وإذا علمنا بأن تركيا، تعتبر إحدى الدول المكونة لحلف الناتو، الذي يتشكل من الولايات المتحدة والدول الأوربية. وإذا علمنا كذلك أن تركيا مرشحة للالتحاق بالتكتل الاقتصادي والسياسي - الاتحاد الأوروبي - فيعني ذلك أن مصلحة تركيا، تتطلب أن تكون منسجمة ومتسقة تماما، مع السياسات الخاصة بهاتين المنظومتين المذكورتين. زدْ على ذلك، أن موقف هاتين المنظومتين تجاه سوريا - سابقا وحاليا - يتسم بالعداء الصارخ. وهذا الموقف مبني بالأساس على تناقض سياستي كلٍّ من سوريا من جهة، والغرب بالإجمال وبالتفصيل، من جهة أخرى.
أما الموقف الغربي بشكلٍ عام - والولايات المتحدة على وجه الخصوص - إزاء الأحداث في سوريا - فقد حكمه التناقض الحاد بين سياستي الجانبين - الغرب وسوريا - تجاه بعضهما البعض منذ عقود طويلة. بالإضافة إلى بعض المواقف السياسية، التي استجدت في الفترة الاخيرة. ومن الممكن تحديد حالة التناقض بين الجانبين على النحو الآتي:
1. فيما يخص استعادة الجزء المحتل من الجولان السوري. ففي الوقت الذي تطالب سوريا باستعادته كاملاً، فإن الجانب الغربي يؤيد السياسة الإسرائيلية لحلِّ هذه المشكلة. وهو حلٌّ ترفضه سوريا.
2. وفي الوقت الذي تؤيد فيه سوريا الحقوق المشروعة للفلسطينيين، بقيام دولتهم على حدود عام 1967م - وعاصمتها القدس الشرقية - وعودة اللاجئين، فإن الغرب يؤيد الحلَّ الإسرائيلي، القائم على اللآت الثلاث: لا لحدود عام 1967م، ولا لتقسيم القدس، ولا لعودة اللاجئين.
3. معارضة الغرب لوقوف سوريا مع المقاومة الوطنية في لبنان.
4. معارضة الغرب لوقوف سوريا مع ما يطلق عليه بمحور إيران.
5. اتهام الغرب لسوريا بدعمها للإرهاب. برغم حقيقة مناهضة سوريا للإرهاب. إلا إذا أعتبر نضال الفلسطينيين واللبنانيين ضد الاحتلال الإسرائيلي إرهاباً.
هذه هي أهم الدوافع، التي حكمتْ الموقف الغربي الحالي ضد سوريا. أما دفاع الغرب عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. فهو ادعاءٌ مضلِّل، تكذِّبه تصرفات وسلوك الغرب في أماكن أخرى. كما هو حاصل في الدول الخليجية بشكلٍّ عام. وكذا تجاهل الدول الغربية - المجتمع الحر - عما يحدث من تحركات شعبية في كلٍّ من البحرين، والمنطقة الشرقية من السعودية، على وجه الخصوص.
ومن المؤكد أن الدول الغربية، قد حاولتْ تعديل أو تغيير المواقف السياسية لسوريا، بصدد المسائل المذكورة آنفا. إلا أنها لم تتمكن من ذلك، لا بالترغيب ولا بالترهيب. ولذلك عملتْ هذه الدول على استغلال الأحداث الجارية حاليا في سوريا، لتحقيق ما أخفقتْ فيه سابقاً.
أما الدوافع الخارجية تجاه ما يحدث في الجمهورية اليمنية، فيمكن تحديدها بحسب مواقف كل من الدول الخليجية - وفي مقدمتها السعودية - والدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. وقبل الحديث عن مواقف كل جهة من الجهات المذكورة، ينبغي معرفة ما هو الهدف الرئيسي لهذه المواقف؟
وبدون الخوض في تفاصيل هذه المسألة، يمكن إجمال الهدف الرئيسي لموقف الجهتين المذكورتين - الغرب ودول الخليج - في مطلبين: الأول، عدم تغيير جوهر النظام السياسي في الجمهورية اليمنية. والثاني، هو منع قيام نظام سياسي راديكالي في الجمهورية اليمنية. ويمكننا إحالة المهتمين بهذه المسألة، إلى دراستنا المفصلة الموسومة بـ « قراءة للمشهد السياسي الراهن في الجمهورية اليمنية ».
ثالثاً: القوى والحركات السياسية والشعبية، المشاركة في المشهد السياسي العربي.
يمكننا فرز أو تحديد هذه القوى في الآتي:
1. قوى شبابية غير منظَّمة في أحزاب أو منظمات سياسية، وبعضها غير مسيسة: وهذه الحالة تشترك فيها كلُّ المشاهد السياسية في البلدان العربية تقريباً.
2. أحزاب سياسية تقليدية وحديثة: وقد تجلَّتْ هذه الحالة في مستويات مختلفة. فمثلاً هناك مشاهد سياسية، كانت القوى السياسية التقليدية، هي الفاعلة والمسيطرة الحقيقية في هذه المشاهد. وكانت تونس ومصر والجمهورية اليمنية المثال الواضح في ذلك. والمقصود هنا الحركات الإسلامية، مثل حركة الإخوان المسلمين، أو من يأخذ بنهجها مثل حركة النهضة الإسلامية في تونس، وحزب التجمع اليمني للإصلاح في الجمهورية اليمنية. أو مثل الأحزاب التقليدية الأخرى، من ليبرالية ويسارية وقومية ويمينية، أو يمين الوسط. وهذه موجودة في البلدان الثلاثة المذكورة.
3. أحزاب وحركات دينية مختلفة الاتجاهات: وفي هذا السياق، يمكن أن نلاحظ ثلاثة اتجاهات: الأول المتمثل في الأحزاب والحركات، ذات العلاقة بحركة الإخوان المسلمين. وهذه موجودة في مصر وتونس وسوريا والجمهورية اليمنية. الثاني، يتمثل فيما يطلق عليها بالسنة أو السلفيين . وهؤلاء موجودون في ليبيا ومصر والجمهورية اليمنية. والجديد في هؤلاء أنهم - حتى قبيل حدوث« ثورات الربيع العربي» - كانوا لا يحبذون تنظيم أنفسهم في أحزاب وحركات منظمة وملتزمة، إن لم نقل إنهم كانوا يحرمونها أصلا. أما الآن، فنجد إنهم قد أعلنوا عن تنظيم أنفسهم في حركات سياسية منظَّمة.
أما الاتجاه الثالث، فيتمثل في الحركات والجمعيات الدينية ذات الاتجاه الشيعي. وهي موجودة في كل من البحرين والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية ، والجمهورية اليمنية، خاصة في المناطق ذات الأكثرية الزيدية، وعلى وجه الخصوص في صعدة.
4. حركات نقابية عمالية. وقد تجلَّى نشاط وفعالية هذه الحركات بوضوح، في المشهد السياسي في تونس فقط . وهذا يعود إلى الإرث التاريخي لهذه الحركة، في النضال من أجل استقلال تونس من الاستعمار الفرنسي. وقد حافظت هذه الحركة على وجودها واستمرارها، برغم ما تعرضت له من اعتداءات من جانب السلطات الحاكمة، المتعاقبة في تونس منذ الاستقلال، وخاصة في فترة حكم زين العابدين بن علي. ويمكن القول بأن الحركات النقابية العمالية، لم يكن لها أي أثر في المشاهد السياسية العربية الأخرى.
5. نخب مثقفة: وجدت نخب مثقفة في خضم المشاهد السياسية المذكورة، ولكنها لم تكن بتلك الفاعلية أو التأثير، كما هو الحال في القوى السياسية والاجتماعية الأخرى. وهذا يعود إلى الأسباب الآتية:
- لم يكن للنخب المثقفة ذلك الدور الفعال، الذي قامت به في مراحل سابقة. وهذا عائدٌ إلى الضربات المتتالية، التي تعرضتْ لها هذه الطبقة من جانب الأنظمة العربية. وبطرق مختلفة.
- التدهور المعيشي لهذه الطبقة، بسبب حالة الإفقار التي أصابت معظم الطبقات الاجتماعية، وذلك إثر تطبيقات برامج الإصلاح الاقتصادي في كثير من الدول العربية. وبسبب ذلك انشغلت طبقة الإنتليجنسيا(المثقفين) باللهث وراء لقمة العيش.
6. قوى ومكونات قبلية مسلحة: وهذه الحالة وجدت في كلٍّ من ليبيا والجمهورية اليمنية. ويعود ذلك إلى التكوين القبلي الواضح للمجتمعين المذكورين. وقد كان لهذه المكونات القبلية، دورٌ فعالٌ في حسم الصراع لصالح الجانب المنتصر.
7. تكوينات مسلحة: حيث نجد هذه الحالة في بعض المناطق في سوريا، وبدعم عربي وإقليمي ودولي. حيث يتجلَّى ذلك في الأعمال العسكرية، لما يسمى بالجيش الحر المنشق عن الجيش السوري، ضد الجيش وقوات حفظ النظام هناك. كما شاهدنا هذه التكوينات المسلحة في الجمهورية اليمنية. وهي التي تولَّتْ مقاومة قوات علي عبد الله صالح في كل من صنعاء وتعز، ومناطق نهم الواقعة شمال صنعاء. كما شاهدناها في أحداث ليبيا. وهي التي قامت بمجمل الأعمال العسكرية على الأرض ضد قوات القذافي، وبدعم من قوات حلف الناتو من الجو.
رابعاً: الأدوات أو الوسائل المستخدمة في المشهد السياسي العربي
أما بالنسبة للأدوات، أو الوسائل المستخدمة في هذه المشاهد، للوصول إلى تحقيق أهداف هذه « الثورات»، فيمكننا تحديدها في الآتي:
1. المسيرات والاحتجاجات والاعتصامات السلمية: وأبرز الدول التي أخذتْ بهذا الشكل، هي تونس ومصر والبحرين والجنوب(اليمن الجنوبي)، والمنطقة الشرقية من المملكة السعودية.
2. المسيرات والاعتصامات مضافاً إليها العنف: ويتمثل النموذج هنا في ليبيا وسوريا، حيث بدأ الحراك سلمياً، ثم سرعان ما تحول إلى حالة عنف.
3. العنف والتدخل الخارجي: ويمثل هذه الحالة كلٌّ من ليبيا وسوريا أيضاً.
4. الثورة المعلوماتية: وكانت هذه الحالة أكثر وضوحاً في كلٍّ من تونس ومصر أولاً، ثم لحقتها بقية المشاهد السياسية الأخرى، كلٌّ بحسب حاجتها إلى هذه الوسائل.
خامساً: أهداف المشاهد السياسية في البلدان العربية
مرتْ أغلب هذه المشاهد السياسية، التي حدثت - وما زالت تحدث - في بعض البلدان العربية بمستويين، أو مرحلتين من حيث أهدافها، وهما:
المرحلة الأولى: المطالبة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية.
المرحلة الثانية: المطالبة بتغيير الأنظمة السياسية.
وقد أخذتْ المرحلة الثانية اتجاهين:
الأول: المطالبة بإسقاط أنظمة الحكم في البلدان المعنية.
الثاني: المطالبة بإحداث تغييرات جذرية في هذه الأنظمة، ويمثل مطلب إسقاط النظام، الخطوة الأولى في هذا الاتجاه.
أما الخطوة الأخرى من هذا الاتجاه، فتتضمن سلسلة طويلة من الأهداف. وتتمحور أساساً حول تأسيس أنظمة سياسية حديثة، للوصول إلى بناء دولة مدنية حديثة. وفي هذا الإطار، يمكن ذكر بعض الأهداف على سبيل المثال لا الحصر:
1. إلغاء سياسة توريث الحكم في الأنظمة الجمهورية.
2. بناء أنظمة ديمقراطية في هذه البلدان التي حدث فيها الحراك السياسي.
3. تحقيق العدالة الاجتماعية.
4. صياغة دساتير عصرية، وكذلك قوانين مماثلة لها.
5. تحقيق المواطنة المتساوية في المجتمعات المعنية.
6. الفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية.
7. إعادة صياغة عقيدة المؤسسات العسكرية والأمنية.
سادساً: تقييمنا وتقديرنا للمشهد السياسي العربي
يمكننا تقييم وتقدير المشهد السياسي الذي حدث في البلدان العربية - التي تناولناها في هذه الدراسة - من خلال جملة من النواحي، وهي على النحو الآتي:
أولاً: من خلال تقسيم تلك البلدان إلى أربعة أقسام. الأول، يشمل تلك البلدان التي تمَّ فيها التغيير في قمة السلطة الحاكمة. وهي تونس ومصر وليبيا والجمهورية اليمنية. والثاني، تلك التي ما زالت الاحتجاجات مستمرة فيها. كما هي الحال في البحرين وسوريا. والثالث، تقع ضمنه البلدان التي حدثت فيها احتجاجات مماثلة، ولكنها تعثرتْ أو توقفتْ. وهو ما حدث في الأردن والجزائر والمملكة المغربية. وهذا يعود إلى أسباب مختلفة، نذكر منها؛ عدم نضج العامل الذاتي في هذه البلدان، وعدم القدرة على الدفع بتلك الاحتجاجات إلى نهايتها. والقيام ببعض الإصلاحات، كما حدث في المغرب. واستخدام العنف، أو استغلال الاختلافات العشائرية، كما هي الحال في الأردن. والخوف من الإسلاميين، كما هي الحال في الجزائر.
أما القسم الرابع، فيشمل كلاً من ثورة الجنوب(اليمن الجنوبي)، والاحتجاجات في المنطقة الشرقية من المملكة السعودية. وبرغم أن ثورة شعب الجنوب، قد سبقت جميع المشاهد السياسية الحالية بأكثر من أربعة أعوام وما زالت مستمرة، إلا أن المجتمع الدولي قد تجاهل هذه الثورة، ولم يعرها الاهتمام الكافي، على الأقل في الوقت الراهن. وهكذا هو الحال بالنسبة لاحتجاجات المنطقة الشرقية.
ثانياً: من حيث الأهداف المنجزة بالنسبة لتلك البلدان، التي حدثت فيها تغييرات في قمة السلطة. وهو ما يخص كلّاًٌ من تونس ومصر وليبيا والجمهورية اليمنية.
يمكننا ملاحظة أن ما تحقق - حتى الآن - في هذه البلدان، ليس سوى تغيير رأس السلطة، المتمثل في إزاحة رؤساء الدول فيها. وهو ما يعني بالضرورة، عدم إحداث تغييرات جوهرية في بنية، ومضمون الأنظمة السياسية المذكورة.
أما إذا تحدثنا عن إجراء الانتخابات للهيئات التشريعية - خاصة في تونس ومصر - فيمكن تقييم هذه المسألة من ناحيتين: شكلية وموضوعية. فمن الناحية الشكلية، يمكن إعطاء تقدير إيجابي لهذه العملية، باعتبار أنها اتسمت بطابع المنافسة بين الفعاليات السياسية، المشاركة في هذه العملية. وهذا صحيح. إلا أن عملية الانتخابات هذه، قد افتقرت إلى الموضوعية. وذلك من حيث، أولاً، أن الفُرص لم تكن متساوية بين الفعاليات المشاركة، والمتنافسة في عمليتي الانتخابات المذكورتين. بمعنى أن هذه الفرص كانت متاحة ومواتية فقط، بالنسبة للأحزاب التقليدية والقوى الإسلامية، وكذا بقايا النظامين السابقين في تونس ومصر. وذلك بسبب الخبرة المكتسبة لدى هذه القوى المذكورة. وبعكس ذلك تماما، فإن القوى والفعاليات الجديدة - التي شاركت في هاتين الثورتين - لم تكن فرصها مواتية للمنافسة في تلك الانتخابات. وهذا يعود إلى قلة خبرتها في الحياة السياسية بشكلٍ عام. ويعني ذلك، إن القوى الجديدة - الشبابية والطبقة الوسطى المثقفة - لم تستطع حجز مكانها الحقيقي، المناسب مع الدور الكبير الذي قامتْ به في تلك الثورات.
أما الناحية الأخرى، فهي خاصة بنتائج تلك الانتخابات، التي تحققت فيها أغلبية مطلقة للقوى الإسلامية في برلماني تونس ومصر. وهو ما يعني كذلك، أن القوى الاجتماعية الجديدة المذكورة آنفا، لن تتمكن من تحقيق أهدافها، التي حددتها لمشروع ثوراتها.
ومع أن سوريا قد أنجزت الكثير من الإصلاحات السياسية والتشريعية، الخاصة بنظامها السياسي، مثل: إصدار قوانين الأحزاب، والمجالس البلدية، والصحافة والإعلام، وتمت صياغة دستور جديد، وذلك بالمقارنة مع المشاهد السياسية العربية الأخرى كافة - بما فيها تونس ومصر - إلا أنها ما زالت تتعرض لهجمة شرسة، تهدف إلى إسقاط النظام السياسي فيها، والعبث بكيان الدولة. والغريب أن دولاً مثل السعودية وقطر، هما من يطالب سوريا بتطبيق الديمقراطية، مع أنهما لا يعترفان بالديمقراطية، بل ويعتبران الديمقراطية حراماً شرعاً. ناهيك عن البحرين، التي تعتمل فيها أهم وأعدل ثورة.
ثالثاًً: من حيث دور العامل الخارجي في هذه « الثورات»: ويمكننا تحديد هذا الدور، من خلال المواقف العملية الصادرة من الخارج تجاه هذه « الثورات»، التي يمكن تقسيمها إلى:
1. مواقف سلبية: وقد بدت لنا هذه الحالة في بداية قيام المشهد السياسي في تونس، وذلك كما أوضحنا ذلك في مكان سابق من هذه الدراسة. وقد تجلَّى ذلك في تفاجؤ الدول الغربية بهذه «الثورة»، والذهول مما حدث في تونس ومصر.
2. مواقف معادية: وقد أخذت مظهرين: الأول، هو عدم الاعتراف بثورة الشعب البحريني، والعمل على إجهاضها بالقوة المستخدمة من نظام الحكم في البحرين، وكذا بمشاركة قوات درع الخليج بقيادة السعودية. أما المظهر الآخر، فهي الطريقة التي استخدمت مع المشهد السياسي في الجمهورية اليمنية، المتمثلة في احتواء الاحتجاجات بواسطة المبادرة الخليجية، التي وقع عليها في الرياض من قبل السلطة والمعارضة في تاريخ 23 /11 /2011م. والتي عملت على حرف المشهد، وتحويله من « مشروع ثورة» إلى أزمة سياسية بين السلطة والمعارضة.
3. مواقف تحريضية: وقد تمثل ذلك في حرف الاحتجاجات في سوريا، وتحويلها إلى عمل مسلح ضد كيان الدولة.
4. التدخل العسكري المباشر، وذلك كما حدث في ليبيا بواسطة تدمير القوات العسكرية الليبية من جانب قوات الناتو، بذريعة حماية الثوار الليبيين على الأرض.
5. أعمال تخريبية: وهو ما نلاحظه في مجموعة الأحداث، والفلتان الأمني الذي يحدث في مصر. وسنتحدث عن ذلك لاحقاً. كما نلاحظ أن هناك جهودا حثيثة، لتحويل تونس إلى بؤرة معادية للقضايا العربية العادلة. وقد بدئت بعقد المؤتمر الخاص بأصدقاء سوريا. والمقصود بذلك توفير الدعم المادي والعسكري واللوجستي للمعارضة المسلحة في سوريا.
رابعاً: من حيث استمرار « الثورات « من عدمها:
يحق لنا أن نسأل عن الحالة، التي وصلت إليها المشاهد السياسية العربية حتى هذه اللحظة؟ وفي ذلك يمكننا ملاحظة الآتي:
1. تجمد الحالتين التونسية والمصرية عند وضعهما الحالي، أي الاكتفاء بما تحقق في هذين البلدين. وهو ما يعني بداية انتكاسة الثورتين، من خلال عدم إمكانية تحقيق الأهداف الأساسية الهامة لهاتين الثورتين، وفي مقدمتها بناء الدولة المدنية الحديثة.
2. وانطلاقا من الأهمية والموقع الهامين والمعروفين، اللذين تتمتع بهما مصر، فقد تركز النشاط التخريبي لكلِّ من الدول الغربية - وخاصة الولايات - وإسرائيل والدول الخليجية الموالية للغرب في اتجاه تعطيل « ثورة 25 يناير المصرية «. وذلك من خلال استخدام عدد من الوسائل، نذكر منها:
- إعاقة استمرار هذه الثورة، من خلال اختلاق مشكلات جانبية لها، مثل: الانفلات الأمني، والإضرابات الحقوقية، والنزاعات الأثنية بين المسلمين والأقباط، والاختلاف حول ترتيب الأولويات - من قبيل هل صياغة الدستور أولاً، أو انتخاب رئيس الجمهورية - والقائمة طويلة.
- تأجيج الصراع بين القوى الإسلامية من ناحية، والقوى الأخرى - بما فيها ائتلافات الشباب والأحزاب الليبرالية - من ناحية أخرى.
- إلهاء المجتمع المصري بعملية محاكمة الرئيس السابق وأعوانه. بما يعني توقف مسيرة الثورة.
- وغيرها من المشكلات الأخرى، التي لا نجد ضرورة لذكرها.
3. وفيما يخص ليبيا، وبالرغم من سقوط حكم القذافي، إلا أن النفق الذي حشرَ فيه هذا البلد، يبدو مظلما ومسدودا من جهتين. فثروات ليبيا صارت في حوزة الدول الغربية، التي تحمستْ ونفذتْ المهمات الأساسية لإسقاط القذافي. كما أن الحكَّام الجدد في ليبيا، ليسوا سوى دمى بيد القوى الغربية، وذلك بحكم أنهم صنيعتها. وبسبب الكيفية التي جرت بها الأحداث في ليبيا، بالإضافة إلى التركيبة القبلية والعشائرية للمجتمع الليبي، فإن هناك قوى جهوية متعددة، تتقاسم الحكم في ليبيا. والأهم من ذلك كله، أنه توجد صعوبة كبيرة في الحديث عن « ثورة». والصحيح أن ما حدث في ليبيا، هو إسقاط نظام حكم بأسلوب انتقامي بشع. وما بعد ذلك يبقى مجهولاً.
4. أما فيما يخص المشهد السياسي في الجمهورية اليمنية، فقد جرى حرفه من « مشروع ثورة» إلى أزمة سياسية بين السلطة والمعارضة. وقد جرى حلُّ هذه الأزمة بواسطة تدخل الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومجلس التعاون الخليجي، وخاصة السعودية، وحل هذه الأزمة بواسطة المبادرة الخليجية، الموقعة بين طرفي النزاع في 23 /11 /2011م، والمدعمة بقرار مجلس الأمن رقم(2014). وكانت هذه هي الخطوة الأولى، على طريق حرف ثورات الربيع العربي. وقد تناولنا هذه المسألة في دراسة مستقلة أخرى، بعنوان « قراءة للمشهد السياسي في الجمهورية اليمنية».
5. أما فيما يخص ثورة البحرين، والاحتجاجات في المنطقة الشرقية من السعودية، فهما لم يحظيا باهتمام المجتمع الدولي والإقليمي والعربي، برغم ما تتعرض له من قمع أمني متواصل، منذ اندلاعها في فبراير 2011م. وهذا يعود إلى حساسية المنطقتين، بالنسبة لكلٍّ من الغرب ودول الخليج. أي أن المصالح، هي التي تحكمتْ بموقف الخارج من هذه الثورة.
6. أما الحالة السورية، فهي الأكثر تعقيدا. لأن ما يحدث هناك هو صراع على سوريا، وليس من أجل الديمقراطية في سوريا.
ولأهمية هذه المسألة - وذلك بسبب عدم الفهم الحقيقي من جانب الكثيرين لما يحدث في سوريا - يمكننا تناول هذه المسألة من ناحيتين: الأولى، هي كيف تتعامل القوى، التي تهتم بالمشد السياسي السوري، بطريقة تختلف كليةً مع تعاملها مع المشاهد السياسية العربية الأخرى؟ أما الناحية الثانية، فتهدف إلى معرفة الأهداف التي ترمي هذه القوى، إلى تحقيقها من تدخلها بالشأن السوري، وبهذه الطرق والوسائل والدرجة؟
وقبل الإجابة على التساؤلين - أو الناحيتين - لا بد من معرفة القوى ذات العلاقة بهذا الموضوع. حيث يمكن تعيينها في كلٍّ من: الولايات المتحدة الأمريكية، التي تحولتْ إلى قلعة للرجعية العالمية، وذلك منذ مجيء رونالد ريجان إلى الرئاسة. ثم أوروبا ممثلة بالاتحاد الأوروبي، التي تحولتْ هي الأخرى إلى تابعٍ للسياسة الأمريكية، منذ مجيء مارجريت تاتشر إلى الحكم في بريطانيا.
ثم تأتي الدول العربية الموالية للسياسة الغربية - وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى وجه الخصوص السعودية وقطر. وقد تحدد دورها، من خلال تنفيذ ما يراد منها من القوى المذكورة سابقا، وبدرجة أساسية من الولايات المتحدة. أما باقي الدول العربية، فهي مشغولة ومهمومة بمشاكلها الخاصة بها. كما هي الحال بالنسبة لتونس ومصر والجمهورية اليمنية، المشغولة بمشاهدها السياسية، التي لم تتضح ملامحها بشكل نهائي. والجزائر والسودان والأردن الخائفة من رياح التغيير. والعراق المشغولة بمعالجة ما خلفه الغزو العالمي بقيادة الولايات المتحدة لها. أما تركيا التي حشرت نفسها كثيرا في المشهد السياسي العربي - كما حصل في حالتي ليبيا وسوريا - فالأمر له علاقة بموقع تركيا في حلف الناتو العسكري، وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
وبالعودة إلى موضوعنا الأساسي، يمكننا الوصول إلى إجابة على التساؤل الأول - الناحية الأولى - من خلال وضع المفارقات الآتية:
- إذا كانت هذه القوى - مجتمعة أو متفرقة - متحمسة لـ «الثورة» في سوريا، فلماذا لا تأخذ الاتجاه ذاته مع الثورة البحرينية مثلاً؟ برغم اختلاف الحالتين كما أوضحنا سابقا.
- وإذا كانت هذه القوى - مجتمعة أو متفرقة - مصرة على تغيير النظام السياسي كاملا في سوريا، فكيف تلاشى هذا الإصرار في المشهد السياسي في الجمهورية اليمنية؟ حيث جرى التعامل مع هذا المشهد باعتباره أزمة سياسية بين سلطة ومعارضة.
- وإذا كانت هذه القوى قد عارضت أعمال العنف - فيما يخص المشهد السياسي في كل من تونس ومصر والجمهورية اليمنية مثلا - فلماذا لم تكن كذلك، فيما يخص المشهد السياسي في سوريا؟ وخاصة ذلك العنف الصادر من قوى المعارضة.
- وإذا تذكرنا أن هذه القوى كانت على الدوام، تتحدث عن «الثورات الشبابية السلمية»، فلماذا لا تكون كذلك فيما يخص المشهد السياسي في سوريا؟
- وإذا تذكرنا إن هذه القوى - وخاصة الدول الغربية - تحرِّم استخدام العنف من أجل تحقيق أهداف سياسية، فلماذا لم يكن موقفها كذلك بالنسبة للحالة السورية؟
- وإذا تذكرنا إن هذه القوى ذاتها، تجرِّم أي تدخل في شؤون الدول الأخرى، وخاصة فيما يخص تغيير أنظمتها السياسية، فلماذا تسمح لنفسها ولغيرها بالتدخل في الشأن السوري؟ بما في ذلك مساعدة المعارضة المسلحة، وإمدادها بالسلاح.
- أما المهزلة الكبرى، فتكمن في تباكي الدول الخليجية - وخاصة السعودية وقطر - على حرية الشعب السوري المهدورة، والمطالبة بتطبيق الديمقراطية في سوريا، برغم أن أنظمة هذه الدول، ليست لها أية علاقة بملامح هذا العصر، إلا من حيث ازدياد شهيتها المستمر والدائم، على استهلال كلَّ إنتاج جديد يأتي من المجتمعات الغربية. أليس ذلك مضحكا؟ ناهيك أن السعودية تعتبر الديمقراطية والانتخابات، حراما من الناحية الشرعية الدينية. والأفدح من ذلك، أن هذه الدول لا تمتلك دساتير على الإطلاق. وهو ألف باء متطلبات وجود الدولة.
وفيما يخص الإجابة على السؤال الآخر، أو الناحية الأخرى. فإذا كانت الحرية والديمقراطية، والعدالة وحقوق الإنسان، ليست هي الهدف الأساسي من اهتمام هذه القوى(الدولية والإقليمية والعربية) بالشأن السوري؟ وذلك كما تبين لنا من محاجتنا السابقة. فما هي إذن الأهداف المطلوب تحقيقها في هذه الحالة السورية؟ وهذه هي مقاربة للإجابة على هذا السؤال:
أولاً: إذا تصورنا إن خروج القوات الأمريكية من العراق - وبغض النظر عن أسباب هذا الخروج: هل هو بسبب المقاومة المسلحة للوجود الامريكي في العراق؟ أو بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية في الولايات المتحدة؟ أو بسبب الانتخابات الرئاسية القادمة في الولايات المتحدة؟ أو لأهداف عسكرية أمريكية غير معلنة، تريد تنفيذها في مناطق أخرى؟ وأياً كانت الإجابة، فإن خروج القوات الأمريكية من العراق، سيؤدي إلى تكوين منطقة متصلة تمتد من إيران حتى لبنان. وهو واقعٌ غير مرغوب، لا للولايات المتحدة، ولا لحلفائها في المنطقة. وهو ما يعني تقوية المعسكر الذي يطلق عليه بقوى الممانعة، المكوَّن من هذه الدول المذكورة، وحزب الله وحلفائه في لبنان، والفصائل الفلسطينية التي ترفع شعار المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ثانياً: وإذا تذكرنا مجموعة البلدان التي شهدت « ثورات الربيع العربي»، فإن مصر تبقى هي المنطقة الأهم في كل ما حدث ويحدث، وما سيحدث. وهذا يرجع إلى الموقع والأهمية والتاريخ، الذين تمتاز بهما مصر. وهذه حالة معروفة، ولسنا بحاجة إلى التذكير بها.
ثالثاً: إلا أن ما يعني الولايات المتحدة، والقوى الأخرى المرتبطة بها - دولية وإقليمية وعربية - هما مسالتان أساسيتان. الأولى، هي المحافظة على المصالح الإسرائيلية في المنطقة؛ سياسياً وعسكرياً وأمنياً. وهذا لن يتحقق إلا من خلال المحافظة، على معاهدة السلام بين كلٍّ من مصر وإسرائيل، وضمان عدم تحوّل مصر إلى دولة معادية لإسرائيل. وهذا لن يتحقق إلا من خلال عدم حدوث تغيير جذري، ودراماتيكي في النظام السياسي في مصر. أي الحؤول دون استمرار المشهد السياسي، الذي نشأ في 25 يناير 2011م، ومن ثم عدم استكمال أهداف هذه الثورة. ومن هنا كان لا بد من وضع العصي في دواليب ثورة 25 يناير. وهو الواقع الذي تعاني منه هذه الثورة، والتي وصلتْ إلى حالة من الجمود. ولا نريد أن نقول حالة الانتكاس، على الأقل حتى هذه اللحظة.
رابعاً: ولأن حالة ثورة 25 يناير المصرية، ما زالت في حالة ميوعة. بمعنى أنها لم تعلن عن سقوطها نهائيا. وهو ما تريده القوى التي ذكرناها سابقاً. لذا توجهت هذه القوى ذاتها إلى الشأن السوري. وكانت الاحتجاجات هي المدخل المناسب لذلك. أي أن المظهر كان مساندة « الثورة السورية»، أما في الجوهر فإن المطلوب، هو تحقيق مجموعة من الأهداف الأخرى. نذكر منها:
1. تأجيج الاحتجاجات في سوريا ودفعها إلى نهايتها، باستخدام مختلف الوسائل العسكرية والإعلامية والسياسية والدبلوماسية، بما في ذلك استغلال المنابر الدولية والإقليمية، مثل مجلس الأمن والهيئة العامة للأمم المتحدة، والجامعة العربية، ومجالس حقوق الإنسان. وكان الهدف الأساسي، هو إسقاط النظام السياسي في سوريا، وصولاً إلى تدمير كيان الدولة السورية، وتمزيقها وتجزئتها.
2. وإذا تذكرنا حالة الإصرار نحو إسقاط النظام السياسي في سوريا، والتي ما زالت قائمة حتى الآن، مقابل التساهل مع حالات أخرى أسوا منها، فيمكننا تفسير ذلك بحالة عدم اليقين - عند القوى المهتمة بالحالتين المصرية والسورية - من حتمية سقوط «ثورة 25 يناير المصرية»، وبالتالي فقد أرادتْ وقررتْ هذه القوى، بتعجيل التعويض عن ذلك في سوريا. ولكن من خلال تقمص «الحالة الثورية» هذه المرة. ولذلك، فقد لاحظنا السرعة في وتيرة النشاطات التي قامت بها هذه القوى، بهدف تكرار الحلة الليبية. إلا أن العملية تعثرت، وذلك بفعل تدارك روسيا والصين لخطورة ما يراد تحقيقه، وهي عملية تصحيح للخطأ الذي ارتكباه في الحالة اللبيبة.
3. وباستثناء هدف إسقاط النظام السوري - التي أرادت هذه القوى تحقيقه - فهناك جملة من الأهداف الأخرى - المعلنة والغير معلنة - التي يمكن إبراز أهمها:
- إن إسقاط النظام الحالي في سوريا، سيؤدي إلى كسر المنطقة الجغرافية، المشكلة لجبهة الممانعة أو المقاومة(إيران - سوريا - لبنان - فلسطين). بما يعني إضعاف هذا المحور، وبما يعني تأجيل أو حتى إلغاء أية خطوات عسكرية، من المفترض أن تنفذها الولايات المتحدة أو إسرائيل، أو كلاهما ضد إيران، وذلك بسبب البرنامج النووي لإيران.
- إن إسقاط النظام السوري - أو بالأصح تدمير سوريا كدولة - سيعني التأثير سلبا على حلفائها، وخاصة حزب الله وحلفاءه والفصائل الفلسطينية، بالرغم من التأكيدات القاطعة للسيد حسن نصر الله - الأمين العام لحزب الله - بأن ما يحدث في سوريا، لن يؤثر على قوة وجاهزية المقاومة اللبنانية. -
- إن إسقاط النظام السوري - وما سيترتب على ذلك من نتائج - سيؤدي إلى تغيير العلاقة بين النظام الجديد المتولِّد في سوريا وبين إسرائيل. وبالطبع لصالح إسرائيل، وهذا ما افصحت عنه قوى المعارضة السورية من خلال تصريحاتها وإعلامها.
4. تحقيق مطامع وأهداف إسرائيل، ودفن قضية فلسطين إلى الأبد. وذلك بفعل هيمنة القوى الدولية والإقليمية والعربية المتحالفة مع إسرائيل سراً أو علناً.
5. حرف جوهر الصراع في هذه المنطقة، وتحويله إلى صراع قومي بين العرب وإيران، وصراع مذهبي بين سنة وشيعة.
6. الانقضاض على « ثورات الربيع العربي»، وذلك بعد أن تستكمل عملية تدمير سوريا بالقوة.
7. حماية الأنظمة العربية الموالية للغرب، خاصة الأنظمة الخليجية.
8. الوصول إلى تحقيق مخطط الولايات المتحدة، الخاص بإقامة الشرق الأوسط الجديد.
الخلاصة:
وباسترجاع ما سطرناه في دراستنا هذه، يمكننا أن نستخلص الآتي:
1. أكدتْ مجمل المشاهد السياسية، أو ما أطلق عليها بثورات الربيع العربي - التي حدثتْ في بعض البلدان العربية، أو في تلك التي ما زالت تحدث فيها - على وحدة معاناة الشعوب العربية في كلِّ مكان، ووحدة المشاعر والطموحات فيها. كما أنها أثبتتْ الإجماع على رفض الواقع المعاش في مجتمعاتها، ومن ثم الرغبة الملحة على تغيير هذا الواقع.
2. لقد أثبتتْ هذه المشاهد السياسية المذكورة، أن الأنظمة العربية الاستبدادية غير قادرة على الاستمرار إلى ما لانهاية في السلطة، برغم اعتمادها على المؤسسات العسكرية والأمنية، بالإضافة إلى تحالفاتها مع بعض الفئات المستفيدة منها.
3. بعد حالة المفاجأة والاندهاش والذهول من جانب الدول الغربية - وخاصة الولايات المتحدة - وبعد أن استفاقت من الصدمة، بدأتْ بالعمل سريعاً من أجل استيعاب الحدث، ومن ثم تحويله لصالحها. وفي ذلك فقد استفادتْ من ثلاثة عوامل، وهي:
الأول: عدم امتلاك « شباب الثورات» لبرامج سياسية واضحة. كما لم تكن لديهم أية تصورات عن متطلبات ما بعد نجاح ثوراتهم.
الثاني: انقسامات الشباب بين عددٍ كبير من الفعاليات السياسية والجهوية. بمعنى أنهم لا يمتلكون تنظيمهم، أو حاملهم السياسي الخاص بهم.
الثالث: وجود بقايا أنظمة الحكم السابقة، وبما تمتلكه من إمكانيات سياسية وتنظيمية ومادية. ناهيك عن بروز الانتهازيين والمنتفعين، الذين يحاولون قطف ثمار الثورة لصالحهم، مستفيدين من الفراغ السياسي والانفلات الأمني، وعدم وجود «كتلة ثورية» موحدة ومتماسكة.
4. يمكننا توصيف الحالة الراهنة - التي وصلت إليها «ثورات الربيع العربي» - بأنها من حيث الإجمال، تعتبر في حالة ميوعة. أي أنها توقفتْ وتجمدتْ عن مستوى معين، لا يسمح لها لا بالتقدم إلى الأمام، وبما يؤدي إلى استكمال أهداف ثوراتهم. ولا بالعودة إلى النقطة التي انطلقت منها. والمقصود بذلك العودة إلى سلطة الحكم السابقة. ولكن مع بقاء جوهر النظام السياسي القديم.
من حيث الحالة التفصيلية لهذه الثورات، فالأمر يبدو على النحو الآتي:
5. تحاول الولايات المتحدة استغلال المشهد السياسي العربي - الذي بدأ من تونس - من أجل تنفيذ مشروع «الشرق الأوسط الجديد «، بدءاً من التدخل في الحالة الليبية، ومروراً بحالات كلٍّ من تونس ومصر والجمهورية اليمنية، وانتهاء بالتدخل في الحالة السورية، وذلك من خلال الدفع بالوضع في سوريا باتجاه تدمير كيان الدولة.
6. إن الاهتمام الذي أظهرته كلٌّ من القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وبعض الدول العربية خاصة الخليجية - وفي مقدمتها السعودية وقطر، تجاه ثورات الربيع العربي - كان هدفه الأساسي، احتواء هذه الثورات من جهة، والقضاء على معسكر الممانعة من جهة أخرى. ومن خلال ذلك، فقد تأكد وجود تحالف قوي بين هذه القوى المذكورة وإسرائيل. بما يعني أن الهدف الأساسي من هذا الاهتمام، هو ضمان وتامين وجود إسرائيل، وجعلها القوة الوحيدة المتحكمة بسياسات المنطقة.
7. ومن المؤكد - وهو ما لا تريد الأنظمة الخليجية أن تدركه، أو تقتنع به - أن مجمل النتائج التي ذكرناها - إذا ما تحققت فعلاً - ستتحول إلى أسباب مباشرة وقوية، ستؤدي إلى فقدان قيمة هذه الدول في نظر الغرب والولايات المتحدة، وستصير بمثابة لقمة سائغة يمكن التهامها متى قررت الولايات المتحدة ذلك. والسبب ببساطة، لن يكون هناك عدو للغرب والولايات المتحدة، يستخدم كفزاعة في وجه دول الخليج والمجتمع الدولي.
8. وعندما رغبت الحكومات الخليجية، تفادي تأثير الاحتجاجات التي بدأت من تونس، سارعتْ هذه الحكومات - على الفور - باتخاذ إجراءات تهدف إلى الحالة المعيشية لرعاياها. وذلك من قبيل: زيادة المرتبات، ودفع الإعانات، وغيرها من الحوافز. ويعني ذلك، أن حكَّام هذه الدول، قد اختصروا مطالب شعوبهم في المساحة الممتدة ما بين طاولة الطعام، والأماكن المخصصة بإفراغ ما تحويه المعدة من مخلفات الطعام. وهذا هو منتهى التطرف في احتقار هؤلاء الحكام لمواطنيهم، حيث لا مكان لحرية الإنسان في قاموسهم. والمؤسف أن معظم شعوب المجتمعات الخليجية، قد رضيتْ واستكانتْ لهذا الواقع، باستثناء شعب البحرين والمنطقة الشرقية في السعودية. وهذا عائدٌ إلى خصوصية التركيبة الاجتماعية لهاتين المنطقتين، وذلك باعتبارهما من الطائفة الشيعية، التي تتسم في الغالب برفض الظلم ومقاومته.
9. كما نخلص إلى أن المشاهد السياسية العربية، قد بدأت «ربيعية» - وذلك من حيث القوى المشاركة فيها والأهداف المطلوب تحقيقها - ثم انتهت «خريفية أو شتوية»، وذلك من حيث القوى التي قطفتْ الثمار. والمقصود بذلك الحركات الإسلامية بمختلف اتجاهاتها.
وهذا ما تحقق فعلا في وصول الإخوان المسلمين والسلفيين في مصر، وحركة النهضة الإسلامية في تونس، وخليط من القوى الإسلامية - بما فيها قوى محسوبة على تنظيم القاعدة - في ليبيا، وحزب التجمع للإصلاح - الإخوان المسلمين - في الجمهورية اليمنية. ولازال الإخوان المسلمون وتنظيم القاعدة يقاتلان في سوريا.
10. وبرغم العداء المستحكم ما بين كلٍّ من القوى الغربية - بزعامة الولايات المتحدة - من جهة، وتنظيم القاعدة من جهة أخرى، إلا أننا نجد أن أهداف الطرفين، قد توحدت في كلٍّ من ليبيا وسوريا. حيث نلاحظ أن الولايات المتحدة - ومن ورائها حلفاؤها - قد تجاهلوا الإشارات والتحذيرات القوية، بصدد مشاركة تنظيم القاعدة في الحدثين المذكورين في ليبيا وسوريا. وبالعكس من ذلك، نجد أن الولايات المتحدة وحلفاءها، قد شجعوا وعملوا على تسليح المعارضة السورية. وهو ما يعني وصول السلاح إلى تنظيم القاعدة.
11. وفيما يخص بعض الانتقادات - التي وجهت إلى النظام السوري - فيما يخص عدم استخدام الجيش ضد إسرائيل لاستعادة الجولان السورية المحتلة، فالغريب أن هؤلاء يتجاهلون - والآن فقط - عدة مسائل ذات علاقة بهذا الجانب، وهي:
1. إن حالة الهدوء الحاصلة بين سوريا وإسرائيل، لها علاقة بقرارات دولية خاصة بوقف الحرب التي حدثت في أكتوبر 1973م. وهذه القرارات تعتبر ملزمة من الأطراف ذات العلاقة.
2. إن النزاع بين سوريا وإسرائيل، والنزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، قد جرى التعامل معهما على أساس انه نزاع بين العرب وإسرائيل. وعلى هذا الأساس تقدم العرب قبل فترة - ومن خلال الجامعة العربية - بالمبادرة العربية، لحل النزاع بينهم وبين إسرائيل. ويعني ذلك، أن قرار الحرب سيكون عربيا، على الأقل حتى اللحظة.
ولذلك، فإن أي انتقاد موجهٌ لسوريا حول هذه المسألة، ليس سوى للاستهلاك الفارغ.
3. أما تعامل قوى الجيش والأمن في سوريا مع الجماعات الإرهابية المسلحة، فإن ذلك له علاقة بوظيفة الدولة، للحفاظ على كيانها وحماية المجتمع.
وأخيراً يمكننا القول، بأن نجاح « ثورات الربيع العربي» من عدمها، مرهونٌ بخروج ثورة 25 يناير المصرية من عنق الزجاجة، الذي حشرتْ فيه عمداً، وكذا بخروج سوريا من الوضع الصعب، الذي وضعت فيه بفعل قوى خارجية. فسقوط هاتين المنظومتين، سيعني بالنتيجة سقوط «مشروع ثورات الربيع العربي»، ومن ثم تأجيل أي تغيير في المنطقة العربية إلى أجل غير معروف. ويعني في الوقت ذاته، انتصاراً للقوى الرجعية العالمية والمحلية.