لا تلام الديكتاتوريات اذا لم تكن لها فلسفة ولا فلاسفة يعتد بهم وبفكرهم.. فالثيران لاضروع لها لتنتج الحليب ..ولا أتوقع أن تنتج الديكتاتوريات فلسفة ذات أثر.. لكن لايغفر للثورات فقرها بالفلسفة وغياب الفلاسفة والمفكرين عنها وهم الذين يضيئون ويتوهجون بالأفكار.. والثورات العظيمة يوقدها عظماء وتضيئها عقول كالشهب وتتكئ على قامات كبيرة ترسم بالنور زمنا قادما بالقرون.. وغياب هؤلاء يسبب تحول أي ثورة الى حركة (تمرد) و (انقاذ) لايقاف الدمار الذاتي.
الثورات الشعبية عادة هي انعكاسات لصراعات اجتماعية عميقة.. وسلوك الثورات انعكاس لفلسفة بعينها تغذيها.. فلكل ثورة صراعها وفلسفتها وقاماتها.. وبالتالي لها أبطالها على الأرض وفلاسفتها.. وغياب الفكر والفلسفة يجعل الثورة تمردا ليس الا، ولا تحمل الا صفات الانفعال الشعبي والغوغائي.. فالثورة الفرنسية كانت رغم عنفها وجنونها ثرية بالفلاسفة والمفكرين الذين صنعوا من فعل الثورة حدثا مفصليا في التاريخ عندما تحولت هذه الثورة الى وسيلة صراع اجتماعي مسلحة بالفكر الثرّ وبالمنطق الذي لايزال يجري في عروق قيم الحضارة الانسانية.. كان الدم يسيل في طرقات باريس ومن مقاصلها ومن جدران الباستيل لكن كذلك كانت المصطلحات الثورية والمفاهيم الكبرى الفرنسية الصنع والصياغة عن المساواة والحرية تطل من الشرفات وتضيء مع شموع المقاهي.. وتفوح كالعطر من مكتبات الثورة ومؤلفاتها.. فكدنا نرى مفكرين وفلاسفة وكتابا أكثر من أعداد الغوغاء التي اجتاحت باريس ..فلاسفة الثورة الفرنسية ومفكروها كانوا أكثر عددا من الثوار الذين زحموا الطرقات...
وكذلك كانت ثورة البلاشفة في روسيا فبرغم أن من قام بها كانوا على درجة كبيرة من الأمية (الذين أطلق عليهم البروليتاريا) فانها اعتمدت على فلسفة عملاقة هي الماركسية والماركسية اللينينية وكل متخماتها ومصادرها من جدلية هيغل ومادية فيورباخ وطوباوية توماس مور وسان سيمون وروايات توليستوي ومكسيم غوركي..ويروي المؤرخون حادثة تدل على أن شباب الطبقة البروليتارية الروسية الذين قاموا بالثورة البلشفية لم يكونوا يعرفون ماتقوله فلسفة الثورة، بل كانوا منجذبين الى حد الانبهار بفلاسفتها وفلسفتهم دون أن يفقهو منها شيئا، لكن مفكري الثورة كانوا يعرفون عن البروليتاريا كل شيء.. فقد كان لينين الساحر المفوه يخطب في حشد من الناس ويبشرهم بأن البروليتاريا ستقوم ببناء القاعدة المادية الفولاذية للثورة الاشتراكية ..وهنا اندفع احد المتحمسين الشباب من المحتشدين وصاح بتأثر وحماس: أيها الرفيق لينين ..انني حداد وأنا سأضع كل امكانياتي وخبرتي في صناعة الحديد لبناء هذه القاعدة الفولاذية.. بالطبع ماقصده لينين كان غير «المصطبة الحديدية» التي قصدها الحداد.
واليوم يحاول الكثيرون تسويق الربيع العربي على أنه ثورة من ثورات العالم الكبرى التي تتعلم منها الأمم والشعوب برغم ان هذا الربيع لايعدو في أعلى مراتب التوصيف أن يكون تمردا اجتماعيا متشظيا قائما على الانفعال العاطفي الوجداني لجمهور تائه عبر الفيسبوك وتويتر واليوتوب لايختلف عن الحداد الذي أراد أن يبني لقائد ومفكر الثورة البلشفية لينين “مصطبة” القاعدة المادية الفولاذية للثورة الاشتراكية.. فقد غاب عنا في هذه الثورة العربية “المترامية الأطراف” من شمال افريقيا الى اليمن السعيد والى سوريا شيئان مهمان هما فلاسفة الثورة الكبار ومفكروها وفلسفتها.. وكذلك غابت كليا فلسفة الثورة.. واللهيب الذي نراه اليوم لم يوقده فلاسفة ولاعمالقة ولاقامات ولاهامات ولافكر.. هذه ثورات أوقدها النفط والجهل وحديث التعصب وفتاوى التدين السياسي.. وليس القهر والحرمان والديكتاتوريات.. أما فلاسفتها الحقيقيون فلا يتكلمون العربية !!.
البحث عن ماهية فلسفة ( ثورات الربيع العربي) عمل شاق للغاية ..والأكثر شقاء هو البحث عن فلاسفة الثورة والخزانات الفكرية الضخمة التي تستمد منها الثورات الكبرى طاقتها الخلاقة.. وقد حاولت ولشهور طويلة متابعة شخصيات هذه الثورة وكتاباتها وكتابها ولاحقت عيناي كل المقابلات الصحفية والبرامج التحليلية لكنني ما التقيت سوى الخواء، وماوجدت نفسي الا في صحراء قاحلة بلا واحات وبلا نخيل عالي القامات.. وبلا قوافل المؤلفات الكبيرة.. ولم أجد قامات مفكرين ناهضين في الثورة كأنصال السيوف ..عجبا هل أقفرت الثورات العربية العابرة للقارات من تونس الى سوريا مرورا بمصر واليمن من أية مرجعية فكرية تستند عليها الجماهير ..وتضبط سديمية هذه الجماهير وغوغائيتها ..؟؟
من جديد يعاتبني الكثيرون على انكاري لوجود ثورات (الربيع العربي) ويبعثون اليّ بالمناشير ومشاهد اليوتيوب والمقالات ومقاطع المقابلات.. ولكن عذرا أيها السادة، فلا أزال مصرا على انه لاتوجد ثورات عربية ولاربيع عربي قبل انتفاضة الشعب المصري في 30 يونيو ضد نظام حكم المرشد وانتفاضة الشعب التونسي ضد حكم النهضة ،بل انفعال اجتماعي وقوده مال ونفط وفلاسفته اميركيون وأوروبيون وصهاينة مسيحيون.. هذه حقيقة مؤلمة. ..
ان كل مارأيناه هو حركة فوضوية لجمهور بلا قيادة وبلا قائد وبلا عقل مدبر .. وهنا كمنت الكارثة الوطنية.. فالربيع العربي “العظيم” لم ينتج أكثر من منصف المرزوقي في تونس التي ذهب فيلسوفها الصغير الغنوشي سباحة الى نيويورك ليقايض كتبه في مؤسسة (ايباك ) الصهيونية الاميركية بثمن بخس هو “السلطة”.. وهذه ليست من صفات فلاسفة الثورات الذين تأتي اليهم الدنيا لتسألهم عن فعل الثورة ولايذهبون الى تسول الاعتراف بثوراتهم !! ..
ولم ينتج الربيع العربي في ليبيا سوى “مصطفى العبد الذليل” الليبي والانقلات الأمني الرهيب وغير المسبوق حاليا .. فيما لم يكن هناك مفكرون اسلاميون من وزن المفكر الصادق النيهوم الذي كان قادرا على قيادة ثورة فكرية تقود الجمهور الغاضب.. وفي كل ثورة مصر لم نسمع بمرجعية ثورية واحدة ..سوى شاب عشريني يسمى وائل غنيم ، ومحام سلفي قطع اجتماعا في (برلمان الثورة) ليؤذن في الناس أذان العصر ومحامين متطرفين تفرغوا لملاحقة مشاهير الكتاب والفنانين وعلى رأسهم العملاق عادل إمام، ولم يسلم منهم العملاق نجيب محفوظ في قبره!!.
والفجيعة كانت أن كل هذه الثورات تتبع مرجعية قطرية خليجية مدججة بالزعران والمجانين وصغار الكتاب الذين كانوا أكثر أمية من الدهماء في شوارع الثورات ، وأكثر عددا من المتظاهرين في أحياء الثورة السورية.. وكانت هذه الثورات مجهزة بقاذفات الفتاوى الدموية الرديئة المخجلة والخالية من الانسانية والمليئة بالاسرائيليات والأساطير. ..
في كل يوم يحاول “فقهاء” (الربيع العربي) حل هذه المعضلة والاشكال عبر ضخ أسماء عديدة ومنحها ألقابا مفخمة من باحث الى أستاذ العلاقات الى بروفيسور الى رئيس مركز الى محلل استراتيجي .. الى ..الى ....والحقيقة هي أن صناع الثورة والمدافعين عنها يحاولون تجاوز هذه المعضلة الحقيقية خاصة بعد انهيار أسطورة المفكر العربي عزمي بشارة واحتراقه حتى التفحم .
< < <
عزمي بشارة هو الوحيد الذي لعب دور فيلسوف الثورة والربيع العربي باتقان.. كان مفوها وكان في منتهى الدهاء فهو يوصف الثورات وأمراضها بمكر ، وكان من الخبث لدرجة انه لامس الوجع الاجتماعي العربي وجعل الناس تنسى أنه كان عضو كنيست اسرائيلي و مدير الأبحاث في معهد فان لير الاسرائيلي في القدس.... والأكثر من ذلك أنه أنسى الناس أنه المفكر الذي يعيش في كنف اللافكر وتحت ابط الانحطاط الأخلاقي والثقافي وتحت رعاية أكثر الأنظمة العائلية الوراثية جهلا وقمعا .. وبعد تلك المقابلة المهينة مع أخيه علي الظفيري وتوسلاته بتجنب الأردن في منظر صدم كل من شاهده ، رأى الناس احتراق الفيلسوف الوحيد لثورات ( الربيع العربي) كبئر نفط وقعت عليه كتلة من اللهب.. ولم تتمكن قناة الجزيرة وكل المعارضات العربية من انقاذ حريق الفيلسوف رغم كل سيارات الاطفاء.. الفلسفة قد تسقط لكن لاتحترق.. والفلاسفة قد تحترق أجسادهم لكن لا تحترق أقوالهم وقاماتهم.. واحتراق الفيلسوف يدل على تفاهة قيمه وأنه مجرد ثرثار يردد مقولات الفلاسفة.. وعزمي كان يحترق بشدة وتنطلق منه غمامة كثيفة سوداء كاحتراق الفوسفور المتوهج على أجساد أطفال غزة.. وسط دهشة الجميع وانفغار الأفواه المذهولة.
قللت قناة ( الجزيرة ) من حضور الفيلسوف المحترق لكنها عجزت منذ تلك الحادثة عن تصنيع فيلسوف آخر وكانت كل محاولاتها لنفخ الأبطال والمفكرين تصطدم بعقبة غريبة.. وهي .. أنه يمكن لما تسمى ( ثورات الربيع العربي) أن تنتج مقاتلين ومتظاهرين وراقصين في الطرقات ومصورين وممثلين على اليوتيوب ، لكن يستحيل انتاج فلسفة أو خلق فيلسوف.. لسبب بسيط أنها ليست ثورات طبيعية وليست ثورات قائمة على تطور منطقي يصنعه جهابذة فكر وعصارات عقول المجتمعات.. فالثورة عادة تأتي بعد نهوض الفلاسفة واضاءاتهم وزرعهم البذور واختمار أعنابهم.. أما أن ينهض الفلاسفة بعد الثورات فمحال..ومستحيل..والأكثر استحالة أن تنتج ثورة فلسفة ..لأن الفلسفة هي التي تنتج ثورة.. ولذلك انتبه الاستاذ الكبير محمد حسنين هيكل الى هذه الحقيقة وحاول انقاذ ثورة عبدالناصر بحقنها بالفلسفة.. فكانت محاولات اطلاق فلسفة الثورة التي نجحت نسبيا لسبب واضح وهو أن ثورة عبدالناصر تميزت أنها لم تكن دموية ولم تكن ثأرية ..لكنها كانت تعكس اضاءات فلسفات أخرى مجاورة في الهند (اللا عنف للمهاتما غاندي) وفي روسيا (الاشتراكية).. وكانت تالية لانكسارات وحطام الامبراطوريات الكبرى بعد الحرب العالمية.
المعارضة السورية حاولت نحت شخصيات رمزية وقدمت برهان غليون بطريقة دعائية صارت عبئا عليه وعبئا علينا فهو رئيس مركز دراسات الشرق المعاصر وهو مؤلف وهو بروفيسور سوربوني وهو كل شيء.. لكن أداءه الرديء وتناقضاته الفجة مع ماكتب في السابق طوال عقود ضد الاسلاميين لم يجعله مفكر الثورة ولافيلسوفها ..فمن غير الممكن أن يكون غليون فيلسوف الثورات الدينية وهو من خرق المفاهيم الاسلامية وسفّه تياراتها عملا وقولا وكتابة.. علاوة على ذلك فان الفيلسوف هو من يرفض الانضواء في قيادة الثورة بل يغذيها ويضيئها.. لكن غليون بدا صغيرا وضئيلا وهو يستمتع بلقب الرئاسة لمجلس لاقيمة له ..وبدا أن أقصى طموحات الفيلسوف هو السير على سجاد أحمر وامضاء الأيام في الفنادق الفخمة والحديث الى كل الفضائيات وقطف النجومية الاعلامية ولقاء مذيعات العرب وليلى وخديجة وبسمة و و..
ولذلك لوحظ أنه بعد توليه رئاسة المجلس الوطني السوري طارت عنه صفاته العلمية الخارقة فجأة وذابت توصيفات عبقرياته وانجازاته الفكرية وتحول من مفكر وفيلسوف للشعب السوري وثورته الى رئيس مجلس معارض ينتظر راتبه الذي ياتيه من أمير قطر، وتجديد عقد عمله شهرا بشهر.. وكان سقوط كل صفاته العملاقة التي أسبغت عليه هو نتيجة منطقية لأن كل ما منح له من صفات كان مثل باروكة وألبسة واقنعة مسرحية طارت مع عاصفة مواجهة الميدان الفكري للفلسفة الثورية ..فانكشفت صلعته بعد ان اقتلعت الريح الباروكة التي وضعتها له قناة (الجزيرة).. ولن يجديه بعد اليوم الهرولة خلفها ..فلن يظفر بها في هذه الرياح العاتية التي لاترحم ..وربما كانت غلطة عمره لأنه انخرط شخصيا في العمل السياسي بدل بقائه بعيدا كرمز فكري وملهم للثورة.. وكان من الممكن أن يكون في مرحلة ما ضمير الثورة وأن يوصل الجميع اليه كأب فكري للثورة.. لكنه ولغياب عبقرية الفيلسوف وسطحيته الفكرية قبل أن يستعمل كالغطاء لوجه الثورة الديني.. وقبل بالعمل لدى أعرابي جاهل مثل حمد بن جاسم ..وبالعمل لدى هيلاري كلينتون بوظيفة مصطفى العبد الذليل ..باسم برهان الفيلسوف الذليل...
ومن سوء طالع الثورة السورية انه لاتوجد اسماء أخرى يمكن تصنيعها لملء الفراغ.. والسبب هو غياب أي فكر خلف هذه الثورة.. ولكن السبب الأهم كما أعتقد هو أن الفلسفة الحقيقية للثورة والفلاسفة الحقيقيين للثورة ليسوا في صفوف الثوار بل في أعضاء مجلس الأمن الغربيين.. وبنبش المزيد من الأتربة التي تغطي وجه هذه الثورة سنصل الى مفكر الثورة وفيلسوفها الرئيسي وهو الفيلسوف برنار هنري ليفي ..وفلسفة ثورته هي في الحقيقة اللجوء الى التدمير الذاتي للقوى الاجتماعية العربية عن طريق اطلاق التمرد الشعبي وحرمانه من الفكر الذي يوجه سديميته.. فيتحول الى فوضى يتحكم بها فلاسفة الثورة الحقيقيون في الغرب وعلى رأسهم ليفي نفسه..
بالطبع مايثير السخرية الشديدة هي الثورات المدججة بالهزال الفكري والقحط والتي تشبه مواليد المجاعات الافريقية ..ويكفي الاستماع للفيلسوفة رندة قسيس مثلا وتعذيبها للغة العربية وحروف الجر وارغام الفعل المضارع على أن يكون مجرورا من رقبته بالكسرة ومضموما الى فعل أمر !!.. بل اصرارها على اطلاق زخات العلم والمعرفة بالحرية حتى كدنا نظن أنها ابنة توماس مور.. ويكفي الاستماع للفيلسوفة فرح أتاسي ومرح أتاسي وكل رهط الأتاسي حتى نعرف الى أين وصلت بنا المآسي عبر فلسفة الأتاسي.. أما الاصغاء أو قراءة فيلسوف الثورة السورية الذي يرتدي قبعة “ايمانويل كانت” أي - محمد عبدالله - فيوحي أن الفلسفة تمر بأزمة نفسية خطيرة خاصة عندما نقرأ تحليله لأسباب الفيتو الروسي الأخير.. فقد كدت أقوم من جلستي لأصفق له لأنه الوحيد الذي هزم دونالد رامسفيلد ..لأنني لم أفهم كلمة واحدة مما قال وذكرني ماقاله هذا الفيلسوف بما قاله دونالد رامسفيلد عن المجهول والمعلوم عندما قال: “هناك أشياء نعرف أننا نعرفها، وأشياء نعرف أننا لا نعرفها، وأشياء لا نعرف أننا نعرف أننا نعرفها، وأشياء نعرفها ولكن لا نعرف أننا نعرفها»..
ولا أبالغ ان قلت ان ماقاله رامسفيلد أكثر ثراء من مقالة محمد عبدالله عن الفيتو الروسي.. وأنصحكم بقوة أن تتجنبوا قراءة ماكتبه فيلسوف الثورة السورية (نسخة ايمانويل كانت) محمد العبدالله لأنه مقال شديد الثقوب والعيوب والرتوق والفتوق والرقع الفلسفية كما تعودنا منه.. وقد تنفتقون ضحكا.. ولا رتق لمن ينفتق فتقا فلسفيا..ثوريا..
في غياب مفكري الثورة الكبار وفلاسفتهم العقلاء وفلسفتهم تجد أن الجماهير العربية تعيش أقصى حالات التعتيم والظلام والتوهان.. لدرجة أن مثقفين كثيرين ومتعلمين وليبراليين ومهاجرين في مؤسسات علمية من أطباء ومهندسين يساندون الثورات دون أن يواجهوا أسئلة فلسفية مخيفة .
كيف لثورات يقودها النظام القطري العائلي الوراثي أن تساعد الشعوب العربية على تحقيق الحرية والديمقراطية و مكافحة التوريث وإسقاط الإنظمة العائلية؟ وكيف يمكن لمن اقتحم الفلوجة العراقية بالسلاح الكيماوي وارتكب الفظائع وأكل لحوم البشر فيها، وروى مياهها الجوفية بالمواد المسرطنة.. كيف له أن يبكي على مدينة حمص السورية المحشوة بالمقاتلين المغرر بهم والقتلة والمرتزقة الاجانب حيث أصبح قادة دول الحلف الاطلسي يضغطون على روسيا والصين للموافقة على قرار في مجلس الامن الدولي يسمح بفتح (( ممرات انسانية آمنة )) لانقاذ ارهابيي تنظيم القاعدة و المرتزقة الاجانب العالقين في أوكارهم المحاصرة بريف حمص وريف أدلب وإعادتهم الى حيث أتوا ؟ .
وكيف يمكن لسلاح بلاك ووتر الذي أحرق الفلوجة العراقية السنية عام 2004م أن يتسلل الى حي بابا عمرو في حمص عام 2011م ويغرقه بالمجازر والمحارق ، قبل أن تتمكن القوات السورية من تحرير هذا الحي وتخليصه من ارهابيي تنظيم القاعدة ومرتزقة حلف الناتو ومشيخات النفط بملحمة بطولية تتوجت بالاستيلاء على هذا السلاح الاسود ، والقبض على عدد كبير من الارهابيين العرب والمرتزقة الاجانب الذين كانوا يقاتلون الجيش السوري تحت مسمى ( الربيع العربي) ؟ ،، وكيف نصدق أمريكا التي تبكي اليوم على حمص وهي بالأمس حولت الفلوجة “السنية” الى هيروشيما الشرق..؟؟ كيف نصدق هذا الغرب الأطلسي الاستعماري في بكائه على حمص وهو منذ أشهر قليلة أمسك غزة من عنقها لتذبح على أيدي الجيش الاسرائيلي.. وثبت أيدي وأرجل لبنان على الأرض كي تتمكن اسرائيل من ذبحه ؟!!
في غياب مفكري الثورة تجد أن ليبراليين عربا وسوريين ملؤوا صفحات الانترنت بالشعارات الثورية وأعلام الثورات وصور اليوتيوب دون تبين.. اليوتيوب الآن ـــ بكل مافيه من فقر توثيقي وفبركات ـــ هو من يقود النخب المثقفة ، لأن الصورة ـــ وغالبا ما تكون مفبركة ومأخوذة من ارشيف قديم ومختلف ـــ لا الفكر ولا المفكرين هي من يحرك العقول عندما تغيب الفلسفة والمنطق والمنهج العقلي.. ولم تسأل هذه النخب ان كانت الثورة تضرب ــ بفعلها الثوري ـــ الانابيب والمنشآت النفطية للبلاد ، وتحطم خطوط نقل الكهرباء، وتحرق المعامل وتصيب آلاف المصانع والشركات العامة والخاصة بالافلاس ، وتزيد من أعداد الشباب العاطلين عن العمل بعد تسريحهم من العمل في الشركات والمصانع التي أغلقها مالكوها بسبب الافلاس، وتنتقم من النظام بقتل جنوده وموظفيه وعماله وافقار الشعب الذي تتحدث ثورات ( الربيع العربي) باسمه ؟!!
وفي غياب الغطاء المنطقي الفكري للثورة لايسأل هؤلاء أسئلة سهلة مثل : اذا لم تؤيد منطق الارهابي الاخواني السوري الشهير بالشيخ العرعور .. فلماذا لاتدينه علنا وتطلب ابعاده من عضوية المجلس الوطني؟ وكيف لرجل مزواج مطلاق .. كل صوره السعيدة مع الملوك و الزعماء العرب وهم يستقبلونه بحفاوة ويبارك حكمهم (وهو القرضاوي) أن يكون ملهم الثوار ولينينهم؟
بل وفي غياب العامل المنطقي لانستغرب أن وصل الأمر ببعض المهرجين الناطقين باسم الثورة أن يرفعوا علم نظام الانتداب الفرنسي الاستعماري في سوريا بدلا من علم الاستقلال والوحدة، وأن يستبدلوا السيد حسن نصر الله باسرائيل..ويصل الامر أن علم اسرائيل يرفع في حمص ويتسلل متحدث ثورجي عبر قناة الحرة لطلب تدخل اسرائيل من اجل حماية الشعب السوري في حمص.. فقر المنطق هنا أبقاه جلدا على عظم.. فالتخلص من نظام الحكم في سوريا وغيرها من البلدان التي ابتليت بثورات ( الربيع العربي ) أصبح كافيا لتبرير بيع وطن ، واستجداء التدخل الاجنبي عند هؤلاء الثوار.
الديكتاتوريات التي ترحل لا يؤسف عليها لكن مايؤسف عليه هو أن هذه الثورات تشبه فارسا مقطوع الرأس.. انه فارس مخيف بلا ملامح ..وبلا حياة.. جثة تتنقل من بلد الى بلد على متن راحلة قطرية ، فيما هي تتعفن وتنشر الوباء والطاعون النفسي والأخلاقي.. والذباب والدود والموت والاستعمار الجديد.. ولذلك لن نقول “فهاتوا برهانكم ان كنتم صادقين”.. بل خذوا “برهانكم” وثوراتكم وربيعكم ( العربي ) ان كنتم صادقين مع أنفسكم.. وارحلوا.