ولم تمض فترة، حتى كان خطيب الجمعة يتهم صدام بأنه السبب في هيمنة الأمريكان على المنطقة!
وفى حرب 94 بين الحزبين الحاكمين في اليمن، صدعت المنابر بالدعوة إلى الجهاد في سبيل الله لصالح أحد الحزبين ضد الحزب الآخر على اعتبار أن من في الحزب الثاني كفار شيوعيون وجهادهم فريضة..
مع أنني سمعت أحد هؤلاء الخطباء في مناسبة زواج بصنعاء، يقول لأحد قيادات هذا الحزب قبل الحرب بشهرين: إن الخلاف الذي بيننا خلاف سياسي وليس بخلاف عقائدي لأنكم مسلمون..
وهكذا جرى تجييش الشباب على قدم وساق، وارتفعت أصوات المنابر بنداء «حي على الجهاد»، وعقدت دروس في المساجد تحكي (كرامات) المجاهدين..
ومن هذه (الكرامات): أن عدداً من (الحمير) ركضت أمام الشباب (المجاهدين) في حقل ألغام، فانفجرت الألغام في الحمير ونجا هؤلاء الشباب من موت محقق! قيل هذا فى محاضرة مسجلة.
وسالت الدماء أنهاراً.. وكان القصف ينهال على المدنيين الذين لم يشاركوا في القتال.
وقد رأيت بعيني في مستشفى عدن جثثاً لأسرة مكونة من الوالدين وثلاثة أطفال أحدهم رضيع بين ذراعي أمه وقد تفحموا، كما رأيت أعداداً ممن فقدوا أعضاءهم وآخرين ينزفون.
وبعد الحرب صار الحزب الذي نادى خطباؤه بالجهاد شريكاً للحزب المنتصر فى حكم البلاد، ثم اختلف الحليفان، وتنازعا السلطة، وأقصى الحزب الحاكم شريكه حزب الخطباء.
فضجت المنابر مرة أخرى..
لكن هذه المرة ضد الحزب الذي كان القتال في صفّه بالأمس جهاداً فى سبيل الله!
وبينما يطلق الرئيس حملته الانتخابية من جامعة إسلامية يرأسها داعية قيادي في حزب الخطباء، كانت (المنابر) تصدع في نفس الوقت بأن انتخاب منافس الرئيس واجب شرعي.. لأن الرئيس كما يراه الخطباء (فاسد)!
ولا تنتهي تناقضات خطباء السياسة عند هذا الحد، فبعد سنوات تشكّل ائتلافٌ سياسي فى اليمن اسمه (اللقاء المشترك) وكانت (الصدمة) الكبرى، لمن لديه قدرٌ بسيط من حضور الذاكرة، حيث تحالف فيه خطباء (منابر) الجهاد المزعوم عام 94 مع من كانوا ينعتونهم بالكفار الشيوعيين ضد الحزب الحاكم الذي غدر بهم وأقصاهم عن السلطة، بعد أن كانت (المنابر) بالأمس تجيش الشباب (للجهاد) معه ضدهم!
فهل أسلم كفار الأمس وكفر مسلموه اليوم؟
وتمضي الأيام.. حتى جاءت ثورة اليمن في خضم لما سمي بالربيع العربي..
وفى هذه المرة، انقسمت المنابر بين محرضٍ يدعو إلى الثورة باعتبار أنها مطلب إسلامي لإحقاق الحق ومناهضٍ لها على اعتبار أن الثورة خروج على ولي الأمر المنتخب.
بينما ترددت مواقف كبار الخطباء (ومنهم الخطيب الذي أطلق الرئيس حملته الانتخابية من جامعته الإسلامية)، فهُم بين محاولة الصلح والسعي إلى المواءمة حقناً للدماء، وبين الثناء على الشباب الثائر.
تعاني صنعاء الآن، نتيجة لهذا العبث، من سقوط مصداقية (المنبر) إلى درجة تفشى فيها التنصير السري وأخذت القاديانية والبهائية طريقها للانتشار بين بسطاء الناس، مع نمو سريع للأفكار اللادينية لدى مثقفي الشباب في اليمن.
والله المستعان..
وكم يردد الشباب متسائلين:
لماذا تستغل المنابر وتوظَف في ألاعيب السياسة؟
لماذا يصرخ فينا الخطباء ومكبر الصوت ملتصق بأفواههم؟
لماذا لا يذكرون إلا النار والعذاب والغضب؟
لماذا يشعروننا وكأن الله لا يحبنا؟
لماذا نشعر من طريقة كلامهم بالاستخفاف بعقولنا؟ أم أن المشكلة في عقولهم؟
لماذا يستغلون أننا ُلزمون بالإنصات للخطيب ليُفرغوا غضبهم وعقدهم فينا؟
لذا، أناشدكم الله إخوتي الخطباء، لا تجعلوا منبر (النبي) جزءاً من التنافسات السياسية، فتفقدوها مصداقيتها.
لا أتحدث بلغة عزل المنبر عن الحياة، فمهمة منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترشيد الحياة، لكن هذا الترشيد يفقد مصداقيته إذا أصبح جزءاً من لعبة التنافس على الحكم.
إخوتي الخطباء ..
ليصدع منبر (النبي) صلى الله عليه وآله وسلم مبيناً للناس هديه الشريف..
لنخطب عن أخلاق العمل..
لنخطب عن قيمة الإتقان..
لنخطب عن أهمية الإنتاج..
لنخطب عن فريضة العدل..
إخوتي الخطباء ..
هيا بنا نخطب عن فرض الكفاية في الشريعة، حتى نأكل ما نزرع، ونلبس ما ننسج، ونصنع ما نستخدم..
هيا بنا نبين للناس أن تخلف الأمة عن ركب الحضارة (حرام)، وأنّ «من لا يأكل من فأسه لا ينطق من رأسه» كما كان شيخنا الإمام الشعراوي يردد.
هيا بنا نبين للناس أن من لا يستقلّ باقتصاده لا يملك قراره.
إخوتي الخطباء ..
هيا بنا نخطب لتوعية الناس بمبادئ الشريعة وآدابها في الاختلاف، وكيفية إدارته..
قيمة الصدق، ومسئولية الكلمة..
حقن الدماء، وحرمة النفس..
أمانة الرأي، وقوة الحق..
واحترام حق الاختلاف..
إخوتي الخطباء ..
هيا بنا ننشر الوعي بأهمية المحبة والأخوة، واحترام بعضنا البعض..
وتعظيم الحرمات، فلا قذف ولا سب ولا لعن، تطبيقاً للشريعة كما قال تعالى: «وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً».
(كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)، كما قال صاحب المنبر.
إخوتي الخطباء ..
هيا بنا ننشر أهمية رعاية حرمة غير المسلم، عملاً بقوله تعالى: «مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً».
وعملاً بقول صاحب المنبر: (من قتل نفساً معاهداً لم يَرِحْ رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً)، و(ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا خصمه يوم القيامة)..
إخوتي الخطباء..
هيا بنا ننشر أهمية القيام بحقوق الوالدين، والتوبة من العقوق، وأهمية أداء حقوق الأبناء، وحسن الرعاية لهم.
هيا بنا نذكر بحق الأرحام وخطورة قطيعة الرحم، وحق الجار وعدم إيذائه، وحق الطريق، وحق من يمشي فيه.
إخوتي الخطباء ..
هيا بنا نخطب عن أداء الأمانة، والوفاء بالعهد والوعد، وصدق القول..
هيا بنا لنعلم الناس أن حقيقة التدين ليست فى المظاهر والهيئات، ولكنها تظهر فى ميادين المعاملة.
فالمعلم يحضر لدرسه ويلتزم بحصصه ويهتم بطلبته، والعامل يتقن عمله وينضبط في دوامه ويجود إنتاجه.
والتاجر يصدق في قوله ويكون أميناً مع المستهلك رحيماً بالفقراء، والسياسي يفي بوعده ويؤدي أمانته ويؤْثر القضية العامة ومصلحة الأمة على نفسه وحزبه.
إخوتي الخطباء ..
هيا بنا ننبه الناس إلى أهمية حماية البيئة، وأن الله استخلفنا في الأرض، وحملنا أمانة الحفاظ عليها.
هيا بنا نذكر الناس بأن الله جعل الفلاح منوطاً بتزكية النفس، وتغليب فضائلها على رذائلها.
وأن الله جعل الخيبة فى إهمال تهذيبها وإقرارها على أطماعها ورغباتها..
«قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا»
هيا بنا نخطب عن حسن الظن بالله تعالى، ونذكر الناس بعظيم رحمته، وعنايته وحلمه ومغفرته.
لنحبب الله إلى خلقه، ونشوقهم إلى قربه.
هيا بنا نخطب بما يفتح أبواب الأمل فى فضل الله، ونجعل الناس يقبلون على بناء أوطانهم بسعادة وفرح ورجاء.
إخوتي الخطباء ..
أليس فى هذا تفعيل لدور المنبر فى الحياة؟
هكذا كان منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا ينبغي أن يكون.
إخوتي الخطباء..
إن اعتلاء منبر النبي مسئولية ثقيلة ينبغي أن نستشعرها، فتخفق قلوبنا عند ارتقاء درجاته، وترتعد فرائصنا عند التفكير فى ثقل أمانته، وتكون ألسنتنا من وراء قلوبنا عند إلقاء الخطب، حتى لا تلهث قلوبنا وراء ألسنتنا.
لم أخطب منذ عامين سوى ثلاث جمع على الرغم من أن المنابر متاحة للفقير إلى الله، وذلك للشعور بجلال المنبر، وعظم مسئولية ما سيقال من على سدته، لا سيما فى هذه المرحلة الحرجة..
اللهم ارزقنا الإخلاص لك فيما ننوي ونعتقد ونقول ونفعل.. يا كريم.