(نحن أولى بموسى منهم)
هكذا قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم عندما قيل له بأن يهود المدينة يصومون عاشوراء فرحاً بنجاة سيدنا موسى وقومه من فرعون وجنوده، وقد كان يصوم هذا اليوم وهو فى مكة قبل الهجرة..
لم يسأل النبى الكريم عن ارتباط الشهر العربى بالواقعة على الرغم من أن الحساب العبرى مختلف عنه، واكتفى بكون يهود المدينة قد ارتبطوا بالأشهر العربية لأنهم استوطنوا بلاد العرب، ولم يقُل: وكيف نتحقق من صحة التاريخ فإن اليهود قد حرفوا كتابهم لذا لا يجوز أن نثق بتحديدهم لتاريخ نجاة موسى؟!
لأن الأمر ليس متعلقاً بذات الزمان بقدر ما هو متعلق بالمعنى الذى تدل عليه المناسبة وهو الفرح بفضل الله، ومحبة الصالحين من عباده..
وهذا الارتباط بمواسم فضل الله على عباده الصالحين هو ارتباط أصيل وعميق فى ديننا..
فإنّ ركن الإسلام الخامس وهو الحج.. مليء بمعانى الارتباط بفضل الله على خلَّص عباده الصالحين من الأمم السابقة..
بدايةً بالطواف حول الكعبة التى رفع إبراهيم الخليل قواعدها مع ابنه إسماعيل.. ومروراً بالسعى بين الصفا والمروة حيث كانت سيدتنا هاجر المصرية تسعى بين هذين الجبلين بحثاً عن الماء لتشرب وتسقي طفلها..
ورمي الجمرات بمنى حيث رجم الخليلُ عليه السلام الشيطانَ عندما كان يحاول جاهداً أن يثنيه عن امتثال أمر الله فى امتحان ذبح ابنه إسماعيل..
ووصولاً إلى ذبح الهدى الذى يذكرنا بالذبح العظيم الذى جعله الله فداء لإسماعيل بعد نجاح أبيه فى الاختبار الصعب.
هذه عظمة شعائرنا التى نعبد الله تعالى بها، أنها مرتبطة بالمعانى العميقة وليست مجرد أداء شكلي ظاهري..
وقد قال تعالى: {وَذَكِّرهُمْ بأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فى ذلكَ لآياتٍ لكلِّ صَبَّارٍ شَكورٍ}.
لهذا عندما تأتى ذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام.. فإننا نستشعر أننا أمام تذكر يوم من أيام الله.. تميز بمعجزة عظيمة فى مولده الشريف ارتبطت بمعنى السلام الذى نحن فى أشد الحاجة إليه فى هذه الأيام.. نعم فقد جعل الله السيد المسيح رمزاً للسلام فى هذا العالم..
ألم يقُل تعالى على لسان السيد المسيح: {وَالسَّلامُ عَلَيّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيٍّا}؟
فهذا وحده سبب كافٍ لأن أفرح بهذه الذكرى الشريفة بغض النظر عن التدقيق فى ضبط تاريخها عندنا أو عند غيرنا أو اختلاف الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت أو غيرهم حول التحديد الدقيق للمناسبة..
لأن الأمر غير متعلق بذات اليوم بل بالمعنى الذى يرمز إليه..
ثم إن إخوتنا فى الإنسانية وجيرتنا فى الأرض ونظراءنا فى الخلق لهم علينا حق البر والقسط اللذَين نبهنا الله إليهما بقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عنِ الَّذينَ لم يُقاتِلوكمْ فى الدِّينِ ولمْ يُخرجوكم من ديارِكُمْ أَن تَبَرُّوهمْ وتُقسِطُوا إِليهِمْ إِنَّ اللهَ يُحبُّ المُقسِطِينَ}.
قال الحسن البصري: إن المسلمين استأمروا رسول الله فى أقربائهم من المشركين أن يصلُوهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية..
وقال ابن عباس يريد بالصلة وغيرها {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} يريد أهل البر والتواصل..
وقال شيخ المفسرين الحافظ ابن جرير الطبري فى تفسيره للآية: وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال: عنى بذلك لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلُوهم وتقسطوا إليهم.. ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ.
ولكم أن تتأملوا كيف ربط الله بر غير المسلمين وحسن مواصلتهم بمحبته تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطينَ}..
فإنّ البر والقسط فى تعامل المسلمين مع غيرهم سبيل موصل إلى محبة الله تعالى.. و(البر حُسنُ الخُلق) كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم..
وقبل أن يتحمس إخوتى من طلبة العلم ويهرعوا إلى جمع أقوال الفريق الذى منع التهنئة من فقهاء الأمة.. أذكرهم بأن من لم يجِز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم الدينية ربط ذلك بفَرضية (إقرارهم) على ما يعتقدونه من عقائد مخالفة للإسلام.. ولم يذكروا دليلاً صريحاً يمنع التهنئة لذاتها..
وهذا (الإقرار) لا يتصور اليوم من المسلمين بعد استقرار الإسلام وانتشار المعلومات ووضوح الاختلاف العقدى ونضج السلوك البشرى..
إذ لا يوجد مسلم اليوم ممن يهنئون جيرانهم المسيحيين يخطر بباله أنه يقر بألوهية السيد المسيح أو بأنه ابن الرب تعالى!.. ولا يوجد مسيحى يتوهم ذلك من تهنئة المسلم له!
كما أنه لا يوجد مسيحى اليوم ممن يهنئون جيرانهم المسلمين بالعيدين أو برمضان أو بالمولد النبوى الشريف يفهم من ذلك أنه قد أقر المسلم على اعتقاده.. ولا يوجد مسلم اليوم يتوهم ذلك من تهنئة المسيحى له!
لكن المعنى الذى يصل إلى القلوب والعقول هو البر والصلة وحسن الجيرة وكريم الأخلاق..
فهل من عاقل اليوم يرى ذلك إقراراً على العقيدة؟ أو مشاركة فى طقوس العبادة؟
وهل وصلنا إلى حالة صرنا فيها نتشاجر ونصدر الفتاوى ونعلن البيانات.. بل ونكيل التهم ونشكك فى سلامة معتقدات بعضنا بسبب كلمة طيبة اعتاد المسلم أن يقولها لجاره المسيحى: «كل عام وأنتم بخير»؟
أي مستوى من السقوط ندفع إليه أجيالنا؟
أي مستوى من الاستخفاف بعظمة هذا الدين نقدمه لشبابنا؟
من حق من لا يريد أن يهنئ غيره ألا يفعل فلم يقُل أحد إن هذا فرض، لكن أن ننكر على من يفعل ونبرِق ونرعد ونشكك فى دينه! فهذا نوع من العبث بدين الله! بل هو تقزيم لعظمة الشريعة السمحة!
أرجوكم كفوا عن الإساءة إلى عظمة هذا الدين..
أرجوكم كفوا عن تنفير الناس منه بتضييق رحابه الواسعة عليهم..
وانتبهوا إلى غضب النبى الكريم وتحذيره الشديد عندما شكا إليه رجل أنه صار يتأخر عن صلاة الفجر فى المسجد بسبب تطويل الإمام كما روى البخارى بسنده إلى أبى مسعود الأنصارى، إذ قال الرجل: يا رسولَ اللهِ إِنِّى لأتأَخرُ عن صلاةِ الغدَاةِ من أَجلِ فُلان مما يُطيلُ بنا..
قال أبومسعود: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد غضباً فى موعظة منه يومئذ!
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أَيها الناسُ إنَّ منكم مُنَفِّرِينَ فمن صلى بالناسِ فَلْيُوجِزْ، فإنَّ فيهمُ الضعيفَ والكبيرَ وذا الحاجةِ).
غضب النبى واشتد فى موعظته واتهم من يطيل الصلاة بأنه منفّر!..
فكيف بمن يطعن فى دين الناس ويشكك فى إيمانهم وسلامة معتقدهم بسبب بِرهم بجيرانهم؟
وأُذكّر نفسى وأُذكّركم بوصيته صلى الله عليه وآله وسلم: (يَسِّروا ولا تُعسِّروا وبَشِّروا ولا تُنفِّروا).
وأخيراً..
أُهنئ سيدنا محمداً بميلاد السيد المسيح.. نعم أهنئ سيدنا محمداً..
أليس هو من قال: (أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم فى الدنيا والآخرة)..
وأُهنئ المسلمين والمسيحيين بل أُهنئ البشرية كلها بالميلاد المجيد لمن تجلّى الله عليه فى مولده باسمه السلام فجعله رمزاً للسلام..
وأقول لسيدنا المسيح:
سيدي يا روح الله ويا كلمته.. السلام عليك يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حياً..