خرجت سريّةٌ من المجاهدين قبل فتح مكة..
فمرّت برجل من قبيلة معادية اسمه عامر الأشجعى ومعه غنم يرعاها..
فلما رآهم ألقى عليهم السلام..
فتقدم رجل من السريّة يُقال له مُحلّم بن جَثّامة لقتله..
وكانت بينه وبين الرجل خلافات دنيوية ومشاحنات شخصية ليست لها علاقة بالإسلام..
فنهاه من كان معه عن قتله وقالوا له: لقد ألقى علينا السلام فهو مسلم!
فردّ عليهم بقوله: إنما قالها خوفاً من القتل..
وأسرع إلى رميه بسهم فقتله وسَلَبَ غنمه..
فأخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما جرى..
فغضب النبيّ غضباً شديداً.
حضر أقارب (عامر) وأُحضِرَ (مُحلّم) ليحكم النبي فى قضيته فإما القصاص وإما الدية..
فدُفِعَت الدية بعد أن رضي أهله بقبولها.
دخل محلّم على النبي وهو يتوهم أن فعلته يمكن أن تمر هكذا..
وطلب من النبي أن يستغفر له..
فقال له نبىّ الرحمة بصوت مرتفع يسمعه الناس: اذهب.. لا غفر الله لك!
فقام مصدوماً يمسح دموعه.. ثمّ توفي بعدها بأيام..
دفنه أقاربه.. فلما أصبحوا وجدوه خارج قبره..
فأعادوا دفنه وأقاموا عليه حراسة ظناً منهم أن قبيلة القتيل قد نبشت قبره..
فأصبحوا وقد لفظته الأرض مرة أخرى..
فدفنوه مرة ثالثة..
فلفظته الأرض مرة ثالثة..
فوضعوه فى مغارة أو بين جبلين وغطوه بالحجارة..
وأخبروا النبي بخبر لَفظِ الأرض لجسده..
فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«إن الأرض تقبل من هو شرٌ من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم».
وقال لهم كما فى رواية أخرى:
«ولكن الله أراد أن يخبركم بحُرمتكم فيما بينكم».
هذه القصة فيها من الدروس والمعاني ما نحتاج إلى تأمله هذه الأيام تأمّلاً عميقاً وجاداً..
· الرجل قتل بريئاً تحت غطاء الجهاد وحاول تبرير فعلته باتهام القتيل بأنه كافر وإن ألقى السلام، واتهمه بأنه يتظاهر بالإسلام كي يمر بسلام، وكل ذلك بسبب خصومة أخرى بينهما مع طمعه فى أخذ الغنيمة..
· الرجل ظنّ أن خروجه تحت راية الجهاد فى نصرة الإسلام سيشفع له فى تجاوز هذه الجريمة بمجرد أن يطلب من رسول الله أن يستغفر له، لا سيما أن عشيرة أخواله معروفة بقوة بأسها وكان منهم الأقرع بن حابس..
· النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع صوته بقوله: قُم لا غفر الله لك، فقام الرجل وهو يمسح دموعه لما شَعر به من خطورة جريمته إلى حدٍ جعل النبي يمتنع عن الاستغفار له!
وهنا لا بد من وقفة تأمل.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كله رحمة.. حتى إنه أخبر أنه لو كان الاستغفار للمنافقين سوف يُقبل لأستغفر لهم.. فكيف يرفض الاستغفار لهذا الرجل؟
وقد روى بعض الصحابة أن النبي استغفر له بعد ذلك.. ولكن غضبه هذه المرة كان عينَ الرحمة إذ إنه يؤسس فى القلوب تعظيمَ حرمة الدماء وهو ما أشعر (مُحلّم) بالندم الحقيقي ليلقى الله نادماً غير مستهتر بالدماء..
· سبق أن أخطأ بعض الصحابة فى اجتهادهم بقتل من لا يجوز قتلهم أثناء الجهاد واستغفر لهم النبي، لكن هذه القصة اشتملت على معطيات أخرى تهدد سلامة نصرة الدين..
ومنها:
1. أنه استغلّ شرعية مهمته المعظمة فى الإسلام وهي شعيرة الجهاد فى تصفية خلافات أخرى بينه وبين الرجل تحت غطاء الشريعة.
2. أن طمعه فى الغنيمة غلب على الأصل فى خروجه لنصرة الإسلام وأصبح هذا الطمع متحكماً فى تصرفاته، إلى الحد الذى جعله يبرر تكفير الرجل وقتله بشُبهة أنه كان يتظاهر بالإسلام كذباً ليحتال عليهم.
3. أنه تجاهل تنبيه رفقاء الجهاد له ولم يقبل نصيحتهم، ولم يلتفت إلى صرخاتهم وتحذيرهم إياه من قتل إنسان برىء.
ثم أنزل الله آية فى القرآن تؤكد التحذير من الاستسلام لهوى النفس وطمعها فقال سبحانه وتعالى:
{يا أيُّها الذينَ آمنُوا إذا ضَرَبْتُم فى سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُوا ولا تقولُوا لِمَنْ ألْقَى إليْكُمُ السَّلامَ لسْتَ مؤْمِناً تبْتغُون عَرَضَ الحياةِ الدُّنيا فعِندَ الله مَغانِمُ كثيرةٌ كذلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فمَنَّ الله عليْكُمْ فتَبَيَّنُوا إنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خبيراً}.
وأخيراً.. أرجو أن تكون قلوبنا قد وَعت الدرس من هذه القصة..
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليُّها ومولاها.. يا نعم المولى ويا نعم النصير.