عندما وطئت قدماي الصغيرتان أرض عدن الطيبة عام 1969م؛ احتضنتني بحميمية طهرها الدافئ، وحب ناسها الطيبين، وحفتني برعايتهم، وفيها بدأت مشوار النور مع الفقيه سعيد السامعي، وشائف الصعيدي، وبومي الفارسي، وأقران عند هذا وذاك بينهم الصومالي، والقروي، والهندي، والبينيان، ثم بعد ذلك في مدرسة البادري ببنجسار مع ثلة من المربين والطلاب، بينهم من ذكرنا، وأصناف من مذاهب المسيحيين .
أحب بعضنا بعضاً، وتعامل الكل كأنهم في بيت، أو من بيت واحد، دون النظر إلى جنس أو لون، أو دين، بل لقد بلغ من ذلك أن صارت بيننا صداقات، وزيارات ودية إلى البيوت، مع أنني كنت أسكن كوخاً خشبياً جد متواضع، وأعيش حياة خشنة، فلم يمنع هذا من ذلك، فتعززت الثقة، وصرت مرافقاً لواحد من أبناء إحدى أسر العاملين في شركة الخطوط الجوية الهندية، وهي أسرة هندوسية جد مهذبة وحنونة، ومتواضعة أيضاً؛ مع رغادة معيشتهم، وتواضع حالي .
أوردت هذه المقدمة الطويلة؛ لا لأعبر عن مشاعري تجاه أناس عشت معهم، أو لأجامل هذا أو ذاك، فإنهم ما عادوا يعرفونني أصلاً، وما عدت ألقاهم، بل صار كلٌّ منهم في بلده، لكن عدن بقيت كما هي طيبة، دافئة، تحب الأيتام، والمساكين، وتؤوي الملهوفين، وتكرم ضيوفها كعربية أصيلة، لكنها كقلبها النظيف؛ لا ترضى بالخبث، ولا تقبل التطرف، والأحقاد، وعقليات الكراهية .
هذه عدن المظلومة كأبنائها، المكلومة بخناجر من حمتهم، المنكوبة بفعال من أحسنت إليهم، وآوتهم، إذ لم يمر على الاستقلال سوى أقل من سنتين حتى قفزت ثلة مراهقة من شياطين الأحقاد، ومن مختلف الصحارى القاحلة، المجدبة، كل يعلن نفسه إمبراطوراً، ومَلَكاً طاهراً، ومنقذاً للثورة، وحامياً لحمى الاستقلال، والسيادة؛ التي ذبحت أصلاً في أول وليمة صعدوا بعدها إلى قمة السلطة، جراء الخيارات المهلكة التي تشبثوا بها، وكل لنصرة قريته، وقبيلته يدندن !!
ومع ما سمي بالأيام السبع المجيدة، وهي المقيتة بامتياز؛ أصبحت عدن مثل كل صحاريهم، حتى النفوس .. لوثوا كل شيء .. أحرقوا زهرة عدن .. نعق الغراب المجوسي بطرب مقزز .. خُفِّضت الرواتب .. طارت أغلى الكفاءات إلى المهاجر ودول الجوار .. اتسعت معاناة السكان المحاصرين بقرار منع السفر .. كل شيء مرغوب صار معدوماً، ومن أجل كيلو بصل أو بطاط تطول الطوابير حتى ما يقارب الظهيرة، والمواطن بعدها بين مهام العمل، ومهام البيت، ومهام مراقبة أخيه، أو أبيه المحسوب كقاعدة على الثورة المضادة، أو التيار الفكري ( المناطقي حقيقة) المضاد؛ هذا إن لم يكن مجنداً أو مقاتلاً في مهام وقائية، أو قتالية ، داخلياً، وربما خارجياً .
ومرت السنون، والبلد في صراع دائم، وكقول القائل : كسَّر بيته وعمر ثاني، والأشد نكاية تلك الأرواح التي خسرها الوطن، فضلاً عن الكوارث المهولة التي ظلم فيها الكثيرون، وفي مقدمتهم القائد الوطني الفذ سالم ربيع علي، الذي راح ضحية مكيدة جائرة من بعض الأطراف المناطقية المتدثرة بالشعارات الماركسية الزائفة، والتي لم يعتقدها حتى مستوردوها الأصليون، وحتى آخر لحظة لوفاتها في موسكو .
ثم دخلت عدن الوحدة، ورفع فيها العلم الوحدوي لأول مرة، وعلى أمل أن يعاد إليها شيء من حقوقها المسلوبة؛ كأرض لم تعرفها الدنيا إلا موئلاً للثقافة، ومحضناً للتجارة، وملاذاً للمحبة، والإخاء، والتسامح الديني، والفكري .. لكن، لم تجد سوى لكن، محشوة في الوعود، وجعجعة الإعلام، وحرب 1994م، ثم جاءت الخصخصة، ثم أفكار تأجير الميناء للأجانب؛ لتقضي على آخر الآمال، وترمي الآلاف في قارعة البطالة مابين جوعى، و(شحاتين ) ومجانين، وما بين هذا وذاك .
واليوم .. نحن في مستهل عهد جديد بعد ثورة 11 فبراير 2011م، وبعد شهور طويلة من الحوار الوطني الشامل، هاهي القيادة السياسية برئاسة الأخ عبد ربه منصور هادي رئيس الجمهورية تحاول أن تعيد الاعتبار لعدن الغالية، ومؤشر الخير قد لاح لكل ذي بصر، وبصيرة : أن تعطى عدن ما تستحق من الامتياز؛ كعاصمة إقليم أولاً، وكعاصمة تجارية ثانياً، ولكن ـ أقولها ويا للأسف ـ ومع ما بذلته، وتبذله قيادة محافظة عدن ممثلة بالأخ المهندس وحيد علي رشيد من جهود لإعادة المحافظة إلى مسارها التنموي، الطبيعي؛ بتعزيز السكينة، وطمأنة الاستثمار، وإعادة مختلف أشكال الخدمات إلى طبيعتها، وفي مقدمتها الكهرباء، والمياه، والنظافة؛ إلا أن بعض البشر ما زال حتى الآن لم يفهم، ولم يتعظ، بل يبحث عن أمجاد القبيلة، أو القرية في هذه المدينة .. إنه لا يريد أن يتعلم من التأريخ والأحداث .. لا يريد سوى الخراب .. وحقيقة أصبح الحليم لا يدري كيف، ولا من أين حل عندنا وحوش الصحراء الهرمة من جديد ؟! ولا يدري كيف، ولا من أين جاءت إلينا جحافل التطرف والإرهاب النتنة، وخصوصاً بعد مراحل طويلة من المعاناة من العنف الذي لم نحصد منه سوى الويل والثبور ؟!
ومع هذا؛ كلهم يدعي حب عدن، ولكن بقتل أهلها الآمنين !! ويدعون عشقهم لعدن ؛ ولكن بتلويث تأريخها المشرق، المضيء !! وهكذا .. وكأنه لا ينقص هذه المدينة سوى مزيد من الخراب، والقتل، والرعب، والصراع، والأفكار الضيقة، والمريضة .
ترى؛ متى يصحو هؤلاء المفتونون برمال الصحراء، ورائحة الدم والأشلاء، وأهواء القرى الضيقة على نفسها، وإرادات مقاولي الصراع في الداخل والخارج، وناشري الفتن؛ الذين لم يستثنوا من النضال، وصوره حتى سيارات، وأدوات، وبراميل القمامة، التي ينهبونها، ويحرقونها، وينشرون محتوياتها، ودخانها في الأزقة، والشوارع مهددين حياة الناس، وصحتهم، وبيئتهم بالخطر؟!
يا هؤلاء !! ألا يمكن أن تراجعوا أنفسكم ؟! ألا يمكن أن تدركوا : إن عدن لا تقبل بكم، وأنها لا تفتح ذراعيها الحانية إلا للطيبين فقط، وأن بحر عدن الطاهر؛ لا يستسيغ الموتى أبداً، وعلى الإطلاق !! .
إلى مسوقي الرعب : لا مقام لكم في عدن !!
أخبار متعلقة