ولنتذكر كيف كان المصريون على قلب رجل واحد على مدى ثمانية عشرة يوماً من بدء ثورة 25 يناير التى أظهرت أجمل وأصدق وأطهر ما فى المصريين من خصال. تلك الثورة فى أيامها المجيدة التى عاشها المصريون فى ميدان التحرير وفى السويس والإسكندرية وكل ميادين مصر، وأثبتوا للعالم أجمع أنهم جديرون بمصر وحضارتها أم الحضارات. وللأسف فقد انقلبت الصورة فى الشهور الماضية، بخاصة منذ أعلن رئيس الجمهورية «المنتخب» إعلاناته «غير الدستورية» التى كشفت عن الطبيعة الديكتاتورية للحكم الجديد، فقد سادت الفوضى أنحاء البلاد واشتد الاقتتال بين المواطنين وميليشيات الإخوان المسلمين من جهة وبينهم وبين الشرطة من جهة أخرى.
وخلال الأيام منذ الخامس والعشرين من يناير 2013 يوم الاحتفال بالذكرى الثانية للثورة وحتى اليوم الثالث عشر من مارس سقط أكثر من مائة وعشرين شهيداً ومئات الجرحى والمصابين فى أغلب مدن ومحافظات مصر! وظهر بوضوح عجز الرئاسة أو عدم رغبتها فى التصدى بحزم للفئات المشاركة فى إفساد المشهد السياسى بإعمال القوة الباغية لفرض إرادة السيطرة وإنهاء هيبة الدولة والقضاء على حكم القانون، فقد هاجم أعضاء الميليشيات الإخوانية المتظاهرين السلميين أمام قصر الرئاسة «الاتحادية» وخطفوا المئات منهم وأعملوا فيهم التعذيب، وقُتل وأصيب الكثيرون منهم ولم تحرك الرئاسة ساكناً بل اتهمت الثوار المطالبين بإلغاء الإعلانات الدستورية المرفوضة شعبياً بأنهم «بلطجية»!
وتفجرت ثورة شعب بورسعيد البطل ضد أحداث مجزرة «استاد بورسعيد» وانتظروا حكم القضاء العادل ليفاجؤوا بأحكام الإعدام تطال واحداً وعشرين من أبنائهم وجلهم من الشباب وصغار السن الذين لم يبلغوا الثامنة عشرة. وبدلاً من محاولة احتواء غضبة الشعب البورسعيدى، إذ بالرئيس «المنتخب» يعلن حالة الطوارئ على محافظات القناة الثلاثة ويفرض حظر التجوال لساعات طوال، وما كان للشعب الباسل إلا أن يضرب بعرض الحائط قرارات الرئيس «المنتخب»!
واستخدم الحاكم «المنتخب» وزارة الداخلية وجهاز الشرطة أداة للبطش بالمتظاهرين فى كل المدن الثائرة فى محافظات مصر كلها، ومارست الشرطة بقيادة وزيرها الجديد أقصى درجات العنف والقوة المفرطة، وأعملت فى شباب مصر وشيوخها، بل ونسائها وأطفالها، القتل والسحل، وأطلقت عليهم سيولاً من الخرطوش والرصاص الحى وآلاف القنابل المسيلة للدموع التى تم استيراد المزيد منها من الولايات المتحدة الأمريكية فى وقت يهدد البلاد شبح الإفلاس.
وأصبح الشعب فى مواجهة الشرطة. وثار رجال الشرطة الشرفاء على استدراجهم لقتال أبناء وطنهم، وغضبوا لاستخدامهم أداة فى يد الحكم وأعوانه ضد خصومهم السياسيين، وقُتل وأصيب مئات من ضباط وأفراد الشرطة فى مواجهات مع تظاهرات الشعب الغاضبة، وكادوا أن ينجرفوا إلى صدام مع القوات المسلحة التى تم استدعاؤها لتنقذ الحكم المتردى من غضبة الشعب فى بورسعيد.
وكان قرار الشعب فى بورسعيد إعلان «العصيان المدنى»، بينما كان قرار رجال الشرطة إغلاق العديد من أقسام الشرطة والامتناع عن العمل، مؤكدين مطلبهم الأساس بإقالة وزيرهم ورفضهم أن يكونوا أداة فى يد الحكم للبطش بالشعب الثائر والمطالب بالقصاص لشهدائه.
والآن تبدو صورة الوطن قاتمة وأبعد ما تكون عما كان يأمله المصريون من ثورتهم المجيدة التى تم اختطافها فى «غزوات الصناديق» بداية من استفتاء 19 مارس 2011 مروراً بالانتخابات التشريعية لمجلس الشعب المنحل ومجلس الشورى المطعون عليه قضائياً والمتوقع أن يصدر حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية القانون الذى تم انتخابه وفقاً له إذا ما قُدر للمحكمة أن تصدر حكمها دون ضغوط أو إرهاب الحصار كما سبق، وانتهاءً بالانتخابات الرئاسية!
يبدو المشهد المصرى كئيباً أشد ما تكون الكآبة، فالمصريون يقتتلون ويُقتلون من أطراف متنازعة فيما بينها. والفوضى فى الحياة المصرية الآن هى القاعدة وليست الاستثناء. الشرطة غائبة، والقانون مهدر، والحكومة التى يصر الرئيس «المنتخب» على استمرارها فى حالة تفكك، فهى فاقدة القدرة على الفعل والتأثير فى المشهد المصرى البائس، وأيضاً فاقدة المصداقية لدى الشعب، وأكثر من هذا فالحكومة فاقدة الهيبة لدى الأطراف المتصارعة على تحويل مصر إلى «صومال» جديد! ولشد ما يدهش المرء تصريح منسوب لرئيس الوزراء فى تعقيبه على حادث حرق مقر «الوطن» الصحيفة، إذ ورد فى الأنباء أن د. قنديل «طلب من وزارة الداخلية سرعة القبض على المجموعة المجهولة التى اقتحمت مقر جريدة «الوطن» وقامت بتخريب محتوياته وإلقاء زجاجات المولوتوف»، وأضافت الأنباء أن قنديل اعتبر الاعتداء على جريدة الوطن بمثابة إرهاب صريح لوسائل الإعلام، الأمر الذى يرفضه بشدة ويدينه، «وأنه يجب وجود عقاب رادع للجناة، حتى لا يتكرر الأمر مع وسائل إعلام أخرى»، وتذكرنى تلك التصريحات المنسوبة لرئيس الوزراء بتصريحات سابقة أدلى بها بعد وقوع جريمة اغتيال 16 شهيداً من أبناء القوات المسلحة فى مذبحة رفح حين وعد بالكشف عن الجناة وتوعدهم بالعقاب الشديد.. الأمر الذى لم يتم حتى اليوم!!
واليوم تبدو الدولة فى حالة تحلل، فالرئاسة لا تخاطب الشعب ولا توضح للناس ماذا تخطط لاستعادة الأمن والأمان، وتترك الثائرين مستمرين فى ثورتهم ولا تلقى بالاً للغاضبين فى غضبتهم، وتمضى قدماً فى تنفيذ خطة «تمكين» أعضاء جماعة الإخوان المسلمين التى أدانتها كل القوى السياسية وأثارها الدكتور مخيون، رئيس حزب النور والحليف السابق للجماعة وحزبها، فى جلسة الحوار مع الرئيس «المنتخب» وأهداه ملفاً يتضمن أسماء من تم تعيينهم من «الإخوان» فى 13 محافظة ووعد بإرسال ملفات لباقى المحافظات، ولم يعقب الرئيس «المنتخب»!
وتبلغ الفوضى قمتها فى مشهد عبثى فى قمته جماعات كانت «إرهابية» مارست الاغتيال والتدمير وقضى أفرادها وقادتها سنوات فى السجون، ثم إذا بتلك الجماعات تقدم نفسها فى صورة الحريص على أمن البلاد والعباد وتعلن عن قدرتها على سد الفراغ الناشئ عن إضراب الشرطة وانسحابها من مواجهة الجماهير!! وما زاد الطين بلة ذلك البيان الذى صدر عن النائب العام ليذكّر الناس بالمادة 32 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1952 التى تتيح للمواطنين القبض على مثيرى الشغب، وما أثاره ذلك البيان من ردود أفعال والخشية من استغلال ذلك التصريح بواسطة الميليشيات التابعة للأحزاب والجماعات الدينية والتنظيمات التكفيرية وجماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ليعيثوا فى المجتمع فساداً وإفساداً.
الأمر فى الحالة المصرية يتطلب مواجهة شاملة من القوى الشعبية وشباب الثورة والأحزاب والقوى السياسية لإعلان رفضها العام لأساليب الحكم الغريق فى بحر الأخونة وغير المنتبه إلى مشكلات حاضر مصر ومستقبلها، والدعوة إلى تضامن قوى الشعب مع قواته المسلحة ورجال الشرطة الشرفاء لإنقاذ الوطن المحترق.
ولك الله يا مصر.