لست هنا بصدد مناقشة ثقافة العنف وجذوره الأصيلة في المجتمع اليمني . لأن مخلفاتها النتنة قد فاحت في حاضرة اليمن مدينة عدن تلك المدينة ( البوليتيكية) بتركيبتها السكانية المتعددة الأجناس والأعراق والجذور الدينية .عدن حاضنة كل البشر والمعابد والكنائس والمقابر.
عاشت عدن خاصة والجنوب الجغرافيا الممتدة طوال الأسابيع الماضية موجة عنف سياسي من نوع مختلف. فالعنف لم يكن لونا واحدا. فهناك عنف السلطة وعنف اجتماعي احتجاجي مواز لنفس العنف. كلا الحالتين حاضرتان بازدهار بعد ثورة شعبية أطاحت بالاستبداد السياسي والسلطة العائلية من الحكم دون تحقيق أهداف الثورة في العدالة الاجتماعية والشراكة في السلطة والثروة في الجنوب والشمال. في ظل سيطرة مراكز القوى التقليدية على السلاح والثروة التي تنمو مع استباحة بلوكات النفط وسمك البحر والاستثمارات السياحية في الشريط الساحلي الممتد.
العنف الذي رزح الجنوب تحت نيرانه الأسابيع الماضية وعدن لم يكن عنف السلطة فقط وأجهزتها الأمنية ولكنه يشمل أيضا عنف أنصار السلطة وأيضا عنف بعض الشباب المناهضين لهذه السلطة.
عنف الشباب المناهضين للسلطة جاء أثناء احتفال أنصار السلطة بالذكرى الأولى للانتخابات الرئاسية في 21 فبراير في مدينة مكلومة اسمها عدن، سعت من خلاله قيادة السلطة المحلية ممثلة بالمحافظ وحيد على رشيد إلى التأكيد على سيطرة الجماعة و قدرة حزبه السيطرة على المحافظة في ظل صراع سياسي بلا هوية أو إستراتيجية مع فصائل الحراك الجنوبي المختلفة (السلمية والمعنفة) وبينهما هدنة مستترة مع تنظيم القاعدة الذي يتمدد في عدن ويرفع العلم الجنوبي بدعوة علنية للانفصال خلافا لدور مستتر وخسيس لبقايا أجهزة النظام السابق المرتبطة بقيادات أمنية في صنعاء كانت تدير الأمن القومي والحرس الجمهوري والفرقة الأولى المدرعة سابقا.
في ظل خارطة مضطربة وغير واضحة المعالم هل كان الإصلاح بحاجة إلى الاحتفال بالذكرى الأولى لانتخاب الرئيس بتلك الطريقة التي زحفت بها قوافل الجمال التي يمتطيها ثلة من الفاتحين المحملين بالأعلام.
مشهد أيقظ الذاكرة الميتة لدى الأغلبية الصامتة من سكان عدن المكلومين من حرب صيف 94 . مع أن مشهد الجمال (الإبل) تم تصويره في محافظة غير جنوبية ونشرته الصحف الصادرة في صنعاء قبل يومين من الزحف الذي كان مخططا له.. والمثير للدهشة أن الزاحفين لم يصلوا الى عدن بعد ان اقتنع المنظمون بتجميع بعض المشاركين في احد المعسكرات القريبة من ساحة العروض.. أما الجمال (الإبل) فلم يشاهدها أحد في يوم الخميس الدامي..
“للأسف أصبح المشهد اليوم يتكرر من جديد، ففي الوقت الذي كان فيه الشعب في الجنوب ينتظر حلولاً لمشاكله وللظلم الذي تعرض له إذا به أمام خطاب تحريضي من بعض اطراف السلطة ليستخدم أيضاً مظلة الوحدة ويدفع بها إلى الصدارة في مواجهة الاحتقان المتزايد دون أدنى شعور أو إحساس بجسامة المسئولية في محاصرة الاحتقانات والبحث عن الحلول المناسبة لمشاكل الناس”. كما ذكر الحزب الاشتراكي في بيانه الأحد الماضي.
لقد واجه الحراك الجنوبي المعنف والمسلح. ذلك الاحتفال بعنف غير مبرر كانت ساحته المصادمات الفردية والجماعية . وبدون إدراك انساق الجميع وراء محترفي إشعال الحرائق والعنف إلى إضرام النيران في مقرات التجمع اليمني للإصلاح. في سلوك همجي وغير حضاري استغله الإخوان المسلمون في تقمصهم دور الضحية في آلة إعلامية تستهدف تشويه الأطراف التي يتصارعون معها محليين وإقليميين ودوليين. هل كان الإصلاح بحاجة إلى سيل من الدماء للوصول إلى هذه النتيجة؟ هل نحن جميعا نعيش ظروفا طبيعية لنمارس السياسة مثل لعبة الرولايت ؟
“إن أسلوب الشحن السياسي الذي سبق هذه الفعالية ظل ينذر بمواجهات كان بالإمكان تجنبها من قبل السلطة لو أنها تصرفت بمسئولية إزاء أرواح الناس وفي ظروف الاحتقانات الكبيرة التي شهدها الجنوب خلال الفترة الماضية،وعملاً بالقاعدة الشرعية التي تقول درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”.
لست بصدد التبرير لأحد هنا لكني أقيم الأحداث بناء على معلومات متضاربة ساقتني إلى هذا التحليل الذي يحتمل الصواب والخطأ دون التحامل على طرف بعينه أو الاصطفاف مع احد. لكن إصرار السلطة المحلية في عدن وقيادات الجماعة على إقامة الفعالية في 12 فبراير جاء كرد فعل على خصومهم الراديكاليين من أنصار الحراك الجنوبي ولكنه رد فعل يندرج في محاولة بث الرعب في قلوب خصومهم وهي إحدى محاولات استخدام القوة بهدف السيطرة على مفاصل الدولة وإعادة ترتيبها بطريقة تسهل الوصول للسلطة لفترة طويلة.
فهذا عنف من اجل السلطة بعد أن صارت هدفا في حد ذاته.
أما عنف الحراك المناهض والغاضب من السلطة لأنها بددت أحلامه في الحرية والعدالة الاجتماعية وعدم الاعتراف بقضيته الجنوبية عبر إجراءات عملية تشعرهم بحقه في الشراكة بالسلطة والثروة. فهو عنف فقدان الأمل بعد عام من الثورة.عنف تتحمل مسؤوليته حكومة الإنقاذ الوطني والرئيس عبدربه منصور هادي ومعهم الأحزاب السياسية التي لم تتمكن من استثمار الشراكة في المرحلة الانتقالية لطرح بديل متكامل يحقق توازنا سياسيا ويبدد المخاوف من استمرار اغتصاب الجنوب من قبل الوجوه نفسها التي استباحته في صيف 1994.
ولكن الفرق بين هذا العنف وذاك هو عنصر القيادة، فمن الطبيعي أن يكون لأنصار السلطة الذين يمارسون العنف أو يهددون به قياداتهم الميدانية المنظمة لإدارة هذا العنف. ولكن خصوم النظام بلا قيادة لأنهم رد فعل على عجز الأحزاب وقوى المعارضة وقيادات الشباب في الإعداد للاحتجاجات التي أخرجت علي عبدالله صالح من الحكم وادخلت بقاياه وادواته القمعية وشركاءه الفاسدين في السلطة الانتقالية تحت مسمى الوفاق.
اليوم الحراك والشباب في الساحات يعيشون حالة احتقان سياسي مخيفة بعد أن رفضوا السلطة و فقدوا الثقة بالمعارضة بكل أشكالها واختلافاتها.
كما أن الفرق الأكثر جوهرية بين عنف أنصار السلطة والحراك الجنوبي هو أن أحدهما نتيجة للآخر. فكانت السلطة وأنصارها هي من بدأت العنف منذ 19 فبراير بمنع الحراكيين من دخول عدن ومقتل اثنين منهم أثناء دخولهم المدينة واعتقال عدد كبير من قيادات ونشطاء الحراك الجنوبي خلافا للاستخدام الأمني المفرط للقوة في تفريق وفض تظاهرات ضد الاحتفائية بالذكرى الأولى لانتخاب الرئيس هادي. بمعنى ان العنف الأكثر شراسة قد بدا الاثنين الماضي من قبل قوات الأمن والجيش في فض الاعتصامات المدنية والاحتجاجية التي نفذها الحراك في عدن.
المشكلة لا تكمن اليوم في من بدأ العنف. ولكن في العوامل والأسباب المحفزة للعنف. لعلها تندرج في سياق فشل الوحدة السلمية قبل ثلاثين عاما وإرهاصاتها المدمرة على الجنوب وأبنائه بل واليمن برمتها. وهي إرهاصات أفرزت كيانات وتكتلات صماء لا ترى في الوحدة إلا شرا مستطيرا وبالانفصال طوق نجاة وهي قراءة قاصرة بكل المقاييس لمتغيرات المشهد السياسي اليمني الذي تتقاطع فيه اليوم وحدة اليمن واستقراره مع المصالح الإقليمية والدولية في هذه الجغرافيا الخطرة ..!