ومن هذه الآداب ما يتعلق بطبيعة الصلة بين الكبير والصغير، فيبذل الكبير للصغير الرحمة والاهتمام ويبذل الصغير للكبير التوقير والاحترام..
والرحمة والتوقير محلهما القلوب وهما أساس الغرس، بينما الرعاية والاحترام محلهما التعاملات وهما ثمرة هذا الغرس.. ولهذا قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا»، وفى رواية «ويُوقر كبيرنا»، وفى رواية «ويُجلّ كبيرنا».
ومفهوم الكبير مفهوم نسبي، فكل كبير صغير أمام من هو أكبر منه، وكل صغير كبير أمام من هو أصغر منه، وهو متعلق بالسن والمعرفة والتجربة والأخلاق..
ونحن أمام معضلة من معضلات عصرنا تتعلق بنظرة الصغار إلى الكبار، أو بتعبير أدق، تعظم المعضلة عندما يبدو الكبار أمام الصغار صغاراً..
ويمكن تلخيص أسباب هذه المعضلة في نقاط ثلاث:
١- أن يكون الكبار في واقع حالهم بالفعل صغاراً في نظرتهم أو تصرفاتهم.
٢- أن تكون نظرة الصغار إلى الكبار مشوشة بسبب انحراف نظرتهم إلى مفهوم الأدب أو اختلال تقديرهم للواقع.
٣- أن يوجد من يتعمد إظهار الكبار أمامهم صغاراً ليستفيد من هذا التشويش.
ولن أخوض هنا فى تفصيل الأسباب أو تأصيل مفهوم واجبات كل طرف، بل أود الحديث عن بعض النتائج المترتبة على اختلال أخذنا بهذا الهدي النبوي الشريف.
فقد قرأت مداخلتين فى الشبكة الاجتماعية لشابين يمثلان نموذجين من الشباب كل منهما متحمس للتغيير غاضب مما آل إليه الواقع..
أما النموذج الأول فقد كفروا بمفهوم النضال السلمي والحراك الشعبي والمفاهيم الليبرالية بعد أن اعتبروها مسئولة عن استيلاء «تجار الدين» على زمام الأمر فى بلدانهم واستغفالهم للمناضلين حتى يصلوا إلى الحكم ثم يسلموهم لرصاص الاغتيال وسياط الاعتقال.. فتضاءلت فى أعينهم قامات قياداتهم الوطنية وقيمهم، واحتقروا دعواتهم إلى التمسك بسلمية النضال، واعتبروهم ضعافاً فاشلين عاجزين عن مواجهة فاعلية «زمجرة» خطب التكفير وفتاوى إهدار الدماء، واعتنقوا أفكاراً مختلفة تبرر لهم العنف، فمنهم من انضم إلى جماعة «البلاك بلوك» ومنهم من عاد ليفتش فى أفكار اليسار المتطرف التي برر بها لينين وستالين جرائمهما!
وأما النموذج الثانى فقد كفروا بدعوى المواءمة بين الشريعة والديمقراطية وملّوا من استماع الحديث عن الحكمة وفقه الضرورة ومراعاة المصلحة وقدرة السياسة على تغيير الواقع واعتبروها مسئولة عن تطاول «الكفار العلمانيين» على الدين وأهله ونجاحهم فى عرقلة المشروع الإسلامي.. فتضاءلت فى أعينهم قامات قياداتهم الإسلامية وقيمهم، واحتقروا دعواتهم إلى المصابرة وضبط النفس واعتبروهم ضعافاً فاشلين عاجزين عن مواجهة فاعلية «تضليل» الإعلام الفاسد والمبادئ الهدّامة، واعتنقوا أفكاراً مختلفة تبرر لهم العنف، فمنهم من انضم إلى فكر «السلفية الجهادية والقاعدة» ومنهم من عاد إلى البحث عن «فتاوى ابن تيمية» التى يبرر بها المجرمون عملياتهم الانتحارية التى تقتل نساء الكفار وأطفالهم من خلال مقارنتها بالمنجنيق!
وهذه الحالة من اختلال النظرة إلى الكبار تُذكّر بنظرة قتلة سيدنا عثمان بن عفان وقاتل سيدنا علي بن أبي طالب إلى هذين الصحابيين الجليلين رضي الله عنهما..
فقد ورد أن محمد بن أبي بكر الصديق أخذته ردة الفعل الغاضبة من الظلم الذى كان الناس يعانونه من «رأسمالية» الولاة الأمويين الفاسدين الذين كانوا يوهمون الناس بأنهم ينفذون أوامر سيدنا عثمان رضي الله عنه، فلم يُنصت هذا الشاب إلى نصح سيدنا علي بالصبر، وانضم إلى الذين اقتحموا بيت سيدنا عثمان وابتدر لحية الشيخ الذى تجاوز الثمانين ليشدها، فنظر إليه سيدنا عثمان وقال له: «دع عنك لحيتي يا ابن أخي فوالله لقد كان أبوك يُكرمها» وقال له: «لا تكن أنت يا محمد»، أي من يرتكب جريمة القتل، فأفاق محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما من سكرة الاندفاع واستشعر معنى الحياء من الله فخرج ولم يشترك فى هذه الجريمة.
وكان بعض الخوارج الذين توهموا أنهم لمجرد كثرة عبادتهم وتلاوتهم للقرآن وأخذهم بمظاهر الالتزام قد أصبحوا أكثر قرباً إلى الله وأولى بأخذ زمام تحكيم شرع الله فارتكبوا أبشع الجرائم وهم يظنون بذلك أنهم ينصرون الحق والدين..
فتناقش ثلاثة منهم فى أمر الأمة وانقسامهما وأوصلهم فهمهم إلى أن الحل يكمن فى اغتيال القيادات الكبيرة التى يُحمّلونها مسئولية الخلاف، وتكفّل أحدهم بقتل معاوية بن أبي سفيان، والثاني بقتل عمرو بن العاص، وأما الثالث فقد تكفّل بقتل سيدنا علي بن أبي طالب، واختار الشقي عبدالرحمن بن ملجم اغتيال ابن عم رسول الله، لأن خطيبته وهى من الخوارج طلبت أن يكون مهرها قتل سيدنا علي كرّم الله وجهه؛ ففشل صاحباه فى مهمتهما بينما تمكّن هو من اغتيال أمير المؤمنين وهو يصلي بالناس الفجر فى جامع الكوفة..
هذه النزعة الدموية المظلمة كانت نتيجة لاختلال ميزان نظرة الصغار فى علمهم وتجربتهم إلى الكبار.. وهنا نصل إلى المقصود من المقال:
نحن فى عصر يعاني من خلل فى مفهوم العلاقة بين الأجيال يصل إلى ما هو أبعد من كونه انفعالاً غاضباً..
فهو متصل بمعاناة حقيقية متشعبة ومتراكمة يعيشها الشباب بسبب تقصيرنا تجاههم تجاوزت الواقع إلى عمق الثقافة والمفاهيم والقيم..
ومع الاضطراب الذي تعيشه منطقتنا يقدم البعض ممن يجلسون اليوم فى مقاعد الكبار على أن يستثمر كل طرف منهم آلام الشباب وآمالهم ليوظف غضبة الشباب من واقعهم فى سبيل انتصاره على الطرف الآخر، سواء كان ذلك تحت مبرر نصرة الإسلام وإحياء الخلافة أو دعوى الانطلاقة الثورية التي سوف تحرر الوطن من العقول الظلامية ليلحق بركب العصر..
وبالرغم من أن الفقير إلى الله مؤمن بأن المعركة محسومة لصالح الشباب والشباب وحدهم.. وذلك بعد أن يقدموا أثماناً غالية تفوق ما قد بذلوه، غير أن الطريق إلى تحقيق ذلك محفوفة بكثير من الخسائر القيمية..
فلا يفرحن من يجلس فى مقاعد الكبار اليوم بتحطيم كل طرف منهم لقيمة احترام الكبير الذى فى الطرف الآخر وتشجيع الشباب على تجاوز النقد والاختلاف إلى التعدي والازدراء والسب والقذف وتبرير ذلك لهم سواء كان ذلك التبرير باعتبارهم فى حالة جهاد مقدس ضد «أعداء الدين»، أم باعتبارهم فى حالة نضال وطني ضد «تجار الدين»..
والغريب أن كبار كل طرف يعتبون على شباب الطرف الآخر قلة أدبهم وعدم احترامهم للكبار واستخدامهم الألفاظ الخارجة والاتهامات البشعة!
وهذا الخلل الكبير سوف يؤدي إلى زيادة أعداد الشباب الذين يبدو أمامهم الكبار صغاراً.. فينضمون إلى ميادين العنف الثوري أو العنف الجهادي..
وأخيراً..
أيها الكبار.. حاوِلوا جاهدين أن تكونوا كباراً..
أيها الشباب.. احترام الكبير لا يعني إلغاء استقلالية القرار، واستقلالية القرار لا تعني هتك الآداب، وفّقكم الله وأعانكم..
(وقالتِ اليهودُ ليستِ النصارى على شيء وقالتِ النصارى ليستِ اليهودُ على شيء وهُم يَتلونَ الكتابَ كذلكَ قالَ الذينَ لا يعلمونَ مثلَ قَولِهم فاللهُ يحكمُ بينهم يومَ القيامةِ فيما كانوا فيهِ يَختلفون).
اللهم ارزقنا من العقول أوفرها، ومن الأذهان أصفاها، ومن الأعمال أزكاها، ومن الأرزاق أجزلها، ومن العافية أكملها، ومن الأخلاق أطيبها، ومن الدنيا خيرها، ومن الآخرة نعيمها، يا أكرم الأكرمين.