قال فيها: لا أفهم لماذا يتصايحوا (قصده: علي وعلي)، والبلد ميزانيّتها إلى هناك، إلى هناك!...
بعد دقيقة من الحوار، أدركت الصحفيّة أنها تعيش لحظة تلفزيونية لا تتكرر، بفضل عبارة: إلى هناك، إلى هناك.
عادت «رِيْوَس» (أي: إلى الخلف) بسؤالٍ خبيث:
«ممكن يا حضرة الشيخ أن تقول لنا، وأنت رئيس البرلمان اليمني، كم ميزانية اليمن بالضبط؟».
ردّ عليها منزعجاً قليلاً من «عدم فهمهما» لردّهِ السابق، قائلاً:
«قلتُ لكِ قبل قليل: إلى هناك، إلى هناك»!...
يبدو لي أن ثقافة «إلى هناك، إلى هناك» اكتسحَتْ كل اليمن، شماله وجنوبه!...
صارت «العقليّة المرعوشة» أكثر وحدويّة من أي وقتٍ مضى!...
تمّ استبدال «إلى هناك، إلى هناك» اليوم بكلمة رشيقة، جميلة، لكنها مماثلة تماماً من حيث عدم الدقّة والفهلوة (أو: «الدَّحبشة» بالمعنى الاصيل للكلمة، الخالي من أي بُعدٍ جغرافيّ): مليونيّة!
أوّل مرة سمعت «مليونيّة» كان عند مسيرة كبيرة ورهيبة جدّاً في صنعاء، قبل عام ونصف تقريباً. لعلها اقتربت من الخمسة والسبعين ألفاً (هذا رقم كبير جدّاً، في رأيي). ربما الثمانين ألفاً، من يدري!.
أتفجّرُ سعادةً وفخراً عند رؤية مسيرات بهذا الحجم في أي مدينة يمنيّة.
لكني امتعضت يومها مع ذلك، وقلت في موقع «حريّة» إن استخدام كلمة «مليونيّة» غير دقيق، لا يحترم الرياضيات!...
ثمّ لم يتوقف امتعاضي منذ سنة ونصف كلما سمعت كلمة «مليونية» تستخدم في كلِّ مسيرة تقريباً، حتى اليوم!...
شعرتُ بنوعٍ من الغِيرة ربما لأني قضّيتُ كل حياتي في المسيرات في فرنسا (بلد المسيرات منذ سنين السنين. يخرجُ أهلها للمسيرات لكلّ صغيرة وكبيرة. اكتسبوا بفضل إضراباتهم ومسيراتهم كل المنجزات الاجتماعية في تاريخهم الحديث).
أشارك شخصيّاً في المسيرات في باريس وغيرها من المدن، بانتظام.
لكن الأرقام التي أسمعها بعد الإحصاء متنوّعة ومتواضعة جدّاً بالمقارنة بأرقامنا اليمنية:
عشرة آلاف أحياناً، خمسة عشر ألفاً، عشرين ألفاً عدّة مرات، خمسة وعشرين ألفاً مرّات لا بأس بها، خمسين ألفاً بضعة مرّات، خمسة وسبعين ألفاً، مرّتين أو ثلاثاً.
أكبر مسيرة عرفتها كانت لرفض قانون للتقاعد عاشت خلاله فرنسا ما يشبه الإضراب العام لبضعة أسابيع.
عدد المتظاهرين: مائة وخمسة وسبعون ألف متظاهر في باريس. كان طولها عدّة كيلومترات.
(أعتمدُ دائماً على أرقام النقابات وليس على أرقام البوليس الأقل دائماً من أرقام النقابات لاستخدامهم طريقة حساب مختلفة لا أثق بها!)...
ثمّ في رأس رأس السنة، (عندما يتوافد كل شباب باريس والسوّاح الأجانب، من المساء حتّى الفجر، ويملأون كل المسافة من قوس النصر إلى الكونكورد وكلّ الشوارع المحيطة) لم يصل العدد، منذ أكثر من ثلاثين سنة، إلا مرّة واحدة إلى حوالي: ستمائة ألف!
ومع ذلك: الأرقام هي الأرقام، في فرنسا واليمن، حسب معرفتي!...
والحساب التقريبي لعدد المتظاهرين ليس صعباً كي نردّد عبارة الشيخ عبدالله الأحمر: إلى هناك، إلى هناك. أو: مليونيّة، بلغة الدلّع!...
واضح جدّاً: إذا كان هناك مليون متظاهر فذلك يعني أن مساحة المظاهرة حوالي مليون متر مربع.
(في كل المقاييس المتداولة هناك متظاهر واحد بالأكثر في المتر المربع، في المتوسط. لأن هناك فراغات كثيرة هنا وهناك، في أي مسيرة).
ذلك يعني: إذا كان عُرض المسيرة خمسين متراً فطولها حوالي عشرين كيلومتراً في لحظةٍ معيّنة!
عشرين كيلومتراً: أكثر من طول شوارع الزبيري وحدّة وتعز معاً في نفس الوقت، بالتأكيد...
وإذا كان عرض المسيرة مائة متر (وهذا نادر جدّاً في شوارعنا وساحاتنا) فيلزم أن يكون طولها عشرة كيلومترات تقريباً!...
ولا أعتقد أن مسيرة يمنية واحدة تجاوز طولها يوماً بضعة كيلومترات تُعدُّ بأصابع اليد.
نفس ثقافة الشيخ الأحمر هذه اكتسحت عدَن التي صارت تُستخدم فيها كلمة: «مليونية» في كلّ الصوصات!...
ربما حان الوقت لأن نرمي بثقافة الشيخ الأحمر، ثقافة «إلى هناك، إلى هناك»، وأن نستخدم أرقاماً أكثر دقّة (ثمّة أرقام كثيرة مُشرّفة جدّاً بين الألف والمليون، يمكننا استخدامها بدون خجل!)...
ما دفعني لكتابة هذا المنشور العاجل هو أني قرأتُ قبل قليل أحدهم (يبدو أنه خزّن قاتاً من نوعٍ شرسٍ معادٍ للرياضيات!) يستخدم عبارة: «ملياريّة الحسم!»...
كدتُ «اشترغ» وأنا أقرؤه!...
_______________
روائي يمني وبروفيسور جامعي في علوم الكمبيوتر بقسم هندسة الرياضيات التطبيقية (كلية العلوم التطبيقية، روان، فرنسا)