شهدت بلادنا خلال الأيام الماضية ندوات ومناقشات جادة بشأن تقويم أداء وسائل الإعلام المقروءة والإليكترونية في بيئة سياسية وإعلامية لا يمكن عزلها عن مفاعيل المتغيرات النوعية على الصعد الوطنية والإقليمية والعربية التي تشهد تجاذبات بين الأفكار والمصالح والثقافات والعلاقات الدولية على نحوٍ يتجاوز المسافات والحدود، وما يترتب على ذلك من ميولٍ مشتركة لإعلاء القيم الإنسانية المشتركة والتوجه نحو الاعتراف بضرورة الحرية والتعددية والتنوع والشراكة في تعزيز مصائر الدول والشعوب والمجتمعات وتجنبها مخاطر الحروب والفقر والاستبداد والتسلط وسوء توزيع الثروة واحتكار القوة وهي الوصاية على المعرفة.
وبالنظر إلى التأثير المتزايد لدور وسائل الإعلام المختلفة في صياغة وعي ومواقف الأفراد والجماعات إزاء ما يحيط بهم من أحداث ونزاعات وتجاذبات وتناقضات في الأفكار والمصالح في هذه الحقبة من تاريخ الحضارة البشرية التي يتكون على تربة منجزاتها الفكرية والعلمية والمادية عالم متكامل ومتناقض يصعب على أية دولة أو مجتمعٍ تجاوزه أو الانعزال عنه، بعد أن نجحت الثورة الصناعية الرابعة في تغيير صورة العالم الواقعي من خلال التقدم الهائل لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات التي أحدثت انقلاباً جذرياً في أنماط الإنتاج والتسويق.
من نافل القول أن معطيات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات حطمت الحدود والحواجز وفتحت المجال واسعاً لانتشار الأفكار والمعارف بين المسافات التي كانت قبل ذلك مصدر الحكم وأساس سيادة الدولة الوطنية على أراضيها ومواطنيها، الأمر الذي جعل من وسائل الإعلام بما هي أدوات اتصال بين الدول والشعوب سواء على مستوى المجتمع المحلي أو المجتمع الدولي شريكاً أساسياً في رسم السياسات ونشر المعرفة وتغيير الأفكار والقيم والآراء والمفاهيم واكتساب المهارات والمشاركة في المتغيرات وتوجيهها.
ولما كان الإنجاز الأبرز لثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات يتمثل في ولادة الفضاء الاليكتروني ودمجه بالفضاء الطبيعي من خلال اندماج تقنيات الاتصال الرقمية بالموجات الفضائية، فقد أدى ذلك إلى ظهور تحولات بنيوية في العمليات الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والعسكرية لموازين القوى على المستوى الكوني، وما ترتب على ذلك من تغيير بنية وسائل الاتصال ومضامينها وقدراتها، حيث أدى استخدام الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية والألياف الضوئية إلى تمكين وسائل الإعلام من لعب دور فاعل في صناعة موازين القوى على المستويات المحلية أو العالمية إلى جانب القدرات الاقتصادية والعسكرية والمالية، وذلك من خلال الانتشار العابر للحدود للبث التلفزيوني والإذاعي الفضائي، والصحافة الإليكترونية وشبكة الانترنت، بدون رقيب أو حسيب وبلغات مختلفة ومضامين وأهداف وأبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية واسعة في بيئة معرفية جديدة، لم يعرفها العقل الإنساني سواء في عصور الأسلاف أو في العصر الحديث قبل ثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، حيث أصبح المشتغلون في مجالات العلوم والاقتصاد والإعلام والسياسة الدولية يتعاملون مع أنماط معرفية جديدة مثل : (التعليم الإليكتروني، التجارة الإليكترونية، الحكومة الإليكترونية، الإعلام الإلكتروني، والحروب الإليكترونية والجامعات الافتراضية).
تأسيساً على ما تقدم يمكن القول إنّ التدفق الإعلامي الهائل عبر الأقمار الصناعية انطوى على مضامين وأساليب وأهداف متعددة منذ انطلاقة البث الفضائي في مطلع التسعينات ، كما أسهم هذا التدفق المفتوح في إحداث حراكٍ في السياسات وتحولات في النظم الإعلامية وتجديد لطرائق عمل وسائل الإعلام العربية التي حاولت الاستجابة لتحديات البيئة الإعلامية العالمية الجديدة.
والثابت أن التدفق الإعلامي العابر للحدود تسبب في إضعاف قدرة الدول على التحكم في قنوات الاتصال بين مجتمعاتها من جهة والإعلام الخارجي بشقيه المرئي والمقروء من جهةٍ أخرى، حيث لم يعد بمقدور أية دولة فرض القيود والحواجز التي تنظم أو تحول دون وصول المعلومات من الخارج إلى داخل حدودها الوطنية، بعد أن أتاح بث المعلومات والرسائل الإعلامية عبر الأقمار الصناعية والفضاء الاليكتروني إمكانيات بلا حدود لاختراق الأجواء والأراضي والبحار، ووصولها مباشرة من خلال قنوات البث الفضائي التلفزيوني والصحافة الإليكترونية ومحركات البحث ومنتديات الحوار المباشر على شبكة الإنترنت، وما يترتب على ذلك من تنامي الميول نحو التعدد والتنوع في المجالين السياسي والثقافي للمجتمعات العربية التي كانت تخضع لنظم إعلامية شمولية ومغلقة.
ومما له دلالة أن استجابة اليمن لتحديات البيئة الإعلامية العالمية الجديدة ارتبطت بتحقيق الوحدة اليمنية والتحول نحو الديمقراطية التعددية بإرادة سياسية وطنية داخلية، ما أدى إلى إخضاع هذه الاستجابة لتناقضات ومصاعب التحول المفاجئ نحو الديمقراطية التعددية على خلفية مثقلة برواسب الثقافة السياسية الأحادية الاقصائية التي تركت آثاراً سلبية، وظلالاً قاتمة على عملية التحول نحو الديمقراطية خلال المرحلة الانتقالية التي كانت طافحة بالأزمات والتجاذبات والاستقطابات السياسية والحزبية، ثم وصلت ذروتها باندلاع حرب 1994م التي أفرزت آلاماً وجراحاً ومشكلات لا تزال الحياة السياسية تعاني منها حتى الآن.
صحيح أنّ التحول نحو التعددية في البيئة السياسية والإعلامية اليمنية كان خياراً وطنياً داخلياً فرضه الوضع الجديد بعد تحقيق الوحدة في الثاني والعشرين من مايو 1990م، بمعنى أنّ التحول نحو القبول بالتعددية والتنوع لم يكن استجابة واعية لتحديات البيئة الإعلامية العالمية الجديدة التي خلقتها ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، وما نجم عنها من ضغوط خارجية موضوعية تحفز على الانتقال السلس من الأُحادية الشمولية إلى القبول بالتعددية والتنوع.لكنه من الصحيح أيضاً أنّ ارتباط التحول نحو التعددية في البيئة السياسية اليمنية بتحقيق الوحدة والديمقراطية، بقدر ما جاء كاستجابة فورية وفوقية وسريعة لمتطلبات البيئة السياسية اليمنية الجديدة بعد الوحدة مباشرة، بقدر ما جعل هذه الاستجابة لا تمتلك أية إستراتيجية واضحة ومتكاملة للتعامل مع تحديات البيئة الإعلامية العالمية الجديدة، وهو ما يفسر عجز الممارسة الإعلامية في ظل الديمقراطية التعددية عن التحرر من رواسب البيئة الإعلامية الشمولية والموروثة عن النظام الإعلامي القديم في شطري اليمن قبل الوحدة سواء من حيث الأداء أو المضمون أو خاصية التلقي.
ثمة شواهد عديدة على افتقار البيئة الإعلامية الجديدة في بلادنا لإستراتيجية واضحة تحقق الاستجابة لتحديات البيئة الإعلامية العالمية الجديدة، والانفتاح على قيمها وأدواتها. فقد انحصر القبول بالتعددية والتنوع بعد الوحدة على الجوانب الشكلية من حيث إطلاق الإصدارات الصحفية للأفراد والأحزاب على نحوٍ عشوائي لا يمتلك أطراً مؤسسية وتقاليد مهنية ومنظومات قيمية تستجيب لتحديات المرحلة الجديدة . وينطبق ذلك أيضاً على الممارسة الإعلامية الصادرة عن وسائل الإعلام الحكومية والأحزاب والأفراد على حدٍ سواء، حيث ظل الطابع التعبوي الذي ينزع نحو التحريض والمكايدة والمجابهة قاسماً مشتركاً بين جميع اللاعبين في البيئة الإعلامية اليمنية الجديدة.
ما من شك في أن تغول الطابع التعبوي التحريضي في البيئة الإعلامية الداخلية سواء من ناحية الخطاب أو من ناحية الممارسة ألحق أضراراً كبيرة بالتقاليد المهنية ، وتسبب في تشويه المفاهيم المرتبطة بالتعددية وفي مقدمتها حرية الصحافة وحرية التعبير وحرية الحصول على المعلومات، كما أدى في الوقت نفسه إلى تغييب قيم المسؤولية والموضوعية والصدق، والتعدي على حقوق الغير باسم الحرية، وقد أدى تراكم هذه السلبيات إلى الاعتقاد بأنّ الحرية الإعلامية مطلقة وبلا حدود ، وأنّ اللجوء إلى القانون يشكل قيداً وعدواناً على الحرية.
ولئن كان الوجه الأبرز لاختلالات وتشوهات البيئة الإعلامية المحلية يتجلى في غياب المهنية وسيادة الفوضى وتجويف وتحديد مفهوم الحرية الإعلامية من الوظيفة الأساسية للتعددية بما هي حافز لتفعيل التنوع وإطلاق ميكانيزمات التنافس الحر، وإغناء الممارسة العملية وإثراء الفكر وتنويع طرق البحث عن الحقيقة التي لا يحتكرها أحد، فإنّ ثمة وجوها أخطر لهذه الاختلالات والتشوهات، وأبرزها غياب التخصص في الإصدارات الصحفية، وضعف آليات توزيعها ، وغلبة الطابع الدكاكيني الفردي لملكيتها، والتهاون في تطبيق قانون الصحافة والمطبوعات عند صرف تصاريح ممارسة المهنة من قبل وزارة الاعلام ، حيث أصبح بوسع الدخلاء التسلل إلى ميدان الصحافة من بوابة رئيس التحرير، وافتقار الصحف إلى هياكل مؤسسية وإدارية وفنية ومالية قانونية، لضمان حقوق العاملين فيها، وتنمية قدراتهم ومهاراتهم المهنية.
وبتأثير كل ذلك تحولت صحف الأفراد إلى متاجر في أسواق التجاذبات السياسية، بدلاً من أن تكون مدارس لتعليم الخبرة واكتساب المهارات المهنية.. فغابت عنها وعن العاملين فيها أخلاقيات وقيم العمل الصحفي، الأمر الذي جعل مخرجات الجزء الأعظم من مكونات البيئة الإعلامية المحلية باستثناء عدد قليل من المؤسسات الصحفية الحكومية والمستقلة تفتقر إلى الكفاءة والجودة نتيجة عدم توافر الإبداع نتيجة غياب الآليات الإدارية التي تنظمه وتكفل له عوامل النمو والاستمرار.
تأسيساً على ما تقدم يمكن توصيف محددات الممارسة الإعلامية الراهنة من خلال تعريف الوظائف التي يتعين على وسائل الإعلام الحكومية والحزبية والمستقلة القيام بها ومقاربتها بالأطر الدستورية والقانونية والمهنية التي تنظمها وفق محددات افتراضية تبدأ بتحسين البيئة الإعلامية المحلية بما يمكنها من الاستجابة لتحديات التحولات الجارية في البيئة الإعلامية العالمية والمتمثلة في ظهور أنماط جديدة في تقنيات الاتصال والطباعة والبث والتجهيزات الفنية الرقمية وتراسل النصوص والصور عبر الشبكات وتجدد أساليب إعداد وتحرير الرسائل الإعلامية الموجهة إلى الجمهور ، مرورا بتطوير وتحديث أنماط الإدارة والتنظيم المؤسسي اللازم كشرط لتحفيز الإبداع وتعظيمه بما يسهم في تحسين مضامين الرسائل الإعلامية الموجهة إلى الجمهور شكلاً وموضوعاً، وضمان الحقوق المادية والمهنية والفكرية للمبدعين العاملين في مجال الإعلام ، وصولا الى المساهمة في دعم وإثراء النظام الإعلامي الوطني بما هو أحد مقومات النظام السياسي الديمقراطي التعددي في البلاد ، وحماية وتطوير العملية الديمقراطية وإثراء التعددية والتنوع في إطار الوحدة الوطنية وتنمية الوعي السياسي والاجتماعي للمواطنين من خلال المساهمة في تنويع طرق الحصول على المعرفة. وتعزيز الشراكة بين الدولة والمجتمع على طريق توسيع قاعدة المشاركة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع ، والمساهمة في بناء ثقافة سياسية جديدة تسهم في ترسيخ قيم الحوار والتعايش والقبول بالآخر ومناهضة الآثار السلبية لرواسب الثقافة الشمولية القائمة على الأحادية والاستبداد والإلغاء والإقصاء.
ويبقى القول أن تحليل واقع الممارسة الإعلامية في البلاد على ضوء هذه المحددات الافتراضية يبرز اشكاليات وكوابح عديدة لابد من معالجتها وفي مقدمتها تزايد ظواهر الخلط بين الحرية والفوضى وما يرتبط بها من تشوهات ومخاطر تهدد تطور العملية الديمقراطية وتلحق الضرر بالوحدة الوطنية والسلم الأهلي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وغلبة الخطاب السياسي والإعلامي القائم على النزعات الانتقامية والمكايدات السياسية والحزبية وتشويه الحقائق، الى جانب غلبة الطابع الدكاكيني البسيط على أسلوب عمل وسائل الإعلام الحزبية والأهلية ، وتزايد مخاطر تسلل التمويل السياسي الذي يفقد الممارسة الإعلامية حريتها واستقلاليتها ويضعها تحت طائلة الارتهان الداخلي والخارجي.
تحديات البيئة الإعلامية العالمية
أخبار متعلقة