يقيني أن النظام المصري الراهن، الذي يقوم علي رأسه الدكتور محمد مرسي، يقع جوهريا في الخطأ الاستراتيجي القاتل ذاته، الذي وقعت فيه الأنظمة السابقة، التي تداعت قواعدها وحوائطها وأسقفها بفعل زلزال الغضب الشعبي. ويقيني أنه إذا ظلت العوامل علي حالها والتفاعلات وفق طبيعتها والشقوق بعمقها، فإننا نسير وبغض النظر عن التوقيت أو المسافة إلى لحظة الانفجار الكبير ذاتها، وإن كانت تلك اللحظة في هذه المرة سيكون إيقاعها الدرامي أكثر حدة، ومضاعفاتها أكثر قسوة، ومنتوجها صدامًا وانفصاما وأنقاضا ودما، أكثر اتساعا وسخونة.
ذلك أننا أمام قوتين متصادمتين واقعيا، الأولى قوة شعبية ازدادت دوائرها اتساعا يتخللها إحساس طاغ واقعي وعميق، بأن ثمرة الثورة التي غذتها صبرا وجلدا وقهرا ودما، قد قطفتها كاملة بالغدر والخديعة يد قوة أخرى، وأن ما تبقى لديها هو حصاد الهشيم، مجرد أحلام مجهضة وآمال مستلبة ومستقبل لا يشي بغير الاستبعاد والتهميش والاحتكار، فضلا عن أن آفاقه لاتزال مسدودة بمكعبات جديدة مضافة من التمييز والفقر والعوز والجوع. والثانية، قوة مغلقة زين لها حضورها المنظم ومالها المتدفق وصعود أحد رموزها إلى سدة الحكم، وإحساسها الطاغي بالقدرة والغلبة، وجسورها المفتوحة توافقًا مع مصالح قوى الإمبريالية الدولية المسيطرة، أنها صاحبة الاستحقاق في فرصة تاريخية متفردة، غير قابلة للتكرار بأن تفرض سلطتها القاهرة دون منازع، وسلطانها الجائر دون مشارك، وقانونها الأعلى دون معقّب، وأن تحصن بجميع الوسائل مشروعة وغير مشروعة ديمومة السلطة، وأبدية السلطان، ووحدانية القانون.
والمشكلة في ذلك أننا أمام ضفتين متباعدتين، تريد كل منهما استحقاقها الذي تراه كاملا غير منقوص، وإذا كانت القوة الأولى بجماهيرها الشعبية الواسعة غير المنظمة، قد اتسعت دوائرها المشتعلة غضبا في أنحاء مصر كلها، فإنها لا تملك إلا حضورها السلمي في الميادين، وحناجرها التي تخوض سباقًا مبررًا لتعلية سقف الشعارات والمطالب، وهو بدوره ما يشكل دالة على عمق الغضب تحت صخور الإحساس بالامتهان والاستلاب والخديعة، أما القوة الثانية المتحصنة في قصر الرئاسة ودوائره، فتبدو في توجهها العام أقرب إلى نصف بيت من معلقة امرئ القيس ‘كجلمود صخر حطه السيل من علِ’. وواقع الأمر بذلك أن القوة الثانية التي تملك إمكانية إظهار المرونة وتغليب قواعد التوافق سادرة في غيها، لا تريد إلا أن تثقل موازينها دون أن تتنازل عن شرو نقير، فهي تريد أن تأكل وحدها رغيف السلطة دون تفريط في كسرة منه أو حبة قمح، وهي تريد أن تحتكر مائدة السلطان وحدها دون أن ترمي للأفواه المفتوحة من حولها، حتي ما قد يعد من بقايا المائدة وفضلات أطباقها.
وواقع الأمر بذلك، بل واقع الخطر الهائل المحدق بنا في الحقيقة، أن السلطة القائمة، هي التي تفرض قاعدة المواجهة وقانونها، وأنها تحولها بإصرار بالغ، وضيق أفق نادر، وحسابات ذاتية مرتبكة وغير سليمة، إلى نمط غير مسبوق في جميع الصراعات، التي اكتنفت التاريخ الوطني، والتي جرت بين حاكم وشعب، أو بين شعب وجماعة حاكمة، إلى ما يسمى في العلوم الاستراتيجية بالمعركة أو المباراة الصفرية، أي إما غالب وقاهر ومسيطر، وإما مهزوم ومقهور ومستلب، بمعنى أدق إما حاكم فرد وشعب خانع، أو حاكم مخلوع وشعب قادر، وتلك هي المعضلة حقًا، التي تجعل وجه المستقبل الوطني في مرايا المستقبل القريب، مساحات متداخلة من الكسور والشقوق والجروح والدماء.
***
إذا كان الله عز وجل وعلا، يقول في كتابه الحكيم: « لا إكراه في الدين » فهل يمكن أن يرضى الله بإكراه في الحكم؟ وما حدث من أوله إلى آخره لا يخرج عن كونه إكراها حقيقيا في الحكم، رغم تعدد وسائله وأساليبه، بل هو إصرار متسلط غير مسبوق علي أن يكون الحكم بكل مستوياته وأدواته، إكراها خالصا. لقد تحدثت في البداية عن تكرار الخطأ الاستراتيجي القاتل، الذي وقعت فيه كافة الأنظمة السابقة، فتداعت أسقفها وحوائطها وقواعدها، تحت زلزال الغضب الجارف، دون أن أشير إلى هذا الخطأ بذاته، وهو بالتحديد: تخفيض التناقضات مع الخارج غير الوطني على حساب تصعيد التناقضات في الداخل الوطني، وهو عندي العلة الأساسية التي خرجت منها كل العلل وكل الأعراض وكل الأمراض، وهو بنيان جهنم الذي تولَّد داخله وقود الغضب واشتعل، وشكَّل طريقه مندفعا إلى كل انفجار كبير. ودون تفصيل جارح فقد كان منطق الحكم في كافة تلك الأنظمة، لا يخرج عن معادلة واحدة هي التكيف مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما، وأنه يمثل الضمانة الأساسية للبقاء فوق مقاعد السلطة، وأن استرضاء الولايات المتحدة وحلفائها، هو الذي يحصن السلطات من السقوط، ويمهد لها أسباب الصمود والبقاء، في مواجهة شعوب ظل ينظر إليها علي أنها جبلت على الخضوع وعلى القبول بما يفرضه الأمر الواقع. فقد انتزعت روح الثورة من صدورها وصودرت أسلحة التمرد من قلوبها، إضافة إلى حضور ترسانة من القوة تستطيع في اللحظة الحاسمة، أن تفرض الاستكانة والخضوع، والحقيقة أن ثورة 25 يناير كان واحدا من أهم دروسها ناطقا بدحض هذين البعدين المندمجين في عقيدة السلطات الحاكمة، فالغرب ليس الله الذي يدافع عن الذين آمنوا، وأدوات الضبط الاجتماعي لا تعمل في وسط غير متجانس معها، أي أنها تفقد فاعليتها مع ترنح النظام المعنوي للسلطة -أي سلطة- أي انخفاض درجة القبول الشعبي بها، لكن أكثر الذين مروا بمثل هذا الدرس مروا خفافًا وكراما، فلم يعلق منه في أذهانهم شيء يفرض علي خطاهم قليلا من التمهل وبعضا من الحكمة وجانبا من الذكرى التي تنفع المؤمنين.
***
يجلس الدكتور محمد مرسي علي مقعده أمام كاميرات التليفزيون، ليجيب عن الأسئلة المرتبة ضاحك الثغر، منبسط الملامح، رقيق الحاشية، هادئ النبرة، ثم ليعيد بناء المشهد الذي تجري به الأسباب في ميادين مصر، والذي يختلط فيه الغضب بالرفض بالاحتراب ببقع من الدم، ولكنه يعيد بناءه على نحو فريد، فهو يراه ويريدنا أن نراه بالتالي ليس مشهدا مقبضا، أو مؤذنا بانقسام أشد وعنف أكبر، بل أن نراه على غراره مشهدا يبعث على السعادة الغامرة، فهو صحي وإيجابي رغم وجود خيط من الحزن بسبب اندساس بعض الفلول -حسب تعبيره- وبالتالي فإن صحة المشهد وإيجابيته ليست أكثر من دليل علي صحة الحكم وإيجابيته، بل الأهم على قوته وثقته حد التهوين واللامبالاة، خاصة إذا كان يعتقد كما أكد لمجلة تايم أن 90 % من الشعب مؤيدون له ولإعلانه غير الدستوري. والحقيقة أنني فتشت عن أسباب للسعادة المفرطة بالمشهد، محاولا أن أجد لها سندا من الواقع، وقلت لنفسي غير مصدق: ربما كان فقدان البورصة خلال أسبوع واحد من هذا الحكم الرشيد لما يساوي 33.7 مليار جنيه، وفقدانها خلال شهر واحد ما يساوي 54.3 مليار جنيه، واحدًا من أسباب هذه السعادة الغامرة، وربما كان فقدان المجتمع أهم مقومات دفاعه عن وجوده واستقلاله وهو تشبثه بصخرة وحدته الوطنية، هو واحد من أسباب هذه السعادة، وربما كانت هذه الصدامات التي جرت وتجري في ميادين المحافظات المختلفة، والتي تنتج دما قد يجف وكراهية وثأرا قد لا يبرد، واحدا من أسباب هذه السعادة. ولكن الحقيقة أن هناك مفارقات دالة في حديث الدكتور مرسي، تشي بمسافة بعيدة تصل حد التناقض بين الظاهر والباطن. فبعيدا حتى عن أن الإعلان الدستوري الذي وصفته كل قمم القضاء العالية في بلادنا، بأنه هدم للقضاء واستلاب لسلطته وعدوان عليه، والتي جاءت محصلة الحديث تأكيدًا على التمسك به، وعدم التفريط فيه، فقد أفاض الدكتور مرسي عن رعايته للعدل، واحترامه للقانون، وهذا هو ظاهر القول، أما باطنه فقد بدا في كلمات معدودة، وصفت حدود دور القضاء كسلطة بأن يقوم بالحكم بما يوضع في يديه من قوانين، أي أيا تكن تلك القوانين عادلة أو جائرة، متوازنة أو منحازة، جيدة أو سيئة. فالسلطة القضائية وفق هذا المفهوم هي مجرد آلة، على غرار تلك الآلات التي تنتصب في مداخل بعض الأماكن العامة، والتي تضع في إحدى فتحاتها عملة معدنية معينة، فتخرج لك من الناحية الأخرى حسب قيمة العملة صنفًا من المرطبات الجاهزة. أي أن وظيفة السلطة القضائية أن تنتظر هي كي تضع القانون، أي قانون، في فتحة أذنها كي تقوم هي بإخراج الأحكام المطلوبة من فمها، وهكذا فإن الحديث لا يطول سلطة وإنما يطول آلة معدنية لا موقف لها ولا رؤية ولا تقدير، وهو المطلوب في الباطن وفي العمق.
والحقيقة أيضا، أن كل الوقائع والخطابات والأحاديث، وبغض النظر عن هذه النبرة الأبوية المتفضلة، التي تكتنف مفرداتها وتشي بعداء غريزي لسلطة القضاء والقانون، وباستعلاء واضح لا يبدو مبررًا على جموع الشعب التي تشتعل غضبا ورفضا، وإذا كان هذا العداء لسلطة القضاء الذي عبر عن نفسه جليا فيما يسمي بالإعلان الدستوري يمكن تفسيره بالسعي لتحقيق الهدف الاستراتيجي لجماعة الإخوان المسلمين، وهو إحلال الجماعة محل الدولة، والاستحواذ الكامل غير المنقوص عليها، فما هو تفسير هذا الاستعلاء على الشعب، من سلطة لا تملك أن تدفع منظومة القوة في الدولة لقمعه وكسر إرادته باستخدام العنف الغاشم؟ ولا بديل إذًا عن البحث عن تفسير آخر قد ينتهي إلي وجود قوة أخرى على الأرض غير قوة الدولة، أو إلى وجود دعم بالقوة قد لا يكون داخل حدود الدولة، وهو تفسير قد يجد سندا موضوعيا له في ذلك التصريح الذي قاله أحد أعضاء الحكومة الحالية، واستورده أو استعاره من لسان أحد المسئولين السابقين قبل الثورة، وكان منطوقه ‘إما مرسي وإما الفوضى’، والواضح أنها ليست الاستعارة الوحيدة من خطاب النظام السابق، فهناك أكثر من استعارة أخرى، على شاكلة وضع كلمة الاستقرار بديلا لكلمة الاستمرار، وعلي غرار اللجوء للقياس العددي والكمي في كل شيء، حتى في إنتاج هذا الدستور الفاسد بعدد ساعات مناقشاته، لا بالمعيار الكيفي لتمثيل الجمعية التي أنتجته للشعب، أو بالدعوة إلى حساب موازين القوى بين المؤيدين والمعارضين. بأعداد المسيرات والأشخاص والحشود، لكن الأمر في كل الأحوال لا يخرج عن ألعاب قاصرة من خداع النظر، ومن تكنولوجيا صناعة الوهم، مع ذلك فإن أكثر ما أثقل قلبي في هذه المسافة الممتدة في حديث الدكتور محمد مرسي بين الظاهر والباطن، وبين الحقيقة والإيهام، هو محاولة إجابته عن سؤال معلق حول نتائج التحقيقات في مقتل هؤلاء الشهداء الستة عشر من العسكريين المصريين الذين أردتهم يد الغدر والإرهاب في سيناء، حين برر عدم إعلان النتائج وتقديم الجناة للعدالة، بأن يد العدالة لم تطلهم، لأنها لا تريد أن تسعى إلى كشف الحقيقة من خلال أعمال أو قرارات استثنائية، وإنما من خلال التمسك بما يفرضه القانون، فأي قسمة عادلة تلك التي تفرض التمسك بالقانون، ورفض الأعمال الاستثنائية في مواجهة مجموعات إرهابية لا أريد أن أقول أكثر من ذلك بشأنها، بعد أن قامت بسفك دماء الجنود المصريين غدرًا وغيلة، بينما تفرض الضرب بالقانون والدستور عرض الحائط واللجوء إلى حيل استثنائية في مواجهة شعب صابر محتسب، يبحث عن بقايا ثورته بين الأنقاض وسلطة قضائية تعض بالنواجذ على حقوق هذا الشعب؟!
***
لماذا يبدو المشهد مرتبكًا ومتداخلا إلى هذا الحد؟ والإجابة الصحيحة أنك عندما لا تجد الوضوح كاملا والأبعاد جلية، فإن عليك أن تبحث في عمق ما يراد له أن يبدو على السطح، وما يبدو على السطح حسب كلمات الدكتور مرسي هو إعلان دستوري، يحقق رغبات وطلبات المرحلة الانتقالية، وهو لذلك كما يقول يمثل مرحلة استثنائية قصيرة جدًا، سوف تنتهي كليا بمجرد الاستفتاء على الدستور وموافقة الشعب عليه، وهذه المرحلة القصيرة جدا كما يقول بعض دعاته، قد تمثل ديكتاتورية باستحواذه على كل السلطات ولكنها ديكتاتورية مؤقتة، والحقيقة عندي - أولا - أنها بالفعل ديكتاتورية مؤقتة، ولكنها ليست سوى جسر مفتوح يمهد لديكتاتورية دائمة، وإذا كانت هذه الديكتاتورية المؤقتة تحصن نفسها من الدولة كلها بإعلان استثنائي منعدم في توصيفه الفقهي الصحيح، فإن غايتها هي الوصول إلى ديكتاتورية دائمة تقوم على دستور جديد يحصن استمرارها بأن يتحول في يدها إلى سيف تقطع به جميع أعناق منافسيها قبل خصومها. إن لدينا لعبة واضحة لخداع النظر والإيهام، أقبلوا هذه الديكتاتورية المؤقتة قليلا من الوقت، كي ننتقل بكم إلى جنة الديمقراطية، وإذا لم تقبلوا فاقرعوا رؤوسكم في الحوائط حتى تدمي وذلك لوقت قصير جدا بعدها يمكنكم أن تجففوا غضبكم ودمكم في أشجار الديمقراطية، وذلك حتى نحبط مساعي خصوم الثورة وأعداء الاستقرار.
والحقيقة عندي -ثانيا- أن القبول المذعن بذلك لن ينتهي بأحد إلى جنة الديمقراطية، وإنما إلى نار الديكتاتورية التي وقودها الناس والحجارة، وتستطيع أن تتأكد من ذلك بقراءة معاني ودلالات تلك الهرولة غير الرشيدة وغير الرصينة، التي تم بها إقرار بنود الدستور النيئ بالصعود على سلالم بنوده عدوًا بالليل، وبأنفاس متقطعة حتى الفجر، وهو دستور لا يخرج عن كونه سيفًا يقطع عنق القضاء، ويردم على حقوق العمال والفلاحين، ويربط المرأة إلى أوتاد خيمة غابرة، ويحول الثقافة والإعلام إلى دُمى في أيدي بعض الحواة والمغامرين، وهو فوق ذلك يرمي مصالح الطبقة المتوسطة والطبقات الدنيا تحت حوافر رأس المال الغشوم، بل هو يأخذ مصر كلها كأنها سفينة جانحة، استولى عليها القراصنة بليل فاستلبوا عقلها ومالها وأمنها ومستقبلها.
هذه ليست معركة حول الإسلام ولا حول الدين، ليست بين إسلاميين ومدنيين، وليست معركة حول تطبيق الشريعة قبولا أو رفضا، فذلك التصوير هو إخراج زائف بالمعركة عن طبيعتها وعن مجراها، هذه معركة في الثورة ومن أجل الثورة، من أجل حلم العدل، ودولة القانون والمساواة، ونفي التمييز، ولذلك فهي على الجانب الآخر ليست معركة من أجل الله، ولا من أجل الوطن، ولكنها بكل صورها وأدواتها وأساليبها معركة للجماعة ومن أجل الجماعة.
للجماعة.. لا لله ولا للوطن!!
أخبار متعلقة