مرت أكثر أيام هذا العام بحالة زخم ثقافي حافل بالأنشطة المتنوعة وبشكل لافت للنظر، في مدينة الرباط، المدينة الوادعة، باذخة الجمال والدقة، والتي يدهشك نظافتها ووداعة ساكنيها، فهنا لا تسمع صوت (بوق) سيارة مارة، إلا ما ندر مع سلوك لافت باحترام النظافة والهدوء. ولكنها خلال هذا العام كانت تضج بالحياة من فعاليات سياسية إلى مهرجانات للثقافة والنشاط المجتمعي. ومعرض الكتاب الذى اختتم هذا الأسبوع لم يكن مجرد فضاء لبيع الكتب. بقدر ما كان مساحة لندوات وأنشطة لا تحصى، وما يثير في الأمر جانبان :
الأول هذا الجيل الصغير الذى يسبقنا وعيا في استخدام التكنولوجيا والشغف بالمعرفة، وعكس ما نظن نحن عنه. من قصور بالوعي وعدم إدراك لما يجرى في ساحته العربية. والأمر ينسحب على كل جيل الأمة العربية في مختلف بلادنا. فإذا جلست إلى صغار هذه الامة تشعر كم ان الأمل لا يزال متقدا.
الثاني تنامي الوعي السياسي، وكنت قد حضرت لقاء لتلاميذ مدارس من القدس ضمن نشاط لبيت مال القدس الشريف بالرباط، ورأيت ذاك الوعي الذي يتجاوز حالة الإحباط التي يرسخها فضاء إعلامي محبط فينا ضمن روح الهزيمة، رأيت صغارا يدركون معنى الوطن والتلاحم، بعيدا عن خطاب التطرف والشعبوية، يدركون معنى مواجهة العدو بوعي وانتماء للقضايا القومية، والعروبة، وقضايا الإنسان العادلة. وكل ذلك بوابته فلسطين. فراية فلسطين هي الموحدة لكل تظاهرة. والناس في المغرب تختلف على كثير من الأمور إلا وحدة الأرض الترابية ونُصرة فلسطين. ولمن لم يتابع زخم المسيرات الجماهيرية الاسبوعية مع القضية الفلسطينية سيحتاج لأن يتابعها، ليرى الرباط نهار الأحد وهو يوم العطلة الاسبوعية كيف يتحول هدوء المدينة إلى سيل بشر، في قلب العاصمة الأجمل بالمنطقة. ومن مفارقات اللحظة ان كل الشوارع الصغيرة التي يطلق عليها (زنقة)، في قلب المدينة هي بأسماء المدن العربية، من شارع مصر الى زنقة بيروت، وزنقة غزة وعمان، وزنقة عدن وزنقة صنعاء، دمشق وغير ذلك. وكأن المكان بمسمياته العربية المتنوعة يعكس روحه على هذا الزخم الشعبي الواسع. وما يثير الإعجاب أيضا ان عشرات الآلاف من الناس تنهي مسيرتها، وتترك شوارع المدينة على نظافتها اللافتة وحرارة مشاعرها الصادقة.
وفى قاعة المؤتمر للمنظمات الحقوقية والاحزاب كما في الشارع، تجد علم فلسطين مع شعار المؤتمر، وكما ذاك ايضا في قاعة معرض للكتاب أو فضاء للموسيقى. وتتلمس شابة جميلة (فقدت بصرها)، طريقها الى المنصة لتغني للقدس مدينة الصلاة، حتى لتكاد توقن بأن فيروز حلقت من لبنان لتمنحها بحة صوتها، وتحس بنفسك تطوف في باب المغاربة بالقدس لا في مقر مؤسسة بيت مال المقدس، حيث تجد عشرات الناشئة يتلقون شغف المعرفة عن أولى القبلتين. وفي حفل تكريم للمبدعين منهم الفنان يحيى الفخراني والشاعر المغربي محمد بنيس، والراحل الكبير عبدالله البردوني، كانت الكلمات تخرج جلها من قاموس الوجع الفلسطيني وتغريبة هذا العصر، كان الكل يقرأ من كتب خُطّت من محبرةِ واحدة. وهي فلسطين.
هذا الحضور الفلسطيني في وجدان الناس وتفاصيل حياتهم، ينسف كل لغو ان الناس نسوا جرحهم الواحد، وان الهم أبعدهم عن قضيتهم. وذاك أمر تراه في كل زاوية بهذا الوطن العربي الممتد من الماء إلى الماء.
اما هذا الشغف المتصاعد من شباب صغير مع القضية العادلة، يؤكد أنها قضية أمة لا تموت، وأن هذه القضية لن يختطف رايتها تنظيم وحيد وفصيل وخطاب كاره للآخر. وان كل هذا التشظي المذهبي والصراع السياسي لا يفت في عضد الأمة، ولا يشوه وعي جيل صاعد مؤمن بقضيته. جيل تحميه فطرته السوية، لا برامج تنظيمات أصابها الوهن. وان هذه الجغرافيا المتباعدة تصبح أكثر تقاربا مع رفع قضية الأمة والحلم بوحدتها. وان الشمال البعيد للوطن العربي، هو جنوب قريب، وفى وسط قلب أمة يراد لها التمزق.
كنت قد قرأت معلومة عن الراحل الكبير الشاعر عبدالعزيز المقالح، عندما طُلب منه رأي حول مدى حضور العربية لغة وانتماء، وكان في مهمة بموريتانيا فقال كلمة «إذا كان يوجد عربٌ على ظهر الأرض اليوم فهم هؤلاء القوم»! وهو قول ينسحب على كل شمال إفريقيا، وخلال سنوات ليست بالقليلة، وانا أعيش تفاصيل هذا المكان موقنا بأنني أتنقل بين مدن في وطن واحد، لا يفتح لي الأبواب جواز السفر، بل قاموس لغة تحفظ نفسها دون جهد من أهلها. ورغم حالة البؤس التي تحيط بنا في أمة محاصرة بالحروب، والمشروعات الصغيرة، أجد بوعي جيل كامل حالة من الأمل زرعته فطرة سوية. وألقى هذا الشارع العربي من عدن والقاهرة، الى القدس إلى طنجة يوحده الأمل، بيقظة مرتقبة، ويتجاوز بشبابه الصغير الأكثر وعياً كل خلافات الساسة، نعم هؤلاء الصغار هم كبار هذه الأمة.