قدم فى المؤتمر أربعة عشر بحثاً، غطت تيارات الفكر الإسلامي المختلفة، وموقعها من حركة النهضة العربية، وموقع تيارات التجديد الديني فيها. وخصصت جلسة بأكملها لتحليل أفكار وتوجهات الإخوان المسلمين بالذات إزاء قضايا الحكم، فى حين خصصت الجلسة الأخيرة لتقييم التجربة الإسلامية على أرض الواقع تشريعياً وتنفيذياً وإعلامياً واقتصادياً.
كان الموضوع الذى طلب منى معالجته هو «المصلحة السياسية فى سلوك الإخوان المسلمين»، فنوهت فى البداية بأن تحقيق المصالح هو الهدف الأساسي والمنطقى لأى سياسة، لدولة أو لحزب، أي إن البحث عن المصلحة أمر منطقي ومشروع تماماً، وهو ما عبر عنه بأوضح شكل الفيلسوف الإيطالي مكيافلّي فى القرن الخامس عشر، الذى تلخصت أفكاره فى تحقيق الأهداف السياسية والمصالح السياسية، وتبرر أي وسائل يمكن اتباعها لتحقيق تلك الأهداف.
غير أن حساسية أو مغزى «المصلحة». إنما ترتبط بنسبتها إلى تنظيم دينى ودعوى مثل الإخوان المسلمين، ولذلك فإن علينا ابتداء أن نسلم بأن الإخوان هم أولاً وأخيراً كيان سياسي أو حزب سياسي بامتياز، ما يلزم معه نزع أي أوهام ترتبط بتوجهات مثالية أو مبدئية لديهم، أياً كانت شعاراتهم التقليدية المعلنة!
من هذه الزاوية ارتبطت «المصلحية» بتاريخ الإخوان المسلمين وسلوكهم السياسي منذ لحظة مولدهم الأولى فى الإسماعيلية على يد الإمام حسن البنا، فلقد بدأ البنا دعوته من مسجده فى الإسماعيلية، الذى أنشأه بدعم من شركة قناة السويس البريطانية، التى ذكر البنا فى رسائله إلى والده -التى نشرت فيما بعد- أنه تسلم منهم ثمانمائة جنيه على دفعتين، وهي الرواية التى دققتها المصادر الموثقة!
وإذا كان الإنجليز قد دعموا «حسن البنا» فى بداية دعوته، فقد استمر الأمريكيون (الذين ورثوا النفوذ البريطاني عقب الحرب العالمية الثانية) فى دعم الإخوان بعد حسن البنا، فى سياق معركتهم ضد «الشيوعية الدولية». وكما ذكرت من قبل، فإن علاقة الإخوان المصلحية بالأمريكان تأسست بشكل خاص من خلال القيادي الإخواني البارز سعيد رمضان، الذى ساعده الأمريكيون على بناء المركز الإسلامي فى ميونخ بألمانيا، ليصير أحد أهم معاقل الإخوان فى أوروبا.
من ناحية ثانية، فإن «المصلحية» السياسية الإخوانية تبدت أيضاً فى حقيقة أن «النشاط» السياسي كان هو المحور فى حركة الإخوان المسلمين، وابتعادهم عن القضايا الفكرية والثقافية العميقة للعالم الإسلامي، ما حفل به هذا العالم من إسهامات وإبداعات نظرية، ونظرة سريعة إلى أهم ما تحمله المكتبة العربية والإسلامية من فكر وإبداع، لا نجد اسماً إخوانياً لامعاً! فصاحب «على هامش السيرة» و«الشيخان» هو طه حسين، الليبرالي، وصاحب «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» و«ظهر الإسلام» هو أحمد أمين، الليبرالي، وصاحب «محمد رسول الحرية» هو عبدالرحمن الشرقاوي، اليساري، وصاحب «محمد رسول الله» محمد حسين هيكل، الليبرالي، وصاحب «العبقريات الإسلامية» هو العقاد، الليبرالي... إلخ.
غير أن «المصلحية السياسية» للإخوان تبدت على الصعيد العملي فى أكثر من مظهر، كلها توحي بأن أهم رصيد للإخوان إنما يتمثل فى القطاعات الأكثر فقراً، والأكثر أمية فى الشعب المصري، التي تتراوح نسبتها بين 30 و% 40 من السكان، والتى تجتهد الآلة الدعائية الانتخابية الإخوانية فى حشدها وتعبئتها فى المواسم الانتخابية، على نحو يجعل من الهدايا والعطايا التي تقدم للفقراء رشوة انتخابية، وليست عملاً خيرياً لوجه الله تعالى!
ولكن هل هناك ما هو أكثر دلالة على «المصلحية السياسية»، أو قل الازدواجية الفجة في سياسات الإخوان من تلك اللغة المزدوجة في التعامل الراهن مع إسرائيل، ومع القضية الفلسطينية؟ فمع الإسرائيليين -ومن خلال الأمريكيين بالذات، وفي الغرف المغلقة- يبدي الإخوانيون ولاءهم وطاعتهم الكاملة، أما في المؤتمرات الجماهيرية الحاشدة فالهتافات تتعالى متوعدة إسرائيل والصهيونية بالضرب والانتقام، وتدبج الخطب العصماء التي تعد الجماهير المتحمسة بالزحف إلى «القدس» بالملايين، وسط اللعنات على إسرائيل والكيان الصهيوني! وهل هناك أدل على هذه الحقيقة من حالة الأمان شبه المطلق التى تنعم بها إسرائيل الآن، فى حدودها مع قطاع غزة، التى تقطعها بين الفينة والأخرى طلقة هنا أو صاروخ هناك لتوحي وكأن هناك شيئاً يحدث؟!
غير أن المفاجأة الثقيلة التى أعدها لنا الإخوان كانت هس الفشل الذريع الذى أبدوه فى إدارة شئون الدولة فى مصر، والذى فاق كل التوقعات، حيث فوجئ الجميع (وفوجئت أنا شخصياً برغم متابعتى للمسألة الإخوانية) بحالة الإفلاس التي بدوا عليها فعلياً (مثلما توقع الكثير من عقلائهم!)، التي تبدت ليس فقط في غياب الرؤية أو السياسات (مشروع «النهضة»!)، وإنما أيضاً في الافتقار إلى الكوادر والقيادات الملائمة. وإنه لأمر يثير الحزن والألم أن نقارن مثلاً بين آخر الحكومات في عهد الرئيس المخلوع حسنى مبارك وبين الحكومة الإخوانية الحالية، لندرك أي انتكاسة تعاني منها اليوم مصر، وأي انحدار وصلنا إليه!
كان ذلك هو مضمون البحث الذي قدمته في ندوة أبوظبي، وكان محلا -بالطبع- لقبول أو رفض سواء من زملائى المتحدثين على المنصة (د. عبدالحميد الأنصاري، الأستاذ بجامعة قطر، ود. ثروت الخرباوي، ود. فخر أبوعواد، الأستاذ بالجامعة الإسلامية في غزة، ود. حسن حنفي) أم من الحاضرين في القاعة. تبقى ملاحظة طريفة (إذا جاز هنا هذا التعبير)، تتعلق بأستاذنا الجليل د. حسن حنفي، الذي كان غاضبا أشد الغضب مما اعتبره تحاملاً على الإخوان المسلمين، ثم عاد إلى القاهرة ليجد نفسه مطارداً بشائعة أن مجمع البحوث الإسلامية اعتبره خارجاً عن الدين، وصادر كتبه، ثم ثبت أن المسألة أهون من ذلك، وتتمثل فقط فى أن «المجمع» لم يوافق على كتاب واحد للدكتور حنفى وليس كل كتبه، ولم يعلن -والحمد لله- أن د. حنفي خارج عن الإسلام، كما تضمنت الشائعة!