أن ترفع سكينك و تستلها بلا رحمة, وأن تعيد ترتيب احترامك المطلق للأشياء فــظاهرة الفقدان من حولنا مازالت كبيرة وإن إحراز أي تقدم في مضمار الحياة لا يعد سوى مزايدة على جنون اللحظة نفسها .
في لحظة نقاش مريرة تكتشف أنك مازلت ذلك الواعظ والزاهد الذي مازال يوزع خارطات الأمل بين الأصدقاء , ذلك المهذب الذي ينطق بحروفه بتجلي كي يسكنها في ذاكرة الآخر لـــتبقى إيقاعها أكثر تأثيرا في تلك اللحظات .
تلتفت ولا تجد كل ما نطقت به سوى هراء لـــتصيبك فيما بعد لحظة خوف لا تنفك منها إلا لــترى و تتعرف على إيقاع المكان الأكثر مرارة من ذي قبل فالحياة تبدل إيقاعها , والقرية لم تعد تشبه سوى ماكوندو التي كتبها ماركيز ذات يوم بأنامله الخائفة من ليلها الموحش وعسكرها الذين يتهاوون على القادم من كل حدب وصوب ليصلبوه باسم القضية والحاكم والجنرال فتحولت في نظر ماركيز إلى قرية بائسة خذلها الزمن ولم تعد سوى مسرح يومي للجريمة والمبارزة بين الأقوياء والأوغاد..
يا له من ذهول أن تتحول ماكوندو إلى قرية ميتة في رواية حملت أكثر من عزلة , أكثر من فراغ إنساني وعاطفي وكوني رهيب ولم يكن يعلم ماركيز أن ماكوندو كتبت بــحروف من ذهب لتتحول فيما بعد إلى أشهر قرية في العالم بفضل حروف وأنامل ماركيز ..!
مائة عام من العزلة لا تشبه سوى مائة عام من الحروب الطاحنة التي عاشتها القارة الأمريكية , مائة عام من الخراب وسيطرة الأوغاد على شكلية الحياة العامة.
ومن عمق هذا الخراب ولدت كل المآسي , ولدت كل حالات القتل وفي الأخير شهدت القارة نفسها بداية ولادة القانون المدني .
ماركيز يشبهنا في كل شيء ولا نشبهه إلا في ممارسة طقوس الهذيان.
نعترف في لحظة استخفاف أن الزمن سرق منا لغة جميلة , سرق منا أصدقاء جميلين وكثر , سرق منا أوطاناً وثورات كثيرة, ولم يمنحنا سوى حياة مثقلة بالظروف التي تتوزع على القادم من أبوابها الصعبة لتمنحه حلماً مفرغاً إلا من البحث عن شكلية استقرار معينة كي يلحق ركب الآخر في أشد حلكة الحياة وظلمتها.
ماضون للأمام , ماضون للخلف وسلسلة الحياة وبرنامجها اليومي يسير بنا إلى مفترقات أصعب في التحمل كي نشعر بغصات القادم , كي نراجع دفاتر الأمس بكل تفاصيلها , لنرى نواميس الأيام تتساقط تباعا تباعا ونحن في حضرتها مازلنا مصلوبين , كي ننتظر من يلهمنا من جديد سيرة أخرى قادرة على استيعاب طبيعة كل مرحلة ومحطة زمنية نمر بها .
مزيجا من الاستعطاف , مزيجا من البكاء والأمل , مزيجا من القوة والهوان , مزيجا من حالة التقديس لـــصلابة الحياة وظروفها .
من يلهمنا كل ذلك , من يمنحنا طعم الحياة ومرها بإيقاع اقل من إيقاع الموت والغياب نفسه , من يمنح القادم والأيام حالة لمعان حقيقية ودون أي تزييف .
كل ذلك لم يحصل , وكل الذي يحصل معنا لا يعد أكثر من اختزال مرحلي وانعكاس لحالة عدم الاستقرار السياسي والبيئي والاقتصادي الرديء .
نحن مازلنا نعيش الزمن الرديء , زمن ولادة الأوغاد والسلالات المتسخة والتي تتسع وتتوسع في حياتنا لـــ نعرف في كل يوم أننا نعيش لحظات التراجع نفسها في الحب وفي الفقر والموت والتجلي والخوف والتمرد وحتى في حالة النشيج والبكاء لـــنعرف أننا مازلنا كائنات فائضة في الحياة والعيش على القانون البشري نفسه .