ويرى البعض أن من حق المسلم أن يحتج بالشريعة فى البلاد التي تَنُصُّ دساتيرها على مرجعية الشريعة، وأنه لا يرفض ذلك سوى المعادي للإسلام.
بينما يرى البعض الآخر فى هذا التترُّس السياسي خلف الشريعة نوعاً من الانتهازية التى تمسّ قدسية الشريعة، لذلك فهو يطالب بفصل الدين عن السياسة.
وعند تأمُّل طرح الطرفين يلوح جانب فكري وإشكالية أخلاقية..
أمّا الجانب الفكري فهو اختلافٌ بين مدرستين:
المدرسة الأولى: ترى أن مقتضى الإيمان بالله أن نمتثل أوامره فى جميع شئون حياتنا، ويستدلُّ أصحابها بآيات من القرآن الكريم كقوله تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا».
المدرسة الثانية: ترى فصل الدين عن الدولة وتقدِّم أربعة أسباب رئيسة لهذه الرؤية:
1 - أن الشريعة تشتمل على تنوّع فى الآراء واختلاف فى الاجتهادات تسمح لكلّ طرف بالاحتجاج بما يناسب رؤيته ممّا يوجد معتركاً يمكن أن يُفسد انتظام العمل السياسي تحت مُسمّى الدين.
2 - أن للدِّين قدسية فى النفوس تُحوِّل التنافس السياسي إلى مواجهة مُزيّفة مع الدين.
3 - استحالة انتظام الحياة بتطبيق منهج مضى عليه أربعة عشر قرناً تغير العالم خلالها تغيراً جذرياً.
4 - وجود غير المسلمين فى بعض هذه البلدان مما يجعل من إلزامهم بأحكام الشريعة نوعاً من الظلم.
والتعامل مع هذا الاختلاف الفكري يكون بتحقيق أوجه الاختلاف على النحو التالي:
1 - التنوع المذكور فى المسائل الاجتهادية له ضوابط منهجية تُتيح للدولة حق اختيار الاجتهادات المناسبة للزمان والمكان ضمن عملية التقنين لتكون مُلزِمة لجميع الأطراف فى فصل المنازعات، فلا يُقبَل احتجاج من يرفضها باجتهادات شرعية أُخرى.
2 - ليس لأي إنسان بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حق العصمة، بحيث تصبح مخالفة فهمه لمسألة اجتهادية مخالفة للدين، كما أن المسائل القطعية محددة ومحدودة، والاحتجاج بجهل الناس بذلك لا يختلف مُنطلقه عن الاحتجاج بعدم مناسبة الديمقراطية لهؤلاء الناس، والجواب عنه بأن الحلّ يكمن فى توعية الناس وتعليمهم.
3 - مراعاة تغيّر الأزمنة، وحتى الأمكنة، جزء من الشريعة ضمن منهجٍ مُقرّر للاستنباط، فلا يُعرقل تغيّرُ الزمان مرجعيةَ الشريعة، غير أن المعضلة تكمن فى قصور فهم كثير من المتدينين لمتغيرات الواقع، وتصدّر غير المؤهلين للفتوى ممّا قد يُشعر بجمود الشرع المصون.
4 - الشريعة قد قررت حق احتكام غير المسلمين إلى شرائعهم التى يمكن الاتفاق معهم على تقنينها بحيث يتم ضبط تعاملاتهم وأحوالهم الشخصية وفق مقتضاها، وهذا ما نجح تطبيقه بالفعل فى مراحل مختلفة من التاريخ؛ ثم إنّ القوانين المعاصرة يُقررها الأغلبية شريطة عدم الإضرار بحقوق الآخرين وذلك فى حالة الالتزام بالإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وهو ما لم تلتزم به كثير من الدول المتقدمة فى عصرنا.
وأما الإشكالية الأخلاقية:
فهي تكمن فى تعامل البعض مع الشريعة بوصفها وسيلة لتبرير مواقفهم السياسية، مما يجعل المخالف السياسي يبدو وكأنه محارب للشريعة، وهذا ما يضعه فى موقف ضعيف أمام منافسه السياسي، فيلجأ إلى المطالبة بفصل الدين عن السياسة لضمان عدم استغلال الدين فى حسم المعركة السياسية.
وهذه الإشكالية هي التى ينبغى التوقف معها بجديّة وحزم، فإن الشريعة المطهرة تُلزم من اختار اتّباعها بالانضباط الأخلاقي فى مواقفه وتجعل ذلك معياراً لصحّة تدينه وكمال إيمانه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري: «أربعٌ من كُنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمنَ خان، وإذا حدّثَ كذب، وإذا عاهدَ غدر، وإذا خاصمَ فجَر».
فمن التزم بعقد اجتماعي غير مخالف للشرع فلا يجوز له أن يعدل عنه إلى اجتهادات أخرى ولو كانت صحيحة النسبة إلى الشريعة عند بعض أهل العلم.
ومثال ذلك أنه إذا تراضى الناس على آلية سياسية معينة لتسيير نظام الدولة تتيح لهم المطالبة بتغيير حكوماتهم، فلا يجوز العدول عنها إلى أقوال الفقهاء المتعلقة بالنهي عن الخروج على الحاكم المُبايَع، وذلك لاختلاف صورتي العقد الذى بين الحاكم والمحكوم، وإلا أصبح ذلك نقضاً للعهد الذى بموجبه تمّ انتخاب الحاكم، بل يعتبر هذا العدول عن العقد الاجتماعي بذريعة الشريعة تحايلاً على الشريعة، وتكون دعوى الاحتكام إليها وسيلة لتبرير المواقف التى اتخذها هذا الفريق أو ذاك لترجيح كِفّته فى ميزان السياسة، وهذه جريمة كبيرة قد تُقاس بجريمة الاستهزاء بآيات الله تعالى.
وهنا ينبغى تقرير هذا المبدأ:
(المقصود من تحكيم الشريعة: أن «تُقرّر» الشريعة مواقفنا لا أن «تُبرّر» الشريعة مواقفنا).
فالترتيب الصحيح فى تحكيم الشريعة هو: معرفة الواقع، ثم معرفة حكم الشرع فيه، ثم ترتيب المواقف على أساسه.
وهذا يختلف عن ترتيب من ينظر إلى الواقع، ثم يحدد ما يراه مناسباً لاختياره، ثم يبحث فى الشريعة عن نصٍّ أو اجتهاد يُبرّره، ثم يضرب منافسه بسيف الشريعة وكأنه قد خالفها.
وهنا يأتي من يقول إن هذه متاهة غير مأمونة العواقب وأن قابلية الشريعة لهذا النوع من التلاعب تُعرِّض المجتمع إلى خطر الاقتتال أو الظلم أو تبرير الاعتداء، لذلك ينبغى أن نُنحي الشريعة جانباً ونُقيم حياتنا على أساس القانون المجرد تجنباً للتلاعب.
والحقيقة أن هذا السؤال له وجه من الاعتبار لولا أن الشريعة لا ترفض تقنين أحكامها وفق الاجتهادات الفقهية التى تتوافق مع طبيعة الزمان والمكان كما ذكرنا، لكن السؤال الذى يُطرح حينئذ هو: هل استطاع القانون أن يسلم من التلاعب على نصوصه واختراق ثغراته أم أنه يقع تحت نفس الطائلة؟ أوَلم يُسجَن العديد من الأبرياء بالقانون نفسه؟ أوَلم يلجأ القضاة فى بعض الحالات إلى روح القانون لعدم اطمئنان نفوسهم إلى عدالة تطبيق نصّه؟ أولم يتحدد مصير الكثير من المُتهمين بدهاء المحامين وخبرتهم بدهاليز القوانين؟
والسؤال الأكبر هو: هل استطاع فكر أو منهج وضعي أن يُفلِت من إمكانية استغلاله لتبرير تصرفات البشر وإعطاء المشروعية لرغباتهم وأطماعهم؟
ألم تُشنّ الحروب التى دمّرت دولاً وقتلت أعداداً هائلة من شعوبها وشردت أخرى على أيدي أنظمة ديمقراطية وتحت مُبرِّر نشر تعاليم الديمقراطية تحقيقاً لأطماع الرأسمالية الغربية؟
ألم يُقتَل ما يزيد على أربعة وعشرين مليوناً من شعوب الاتحاد السوفييتي تحت مبرر تطبيق تعاليم الماركسية الملحدة تحقيقاً لأطماع قيادات الحزب الشيوعي؟
ألم تقتل الحرب العالمية الثانية ما يزيد على السبعين مليون إنسان وكانت جميع أطراف النزاع فيها دولاً علمانية فصلَت الدين عن الدولة؟
إذاً أين تكمن المشكلة؟
من الواضح أن المشكلة لا تتعلق بالمناهج والمعتقدات وحدها، ولكنها تتعلق بشكل أساسي بالإنسان الذى يُطبقها على أرض الواقع، فإن كان صادقاً مع نفسه مُنصفاً للآخرين منها، استتبّ الأمر واستقر النظام بالعدل.
نقل الشيخ تقي الدين ابن تيمية رواية: «إنّ الله يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة».
وسمع عمرُو بن العاص من المستوردِ بن شدادَ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس». فقال له عمرو: أبصر ما تقول!
فقال المستورد: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عمرو: لئن قلت ذلك، إنّ فيهم لخصالاً أربعاً:
إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظُلم الملوك. رواه مسلم.
وفي هذا المقام جاءت شريعة السماء مؤسِّسَة لمفهوم أوسع وأدق وأعمق وهو أن الفلاح متوقف على تزكية النفس، وبدون الاعتناء بتزكية نفس الإنسان لا يمكن لأي نظام، ولو كان مُستنبَطاً من الشريعة الإسلامية، أن يُحقق السعادة للأُمّة. قال تعالى: «ونَفْسٍ وما سوَّاها فألْهَمَها فُجورَها وتَقْواها قد أفلحَ مَن زكّاها وقد خابَ مَن دسّاها».
فالشريعة نصوص لا يُفعّلها على أرض الواقع سوى صدق التزام الإنسان بها، وذلك هو الأصل الذى تكون القوانين وأنظمة الحكم خادمة له، وبدونه لا يختلف تطبيق الدول للشريعة عن أى منهج وضعي آخر.
قال النبي المعصوم المؤيَّد بوحي السماء صلى الله عليه وآله وسلم مُرسِّخاً لهذا المفهوم:
«إنكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضَكم أن يكون ألحنَ (أفصح) بحجّته من بعض، فأقضي له على نحوٍ مما أسمع منه، فمن قطعتُ له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه فإنّما أقطع له به قطعة من النّار». رواه البخاري ومسلم.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكِّها أنت خير من زكّاها أنت وليها ومولاها.