النفسية اليهودية قلقة وغير آمنة وتشعر دائماً بعدو قادم نحوها




- العقيدة الصهيونية أنتجت قاعدة اليقظة المستمرة والبقاء في حافة البركان
- الشعور بالأمان ما هو إلا خديعة تدفع باليهود نحو الفناء
- أفكار ونصوص كافكا مازالت في قائمة البحوث والدراسات العالمية لمعرفة التركيبة النفسية العقلية الطاردة لكل ما هو غير يهودي
- الصهيونية عملت على جعل أدبه من ركائز عقيدتها السياسية كي تكون على هذا البناء الثقافي لعمل وأفعال مؤسساتها الفكرية

عدن /14 أكتوبر/ خاص:
نجمي عبدالمجيد:
قيل عنه في الدراسات الأدبية والنقدية: هو جد أعلى لكتاب القرن العشرين وأبو الأدب الغربي الحديث وأكبر كاتب في اللغة الألمانية في عصرنا، وعبقرية لا يجود بها الزمن سوى مرة واحدة كل قرن.
قلما يكون أديب في حياته لغزاً محيراً ويصبح بعد مماته لغزاً أكبر يصعب على النقاد والباحثين حل رموزه مثل كافكا الذي اثار حوله زوابع من التفسيرات المتضاربة.
وفي موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية قيل عنه: (موضوعات أدبه هي الاحساس العميق بالغربة والعزلة الروحية حتى وسط الأهل والأصدقاء، والوعي بالذات وما يؤدي إليه هذا الوعي وعلاقة الانسان بالسلطة وبيروقراطيتها القاتلة والانسحاب والانسلاخ الاجتماعيين واختفاء الهدف والاحساس بالهزيمة.
وقد عبر كافكا عن هذه الموضوعات بأسلوب غامض مغلق لا يسمح بتسرب قطرة ضوء). لكن هناك من القراءات ما أدخلت أدبه في حلقات الاستحواذ والمواجهة مع مشروع الصهيونية كجزء من البناء الفكري لهذا الكيان، لذلك نجد بعض من درس هذا الأدب قد وضع تصورات لمساحات من الامتداد والتوسع في أكثر من اتجاه وهذا يعرف عند التفسير بالجغرافية النفسية لحال اليهود ليست في دوائرهم المغلقة بل ومن وجد به حالة في العالم، تلك الجماعات والثقافات والأوطان واللغات وكل صور التفرق والشتات والتي ترسبت في عمق الذات اليهودية بانها غير مقبولة ومنبوذة من محيطها، هذا القهر الاجتماعي الذي جعل من عزلة اليهود الدرع الواقي وصمام الدفاع عن اليهودية، خلق في أدب كافكا تصادمات مع العالم بل حتى مع الوجه الآخر من ذاتية اليهود.
القلق والخوف من عدو قادم وعدم الأمان من المكان مهما طالت مدة الاقامة والانتماء، شعور الغربة يدفع إلى الحذر والانتباه والاستعداد.
لقد عزت كتابات كافكا عمق الروح اليهودية وسمحت لقليل من النور بكشف مكامن الأوجاع وهذا ما ادخل هذا الاضطراب في جوهر الفكر الصهيوني.
ان الشعور بعدو قادم من المجهول كما جاء في قصة (الحجر) تقدم لنا البصمة البعيدة من وضع آلة الحرب في دائرة المواجهة.
الحذر دون قوة قاهرة لا يعطي الأمان. وفي مفهوم القوة الدائمة في ساحة الحرب لا ترى الصهيونية إلا بالتقدم نحو الامام عبر النار والدم وهدم ذلك الآتي بل محوه من ذاكرة الزمان.
لكن هل يذهب هذا الخوف لو ذهب ذلك العدو؟
في جانب الجغرافية الروحية نرى نزول افعالها على الجغرافية الطبيعية فلا يكون الامتداد النفسي إلا مع التقدم العسكري وهنا نرى هذا في رواياته سور الصين رمز لفرضية الحماية والعزلة، والسور هنا ليس الوضع المادي لشكل من الحواجز بل هو كيان يتضخم ويكبر كلما تصاعدت حدة العدوانية نحو الغير.
وان درسنا المسافة ما بين الحجر وسور الصين نجد ان الصهيونية السياسية قد أدركت ان الجحر لن يكون الملاذ الآمن تحت الأرض ان لم تكن هناك قوة ضاربة تسيج سلطة الحماية بأعلى مستويات الرد القوي والصارم، وهنا يأتي دور السلاح في عقيدة الدولة الصهيونية.
هذه الاشارات التي تلمح مثل بريق في سماء حملت من الرعود والسحب السوداء الكثير.
طرحت مسألة الغوص في نفسية النص الأدبي عند كافكا حالات من تخلخل الرؤية. هنا نجد وعي الذاكرة في الجانب الصهيوني تمسكاً بهذا الارث بكل اذرع الامتداد نحو مسارات الثقافة العالمية كي لا يقرأ هذا المبدع إلا في اطار هوية الصهيوني الحاكم بالعودة إلى أرض الميعاد.
انه اليهودي الذي ينفض عنه غبار الاغتراب والرحيل كي يعود إلى الوطن لكن تظل المعركة دون مسار للنهاية ومن بريق تلك الأضواء في أفق النفس يطرح كافكا علينا بل على التاريخ هذا التساؤل المأزوم:
هل الرجوع إلى الوطن ـ الوهم هو بداية لمراحل من الغربة والتوحش؟؟
ان هذا النوع من الشعور ظهر بقوة في روايته المسخ لكنها في قلب المجتمع الرأسمالي الغربي حيث يتحول الانسان إلى حشرة فاذا ملك الفرد المال عبر جنون الجشع، يسحق مثل كل سلعة تطرح في سوق العرض والطلب.
هنا ندخل إلى محراب عبادة المال وهو الجانب الذي ربط اليهود بنوعية من علاقة الفرد مع الغير.
المال يصنع روابط لكنها قد تصل إلى حد محو الانسانية من الذات، وربما تتطلب الحالة التقلب في الجوهر والمظهر مع صعود الرغبة في الوصول إلى المزيد.
الاستحواذ على المال لا يقل رغبة عن السيطرة على أرض الميعاد.
لكن لكل طموح ضرائب يجب ان تدفع، للمال فاتورة الانسانية، للأرض فاتورة الدم.
لقد ترك كل هذا في كيان ما كتب، غير ان كافكا لم يطرح خطاباً سياسياً بل غلف هذا بغلاف الرؤية الابداعية ـ الأدبية وهذا ما جعل قراءة نصوصه تدخل من باب التأويل والاسقاط نحو الابعاد من نفسية اليهودي وعلاقته مع العالم.
في قصة بنات آوى وعرب، وجد أهل النقد والدراسة الادبية أوليات الصراع بين العرب والصهاينة في تلك الصحراء وكأن الموت والميلاد يتصادمان في العدم.
لكن هذا التناحر لا ينتهي، بل هي عجلة تدور مع تقلب الأحداث.
الموت لا يحسم النصر لصالح طرف واحد. بل يصدمه الميلاد بمعنى لا فناء لطرف، ولكن الحرب تظل قائمة طالما الوجود مستمر.
وهناك من يرى غير ذلك، كافكا يرفض الحروب، لا يقاد خلف التأويل الصهيوني لأدبه.
فهو يرى النفس اليهودية في صراع دائم مع كيانها ، ولن تجد في صراعها مع الغير حالة سلام داخلي بعد تحويل الاتجاه من خلال خلق عدو من الخارج، وحتى الصهيونية التي جعلت من العرب الهدف المقدس في حربها معهم لن تصل إلى فترة التصالح مع نفسها طالما جوهر العداء يسكن في أبعادها المظلمة وهي في عرفها الحصن الحامي لانقاذ نوعها من الفناء.
ان تبقى نفسية اليهودي عند حافة البركان يعني استمرارية الشحن في درجة العدوان.
السلام مع الغير ما هو إلا غفلة عن الواقع المتوتر بأعلى درجات الانفجار.
اليقظة هي صمام أمان الوجود وكلما تعزز هذا الشعور تظل حالات الحفاظ على الوجود من مقدسات العقيدة اليهودية، لكن هذا في نفس الوقت يدخل في مواجهات مع افكار كافكا الذي يرفض وضع الانسان في ساحة الرهانات على المصالح وفي هذا يقول: (اعتقد ان عصبة الأمم ليست سوى قناع لأرض جديدة للمعركة. فالحرب مستمرة ولكنها تستخدم حالياً وسائل اخرى.
لقد احلوا مصارف التجار محل الفرق العسكرية. واستقرت الطاقة النضالية للمال في مكان الطاقة الحربية الكامنة في الصناعات.
وعصبة الأمم ليست عصبة شعوب بل مركز للمناورات وللتفاعل بين مختلف المصالح).
هل هذه الرؤية استشراف لحالة الانسانية اليوم؟
حروب المال والسيطرة وتدمير الشعوب وجعل الهيئات الدولية مجرد مراكز تتلاعب بمصائر الأوطان والأمم؟
هل هو الشعور الانساني فيه ام الحس اليهودي الذي خلق فيه هذا التصور عبر صعود الرأسمالية المتحكمة بالعالم ومراكز الاقتصاد اليهودية الكبرى في العالم والتي حولت كل القيم والمبادئ والأديان والثقافات والانسان إلى سلع في سوق الاحتكار والمصادرة. لقد أدرك كافكا أن النفس اليهودية لا تبقى في وضع المشاهد. ولكي تصل إلى حدة التمسك لابد من نسف كل ما يقف أمامها.
في رواية القصر نرى ذلك الغريب الذي وصل مع الغروب إلى قرية لا يعلم عنها شيئا باحثاً عن قصر ليعمل فيه، ولا يعرف من أمره إلا القليل.
هل يرمز القصر هنا إلى الوطن المجهول، والقادم هو اليهودي التائه؟؟
وهل ترمز رحلة العودة لمسافة سير من الغربة إلى المتاهة؟؟
هذا القصر الكبير المجهول من الداخل، الغريب من الخارج. وزمن الحضور عند الغروب، والجليد يفقد الطريق معالمها.
وذلك النزل الذي يصل إليه وبين صور لا يعرف لها من ملامح.
هي رموز تدل على أن العودة لن تكون إلى ذلك الحلم المنشود في الوهم، الضائع في الحقيقة.
كل الأشياء هنا لا تحمل غير المعالم المتقاربة، وهذا يعطي معنى أن الاغتراب يسجن كل الخيالات في شكله. والقصر مهما بلغ من التوسع يظل عند الشعور بالغربة مثل مساحة غرفة السجن المنفردة، الفاصلة بين الروح والعالم.
الاغتراب هنا ليس في الذهاب نحو المجهول، وما الضباب والظلام في الطريق إلا من رموز المنفى التي تعيد خلق الحالة من صور إلى أخرى.
الوصول لا يكون إلا عبر المتاهات، يعني لابد من مواجهات مع الآخر المجهول المجهول الذي يرى به من يقطع عليه محاولة الوصول إلى الهدف.
وتطرح الرؤية الصهيونية عن أرض الميعاد بما قاله الحاخام والمفكر إبراهام إسحاق كوك 1865 ـ 1935م: ( عندما يكون الإنسان في الأرض المقدسة يصبح خياله نقياً واضحاً، ونظيفاً طاهراً، قادراً على قبول الحقيقة الإلهية وكذلك على التعبير عن الحياة من خلال سيادة القداسة. هناك في تلك الأرض يكون الذهن مهيأً لإدراك معنى نور النبوة والاستنارة بإشعاع الروح القدس. إن الخيال في بلاد الأغيار يكون معتماً يغلفه الظلام وتتفيأ في ظلاله النجاسة، ولا يمكن أن يكون أداة للنور الإلهي وذلك عندما يحاول أن يرتفع عن ضيق مجالات الكون وانحطاطه. ولما كان العقل والخيال متشابكين يعتمد كل منهما على الآخر فإن العقل لا يستطيع أن يسطع بشكل خارج الأرض المقدسة).
تظل مسألة الأمان والحلم في الأرض المقدسة رحلة دائماً ما تبدأ من الأبعاد المظلمة والسحيقة في النفس اليهودية، غير أن صورة المعادلة لم تكن في هذه الهالة الوردية من التخيل.
الذهاب إلى هناك، الانتقال إلى حقب من النار والدم، ليس في الانتظار العسل واللبن. إنها أرض من صناعة الوهم في العقل. وفي الواقع لا استقرار فيها إلا مع السلاح. هي الحرب والموت بل حلقات النار وهذا خلال ما طرحه كافكا علينا في أكثر من مشهد وقراءة من خلال تصويره للعلاقة بين النفسية المتخيلة وبين الحقائق.
وهنا تأتي قضية محاكمة سلطة رجال الدين اليهودي، الذين زرعوا هذا الاعتقاد في النفس. من مدركات تصويب الاتجاه، في هذا الأمر قدم لنا رواية المحاكمة التي تعود إلى عام 1914م.
إنها هنا تصبح محاكمة لمعنى الحياة في الذات اليهودية، ولكن هنا تصبح المسألة أكثر حدة عندما تكون مع قيادات رجال الدين. صدام السياسة مع النص المقدس مع الفرد كذات وصناعة نوعية المصائر.
قرن من الزمان مضى على رحيل هذا العبقري، الذي كتب الكثير ولكن أعماله لم تر النور إلا بعد موته. لقد أوصى بحرق كل هذه الكتابات التي كان يظن أنها خارجة من نفس مجهدة من الأزمات وجسد يعاني الأمراض.
لقد كسر إنتاج كافكا حاجز الزمن، ومازالت تلك السراديب العميقة والمظلمة في خفايا النفس الإنسانية، تدفع بكل باحث ودارس للأدب، للذهاب إلى أبعد المسافات في التعمق والكشف عن تلك العوامل المكونة والصانعة لهذا القلق والاضطراب.
ولعل هذا التداخل والاسقاط بين أدب فرانز كافكا واستراتيجية الفكر الصهيوني قد دفع باعادة قراءة هذا الابداع كلما تصاعدت حدة المواجهات في الثقافة والدين. لن يخرج هذا العلم الخالد من ايديولوجية توظيف الثقافة من أجل الأهداف السياسية.
مما يطرحه علينا هذا النوع من الأدب المغلف بالرموز والذي لا يعطي طريقاً للعبور إليه منذ اول علاقة معه، بل يلقي بك في متاهات الضباب وفقدان الاتجاه، ويجعل من السراب حالة اندفاع نحو آفاق ليس من السهل أن توصلك إلى الأرض الموعودة.
في تلك القراءة لهذا الأدب نعيد اكتشاف الأزمة الساكنة عمق الذات اليهودية، وهي البحث عن الخلاص والوصول إلى ذلك الحلم عبر النار والموت.
المراجع
1ـ موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية
الدكتور عبدالوهاب المسيري
المجلد الأول الطبعة الثالثة عام 2006م
دار الشروق مصر.
2ـ هل ينبغي إحراق كافكا؟؟
بديعة أمين
الطبعة الأولى عام 1983م
المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت.
3ـ رواية: المحاكمة
تأليف: فرانز كافكا
ترجمها عن الألمانية: إبراهيم وطفي
الطبعة الثانية عام 2004م دار الحصار للنشر ـ دمشق.