هالَني عدد الرسائل التي وصلتني عبر البريد وصفحة التويتر وصفحة الفيس بوك..
إذ يسأل أصحابها، وأكثرهم من الشباب، عن صحة الحديث الذى يُبيح قتل من خرج على الحاكم، فاستغربت من تكرر السؤال في وقت واحد وسألت: ماذا يجري؟ فأجاب أحد الشباب بأن «دكتوراً أزهرياً» أفتى في حلقة تليفزيونية بقتل المعارضة إن دعت إلى خلع الرئيس، مستشهداً بحديث في صحيح مسلم مع شرح الإمام النووي للحديث.
فلما استمعت إلى الحلقة المذكورة كاملة برزت مسألتان:
الأولى: صحة الحديث، وما يترتب عليه من حكم شرعي.
الثانية: صحة تطبيق الحديث على الواقع الـمُشار إليه.
وسأتناول المسألتين في هذه الخاطرة بعرض نص الحديث وشرح الإمام النووي له ومدى مطابقة ذلك لواقعنا المعاصر.
ولكن قبل ذلك أؤكد أن الفقير إلى الله لا يقف موقفاً سياسياً يؤيد أو يعارض طرفاً من الأطراف السياسية المتنازعة، وإنما يحاول إزالة اللبس الذي حصل في فهم النصوص والأحكام الشرعية المترتبة عليها، ما أدى مع تكرر هذا الطرح بل وظهوره مواكبا لاغتيال أحد رموز المعارضة في تونس بعد إعلان استباحة دمه، إلى تشكك شريحة واسعة من الشباب في صحة هذا الدين الكريم ورُقي الشرع الشريف، وكل ذلك بسبب تهوّر البعض في تسوّر النصوص الشرعية بغير تأهل علمي ولا تبصُّر بالواقع الذى تُطبَّق الأحكام عليه.
وإليكم النص الـمُستشهَد به من الحديث مع تكملته التي أُهمِل ذكرها في الحلقة:
«ومن بايع إماماً فأعطاه صفقةَ يده وثمرةَ قلبه، فليُطعْه إنِ استطاع، فإنْ جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر. (يقول الراوي): فدنوت منه (أي الصحابي) فقلت له: أنشدك الله، أنت سمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا، والله يقول: {يأيُّها الذين آمنُوا لا تأكُلُوا أموالَكُم بينَكُم بالبَاطِلِ إلّا أنْ تكونَ تجارةً عن تراضٍ مِنكُم ولا تقْتُلوا أنفسَكُم إنَّ اللهَ كان بِكُم رَحِيْماً}، قال: فسكت ساعة، ثم قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله».
ونص شرح الإمام النووي الذى استشهد به:
«قوله (صلى الله عليه وسلم): (فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر) معناه: ادفعوا الثاني، فإنه خارج على الإمام، فإن لم يندفع إلا بحرب وقتال فقاتلوه، فإن دعت المقاتلة إلى قتله جاز قتله ولا ضمان فيه، لأنه ظالم متعدٍّ في قتاله».
وعند الرجوع إلى أهل العلم اتضح أن الحكم هنا بالقتال متوقف على توفّر الشروط الآتية:
1. أن يكون الحاكم خليفة مبايعاً بيعة شرعية وفق نظام الخلافة «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه»، وفى صحيح مسلم أيضاً: «إذا بُويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». وهذا لا ينطبق على عقد الحكم في الجمهوريات ذات النظام الديمقراطي المعاصر، فهو يقوم على أساس الحكم الانتخابي المؤقت، كما أنه يسمح للمعارضة بالعمل على خلع الرئيس بالوسائل السلمية إذا أخلّ بعقد النظام الديمقراطي.
2. أن تكون القلوب مجتمعة على هذا الخليفة غير مختلفة حوله. وفى نفس الكتاب «صحيح مسلم»، باب حكم من فرّق أمر المسلمين وهو مجتمع، قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشقّ عصاكم أو يُفرّق جماعتكم فاقتلوه»، والـمُطالع لأحوال الأنظمة التي نشأت بعد ما سُمي بالربيع العربي يدرك أن الأمر لم يستقر لها بعد، وأنها في مخاض متعسر لم يصل، حتى الآن، إلى مرحلة اجتماع القلوب على نتائجه.
3. أن يكون الخروج عليه مسلحاً، وذلك بالعمل على تجهيز جيش أو فرقة للقتال، حيث كان هذا هو السبيل المتعارف عليه قبل انتشار ثقافة العمل السياسي السلمي، ولهذا علل الإمام النووي جواز قتله بعلّة أنه تعدى أولاً باللجوء إلى القتال: «لأنه ظالم متعد في قتاله»، والتنظيمات السياسية المعارضة في هذه البلدان تُعلن التزامها بالقواعد الديمقراطية في سعيها السلمي وتستنكر العنف المسلح.
وهنا يتضح مدى الخلط الذى وقع فيه من استشهد بهذا الحديث الشريف.
ولعل هذا الخلط يرجع إلى سببين:
الأول: تصدّر غير المؤهلين للحديث عن الشريعة، فأخي الدكتور الأزهري الذي تسبب في هذه المشكلة لم يحصل على شهادته الأزهرية في الشريعة أو أصول الدين، بل كانت في بلاغة القرآن، وهي دراسة لا تؤهل صاحبها للتصدر في بيان الأحكام الشرعية، وإن كانت له دراسات شرعية أخرى فإنها لم تكن في الأزهر الشريف ولا على منهجه، وكم من دارس للشريعة في الأزهر الشريف يأتي وله انتماء لغير منهج الأزهر فيجعل من دراسته في الأزهر وسيلة لنيل الاعتراف به عبر الشهادة الأزهرية!
وقد رفض الأزهر الشريف هذه الفتوى واستنكرها، بل وأشار إلى احتمال تعرض من أصدرها للتأديب.
ورحم الله الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني حيث قال: «من تكلم في غير فَنِّه (تخصصه) أتى بالعجائب».
الثاني: قبول التنظيمات التي ترى أنها تعمل لخدمة الإسلام عبر العمل السياسي لخوض غمار السياسة تحت مظلة الديمقراطية، مع كون الكثير منهم يُصرِّح بأنه لا يراها نظاماً شرعياً، وإنما يجدونها الوسيلة المتاحة للتوصل بها إلى تطبيق الشريعة، ومنهم من عمل على إلحاقها بالشورى على اعتبار أن النتيجة الحتمية لها هي تصويت الشعوب المسلمة لصالح الشريعة.
ولهذا لوحظ عليهم الاستشهاد بقواعد العمل السياسي الديمقراطي عندما تكون موافقة لمشروعهم، ويُهرعون إلى النصوص الشرعية عندما لا تكون هذه القواعد موافقة لمشروعهم.
وهذا سيجعل هذه التنظيمات في حرج كبير إذا ما سارت الأمور على خلاف ما يتوقّعونه وأدّت هذه التجربة إلى نفور غالبية الشعوب من قبول الاحتكام للشريعة المطهرة بسبب عدم نجاح هذا المشروع، أو بسبب نتائج هذا التخبط في التترس خلف النصوص الشرعية، كلما أخفقت هذه التنظيمات في التوصّل إلى مبتغاها بالآليات الديمقراطية التي أعلنوا الالتزام بها.
ولله درّ القائل: «الفَطِن هو من يُقنع الناس بالدين عبر سياسته وليس من يقنع الناس بسياسته عبر الدين».
مع ملاحظة أن غالب التنظيمات الملقّبة بالإسلامية قد رفضت هذه الفتوى وتبرأت منها.
وأكرر هنا أن هذا التبيين لا يعني بحال من الأحوال تأييد فريق ضد الآخر ولا تأييد آلية العمل الديمقراطي أو رفضه، فليست العملية السياسية هي ما يشغل الذهن بل أثرها على إيمان الناس.
وقد وصلت ردود الفعل على هذا الواقع إلى نفرة شريحة متسعة من الشباب عن الدين، بل وصلت إلى حد اهتزاز الثقة فيه.
وهذا ما لا يدع مجالاً للسكوت عن هذا التخبط الذي نعيشه ويصطلي الجيل بناره التي تلتهم أعظم ما لديهم وهو إيمانهم.
والخلاصة أن هذا الاستشهاد بهذا النص الصحيح باطلٌ لأنه في غير موضعه.
وختاماً: أعرض عليكم نصوصاً لأحاديث من الكتاب نفسه الذى رُوي فيه هذا الحديث، وهو «كتاب الإمارة» من صحيح مسلم:
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم من ولى من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولى من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به».
وقال: «إن شر الرعاء الحطمة»، أي إن شر الحكام هو من يُحطم شعبه ويصل بهم إلى الدمار.
وقال: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف».
وقال: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة».
وقال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلّون عليكم وتُصلّون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم».
اللهم اهدنا لما اختُلف فيه من الحق.
فـــتــوى الــقــتـل الآثــمــة
أخبار متعلقة