك أن الضخ اليومي الزائد عن الحد يصيب المشاهد بحالة من إنعدام القدرة على التمييز وحالة وجدانية تتسم بانعدام الوزن والموقف ؛ ويساعد في ذلك سيادة حالة من الاستقطاب الأيديولوجي بين طرفي النزاع وامتداداتهما في المنطقة. استقطاب يميع الحالة الانسانية في صراعه وأبعاده السياسية.
بينما مقتضيات المنطق والتضامن الإنساني تقول أن النظرة الوحيدة إزاء سيل الدم المسفوح في دمشق ينبغي أن يبرز فيها الجانب الإنساني ؛ وتتوارى الى الخلف كل مقتضيات السياسة والاستقطاب. كما أن التمييز مطلوب في مثل هكذا حالة بين نظام محترف للقتل والتنكيل وله تحالفاته الإقليمية ؛ وبين جماعات أضطرت لحمل السلاح دفاعاً عن النفس ؛ وينبغي عدم الخلط بينها وبين الجماعات الارهابية التي حضرت في سوريا ؛ وسوف تحضر في أي ساحة مفتوحة على إمتداد المنطقة العربية كلها.