تعيش مدينة عدن واحدة من أعقد أزماتها الخدمية، وهي أزمة شح المياه وتراجع كمياتها بصورة مقلقة. فالمصادر الثلاثة الرئيسية التي تغذي المدينة (بئر ناصر، بئر أحمد، وحقل المناصرة) تعمل اليوم بنحو 85 بئراً فقط، بطاقة إنتاجية لا تتجاوز 130 ألف متر مكعب يومياً، مقابل احتياج فعلي يتراوح بين 250 و300 ألف متر مكعب. هذه الفجوة الكبيرة تضع السكان في دوامة عطش ومعاناة لا تنتهي.
وللتخفيف من العجز، تحصل عدن بين حين وآخر على حصة محدودة من مياه أبين (حقل الروى)، تقدر بعشرة آلاف متر مكعب أسبوعياً، لكنها غير منتظمة، ما يجعل تأثيرها محدوداً. ومع مرور الوقت، يتسع الضغط على شبكة المياه، فيما تظل الحلول المطروحة مؤقتة ولا تمس جوهر المشكلة.
المعضلة تتفاقم أكثر مع هبوط منسوب المياه الجوفية بمعدل 3 إلى 4 أمتار سنوياً نتيجة غياب التغذية الطبيعية من الأمطار والسيول، وهو ما ينذر بخطر (نضوب المورد الجوفي) في المستقبل، أي (أزمة وجودية) تهدد حياة مئات الآلاف من السكان. يضاف إلى ذلك، انقطاع التيار الكهربائي وصعوبة توفير الديزل لتشغيل المضخات، ما يجعل الإنتاج غير مستقر ويعرقل عمليات التوزيع المنتظمة.
أما من الناحية المالية، فإن ضعف تسديد فواتير المياه يحرم المؤسسة من موارد حيوية كانت ستُوجَّه لأعمال الصيانة والتطوير. وإلى جانب ذلك، تبرز مشكلة الفاقد المائي كواحدة من أكبر التحديات، إذ تصل نسبته إلى ما بين 40 و60 في المائة من إجمالي الإنتاج بسبب الربط العشوائي والتسربات في الشبكة. ورغم جهود الفرق الفنية والإدارية لتقليصه، ما يزال الفاقد يشكل نزيفاً مستمراً يلتهم كميات ضخمة من المياه.
ولا يتوقف الخطر عند هذا الحد؛ فعمليات البسط العشوائي على حقول المياه تهدد الأمن المائي مباشرة. فالتعديات تعرقل خطط التوسع في حفر الآبار الجديدة وأعمال الصيانة للآبار القائمة، وتزيد من خطر التلوث الناتج عن البيارات القريبة من الحقول وفي قلب الحقل المائي. ومع غياب الرقابة والإجراءات الرادعة، تتحول القضية من أزمة خدمية إلى قضية أمنية وصحية تمس حياة الناس واستقرار المدينة.
ورغم الصورة القاتمة، هناك جهود تُبذل على الأرض: صيانة المنظومات الشمسية في حقل المناصرة، إصلاح المضخات، وحفر 20 بئراً جديدة في بئر أحمد بتمويل من البرنامج السعودي ومؤسسات خيرية كـ«صلة» و«العون المباشر». كما تُعد دراسات لإنشاء خطوط نقل مياه إضافية بقطر 600 و700 مليمتر لربط الحقول بخزانات محطة البرزخ، لتحسين التموين لمناطق كريتر وخورمكسر والمعلا والتواهي. لكن تنفيذ هذه المشاريع ما يزال مرهوناً بتوفير التمويل.
كل هذه الجهود، رغم أهميتها، تبقى حلولاً إسعافية لا تعالج جذور الأزمة. فاعتماد عدن الكامل على المياه الجوفية أصبح (خياراً خطيراً) لا يمكن الاستمرار فيه، خاصة مع الهبوط السنوي المتسارع في المخزون الجوفي. ولهذا، بات من الضروري الاتجاه نحو تحلية مياه البحر كخيار استراتيجي لإنقاذ المدينة من كارثة عطش قريبة.
التحلية اليوم ليست ترفاً ولا مشروعاً مؤجلاً، بل ضرورة حتمية لحماية حياة الناس ومستقبل المدينة. تجاهل هذا الخيار أو تأجيله يعني السير نحو مستقبل أكثر تعقيدا، وربما نحو كارثة إنسانية يصعب تداركها.
لقد آن الأوان لأن يُنظر إلى قضية المياه في عدن (كقضية أمن قومي) تتطلب تخطيطاً وتمويلاً مستدامين، ومساءلة صارمة لكل (من يعبث بالموارد). فالوقت يمضي سريعاً، وكل تأخير يعني مزيداً من الهدر والانهيار. وإذا لم يُتخذ القرار الشجاع اليوم، فقد يأتي يوم يصبح فيه الماء أثمن من كل شيء آخر.
