استقبل اليمنيون بحزن شديد ذكرى مرور أربعين يوما على المجزرة الدموية التي ارتكبها الإرهابيون في ميدان السبعين بالعاصمة صنعاء ، وأدت إلى استشهاد وجرح مئات الجنود الذين كانوا يتدربون للمشاركة في العرض العسكري بمناسبة العيد الوطني الثاني والعشرين للجمهورية اليمنية .
والثابت أن تلك المجزرة الدموية الرهيبة قوبلت بموجة استنكار واسع على الصعيدين الداخلي والخارجي ، فيما احتلت قضية مكافحة التطرف والإرهاب مكاناً بارزاً في الحياة العامة لليمنيين وكل الذين يتابعون أخبار اليمن منذ سقوط بعض مدن محافظة أبين وشبوة تحت سيطرة تنظيم (القاعدة) الارهابي وفي مقدمتها مدينة زنجبار عاصمة محافظة أبين .
اللافت للانتباه ان الاهتمام اليمني والاقليمي والعربي الملحوظ بهذه القضية التي ارتبطت بتحول الأفكار الضالة الى أجساد مفخخة تهدر دماء الأبرياء وتهدد الأمن والسلم الدوليين ، لم يقف هذه المرة عند حدود الإدانة والمواجهة فقط ، بل تجاوزه الى المطالبة ببلورة اتجاهات استراتيجية جديدة لمواجهة خطر الأفكار المتطرفة تشمل تعديل المناهج الدراسية وحماية المساجد من أن تتحول الى وسيلة لنشر الأفكار المتطرفة ، والتحريض على العنف وتكفير اتباع المذاهب الاسلامية المختلفة، واثارة الكراهية ضد أهل الكتاب من أتباع الأديان السماوية .
من نافل القول ان جميع القوى السياسية والتيارات الفكرية ــ وبدون استثناء ــ تورطت بأشكال ومستويات مختلفة في إنتاج ثقافة العنف والتعصب عبر تسويق مشاريع سياسية شمولية ذات نزعة استبدادية وإلغائية أضاعت فرصاً تاريخية لتطور المجتمع ، وأهدرت طاقات وإمكانات هائلة، وخلقت جراحا غائرة وطوابير طويلة من ضحايا الصراعات السياسية وأعمال العنف والحروب الأهلية والاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي كان يتم تبريرها سياسياً وايديولوجياً سواء بذريعة الدفاع عن الوطن والثورة ، أو بذريعة مناهضة القوى الرجعية ، أو بذريعة حراسة الدين ومحاربة الكفر ، بما في ذلك فكرة (( التـتـرس)) الدخيلة على الإسلام ، والتي تجيز قتل المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال والشباب الذين يعيشون أو يتواجدون في محيط الطائفة الممتنعة ، ويوفرون لهذه الطائفــــــة (( المرتدة )) فرصة التترس .. والمثير للدهشة ان الذين روجوا لهذه الفكرة الفاشية زعموا بأن (( العلماء أجمعوا على قتل هؤلاء المسلمين من أجل دحر الكفر عن دار الإسلام )) بدعوى أنهم سوف يبعثون يوم القيامة على نياتهم بحسب ما جاء في الفتوى التي أطلقها (الشيخ) عبدالوهاب الديلمي أثناء حرب صيف 1994م !!
لا ريب في أن أطرافاً سياسية بعينها تتحمل مسؤولية مباشرة عن الخطاب التكفيري التحريضي الذي أدى الى إنتشار التطرف لدى بعض المنفعلين بهذا الخطاب، وأنتج من بين صفوفهم بعض القتلة والمجرمين القساة الذين تورطوا في إرتكاب جرائم إرهابية ، بيد أن الأمانة التاريخية توجب الإشارة الى أن رواسب ثقافة العنف والتطرف ، وبقايا نزعات الاستبداد والإقصاء والإلغاء والانفراد والأحادية ، ليست حكراً على طرف سياسي دون آخر ، وإن كان ثمة من لم يساعد نفسه بشكل خاص والمجتمع بشكل عام على التخلص من تلك الرواسب .
بوسعنا القول إن ثقافة الاستبداد في مجتمعنا اليمني والمجتمعات العربية امتلكت أجهزتها المفاهيمية من خلال طبعات مختلفة للإيديولوجيا الشمولية التي إشتغل مثقفوها على أدوات وأطر تتسم بالإفراط في تبسيط الظواهر والوقائع والإشكاليات والتناقضات القائمة في بيئة الواقع ، والسعي الى إخضاعها للأطر الفكرية والأهداف السياسية للإيديولوجيا ، بما هي منظومة جاهزة ونهائية من الأفكار والأهداف والرؤى والتصورات والآليات والتهويمات التي تسعى الى السيطرة على وعي وسلوك الناس ، وصياغة طريقة تفكيرهم وتشكيل مواقفهم وإستعداداتهم ونمط حياتهم على أساسها .
ولمـا كانت الآيديولوجيا ــ سواء كانت ذات لبوس ديني أو قومي أو اشتراكي ــ تنزع دائما الى ممارسة الوصاية على الحقيقة والمعرفة ، إذ ْتزعم بإحتكار الحقيقة وتسعى الى أدلجة المعرفة ، فإنها تعطّـل في نهاية المطاف دور العقل كأداة للتفكير والتحليل ، حين ترى العلة في الواقع لا في الأفكار والتهويمات التي تؤثر على طريقة فهم الواقع والتفاعل معه .. بمعنى فرض سلطة الصنم الإيديولوجي بصرف النظر عن لبوسه ، وما يترتب على ذلك من افتقاد الموضوعية والعجز عن معرفة الواقع واكتشاف الحقيقة!!
لم يعد الإعلان عن قبول الديمقراطية كافيا لدمج أي طرف سياسي في العملية الديمقراطية ، ما لم يتم التخلص من الجمود العقائدي والتعصب للماضي القريب او البعيد، ومراجعة التجارب والأفكار والمواقف تبعاً للمتغيرات التي تحدث في العالم الواقعي ، وتستوجب بالضرورة تجديد طرائق التفكير والعمل ، والبحث عن أجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها متغيرات الحياة ، وإبداع أفكار جديدة وتصورات وحلول مبتكرة للقضايا والإشكاليات التي تفرضها علينا تحولات العصر والحضارة ولا يمكن معالجتها بوسائل وأفكار قديمة وماضوية .
يقيناً أن ثقافة العنف والتعصب لا تنحصر في طرف سياسي بعينه أو طبعة محددة من طبعات الآيديولوجيا الشمولية التي عرفها المجال السياسي لمجتمعنا ، بل تتجاوز ذلك بالنظر الى مفاعيلها المتنوعة في البيئـة الفكرية والثقافية والتعليمية والاجتماعية التي تعاني من تشوهات لا تحصى ، بما في ذلك السيولة التي تتجسد في انتشار واستخدام السلاح تحت ذريعة المحافظة على العادات والتقاليد وحماية الخصوصية!!
تأسيساً على ما تقدم يمكن القول بأن إجماع القوى السياسية على إدانة الإرهاب والتطرف من شأنه أن يفسح الطريق لبناء إصطفاف وطني ضد هذا الخطر الماحق ، وصياغة إستراتيجية وطنية شاملة لتجفيف منابعه ، وصولاً الى بلورة مشروع وطني شامل لتحديث الدولة والمجتمع في مختلف ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والعلوم والإدارة والتعليم والاعلام على طريق الخروج من فجوة التخلف والإنقطاع عن إبداع الحضارة التي تهدد حاضرنا ومستقبلنا بأوخم العواقب.
ان مستقبل الديمقراطية الناشئة في اليمن يتوقف على مدى النجاح في إنضاج المزيد من شروط تطورها اللاحق ، عبر مراكمة خبرات وتقاليد تؤسس لثقافة سياسية ديمقراطية ، وتمحو من ذاكرة المجتمع رواسب الثقافة الشمولية الموروثة عن عهود الاستبداد والتسلط ، بما تنطوي عليه من نزعات استبدادية تقوم على الإقصاء والإلغاء والتكفير والتخوين والزعم بإحتكار الحقيقة ، وعدم قبول الآخر ورفض التعايش معه ، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف الى تسويق مشروع استبدادي غير قابل للتحقيق بالوسائل الديمقراطية، ويبرر بالتالي العدوان عليها من خلال استخدام العنف بوصفه الوسيلة الناجعة للإقصاء والانفراد ، أو من خلال البحث عن ذرائع لتبرير الارهاب !!
يذكرنا إصرار بعض الذين أرهقوا حياتنا السياسية في السنوات الماضية بالبحث عن ذرائع لتبرير الجرائم الإرهابية التي إرتكبها المتطرفون في اليمن ، بمواقف مماثلة لهم حين كانوا يسعون ـــ من خلال كتاباتهم في الصحف اليمنية وأحاديثهم في بعض القنوات الفضائية ـــ الى البحث عن ذرائع لجرائم قتل المدنيين الأبرياء على أيدي الجماعات المصرية المتطرفة التي كانت تبرر جرائمها ضد المدنيين الأبرياء في مصر بذريعة ما تسمى بأحكام قتال الطائفة الممتنعة ، وبضمنها فكرة ((التترس)) الدخيلة على الإسلام ، والتي تجيز قتل المدنيين من الشيوخ والرجال والنساء والأطفال المتترس بهم من قبل الكفار في المدن والقرى والتجمعات السكنية والمصالح الحكومية التي تديرها الطائفة الممتنعة عن تطبيق الشريعة ، والزعم بأن هؤلاء المدنيين سيبعثون يوم القيامة على نياتهم ، فإن كان مسلما ذهب الى الجنة ، وان كان كافراً او مرتداً استقر في النار .
ومن المعروف ان هذه الفكرة التي لا يعترف بها العلماء والمؤسسات الإسلامية المعتبرة ، نشأت في نهاية السبعينات من القرن الماضي ، على تربة التزاوج الحاصل بين الأفكار المتطرفة للجماعات الجهادية الأفغانية والإفكار المتطرفة للجماعات التي خرجت من جبة الأخوان المسلمين في مصر وسوريا وشمال افريقيا ، ثم انتشرت في العالم العربي والإسلامي بعد عودة الأفغان العرب من أفغانستان الى بلدانهم .
ما من شك في أن بعض المواقع الإلكترونية المحسوبة على جماعات الاسلام السياسي يمارس تغطية غير شرعية على هذه الثقافة التي شكلت مرجعية فكرية للإرهاب المتستر بالدين في العالم العربي والإسلامي ، و تذكرنا الطريقة التي يتناول بها بعض الكتاب في هذه المواقع جرائم الإرهاب في اليمن ، بالأساليب التى اعتاد عليها الكثير من الكتاب الإخوانيين في الصحف العربية عندما كانوا يتذاكون في التماهي مع الجرائم الإرهابية البشعة التي كانت الجماعات المتطرفة ترتكبها في مصر في تسعينيات القرن العشرين، من خلال مقالانهم التي أفرطت في الحديث عن (( العنف والعنف المضاد )) بقصد البحث عن أسباب وذرائع تبرر الجريمة الإرهابية وتـضفي نوعاً من المشروعية عليها ، بدلاً من إدانتها والعمل على تجفيف المنابع التي تغذيها .
وبعد سنوات من المواجهة التي راح ضحيتها المئات من الأبرياء في مصر اكتشف المتطرفون المسجونون ان مشكلتهم لم تكن مع عنف مضاد لعنف الدولة الكافرة ، ولا مع المجتمع الذي وصفوه بالجاهلية .. بل أن مشكلتهم كانت بالأساس مع أفكارهم المشوهة التي برع الكتاب الإخوانيون في التمويه عليها .. وقد أجرى هؤلاء المتطرفون مراجعة نقدية لأفكارهم الخاطئة ، واصدروا من داخل السجون المصرية اربعة كتب اعربوا فيها عن ندمهم وتوبتهم ، ثم قدموا اعتذاراً تاريخياً للدولة والمجتمع ، بعد ان أبدوا إستعداداًً لتخصيص مبيعات كتبهم لصالح ضحاياهم الذين قتلهم الإرهاب استناداً الى أفكار خاطئة وتعبئة خاطئة كان الكتاب (الإخوانيون) يحرصون على عدم إدانتها ، ويسرفون في الكتابة بحثاً عن ذرائع لتبريرها والتماهي مع منطلقاتها وأهدافها .
مجازر دموية تسبقها أدمغة مفخخة
أخبار متعلقة