المستشرق البريطاني الفرد هوليداي
تسعى القراءات الفكرية لصراعات التاريخ السياسي في كل حقبة الى استعادة تلك المجريات التي ظلت مراكز قوى تدخل في إطار تصاعد الأزمات بين المراحل.وتاريخ التجاذب السياسي بين الأطراف لا يقف عند حدود زمانه بل هو رمال متحركة تسكن في بعض الظروف ومن ثم تعيد رسم مسافاتها حسب ماتفرضه إدارة الصراع. وهنا نجد مسالة الثوابت بين التاريخ والسياسة لا تعرف البرهان المطلق، ولا الجمود الدائم. وفي ذلك يكون الصراع السياسي في مجتمعات لم تخلق وعيها في هذا الاتجاه عملية التفاف على الغاية لتعود الى ركائز نفس المربعات من تكوينات البيئة التي توجد آلية إدارة مثل هذا الصراع.وتأتي الرؤية الاستشراقية لتشكل جانباً من معادلة السياسة بين الفكر والعمل، وهي مسافة تفصل العقل عن الواقع.وهو ما يعطي لنا تفسيرات مغايرة لما اصبح ساكناً في وعينا عند هذا الجانب من قراءة التاريخ.في هذه الدراسة للمستشرق البريطاني الفرد هوليداي والتي تعود إلى ستينات القرن الماضي، تطرح عبر الحضور الميداني والاتصال مع أقطاب الصراع السياسي في الجزيرة العربية (السعودية ـ اليمن الشمال والجنوب ـ عمان) عدة محاور لظروف تلك المرحلة، وكيف كانت قراءة الوعي لعدد من الاتجاهات بعضها غاص في رمال صحراء العرب، والبعض مازالت بصماته تزحف على مواقع لم تحسم فيها بوصلة الاتجاه نحو أي المراكز تستقر عملية الجذب.علينا ان لا ننتزع الحدث عن إبعاده التاريخية في هذه القراءة، ولكن هناك من صراعات المرحلة مايظل عند نفس المستويات من اختناقات الأزمة، وهو ما يوضح عجز هذا البلد في تحويل لعبة التناحر على مراكز القرار الى وعي يعيد تشكيل جوهر المجتمع، وهي حالات ظلت قائمة حتى الآن، وعلى هذا تظل المسافة بين الفكر والسياسة في مجتمعات الولاءات الخاصة فاقدة لمشروعيتها لانها تسعى لفرض جزئياتها متشظية وهو مايعد استمراراً في ازمة هذا الاتجاه.في نظرته لواقع الصراع السياسي في جنوب اليمن، وبالذات في مدينة عدن بفعل مواقعها في الازمة الدولية، وهنا يقدم القراءة لتلك الحقبة التي مازالت صراعاتها عوامل محركة للوضع الراهن حيث يقول: (نشأت جمهورية جنوب اليمن الشعبية وسط عالم يحفها بالمخاطر من كل جانب .فقاعدتها الاقتصادية الهزيلة كانت قد نسفت خلال الشهور الستة الاولى التي سبقت الاستقلال.إذ أدى إغلاق قناة السويس في حزيران الى خفض تجارة مرفأ عدن بنسبة 75 في المائة وإخلاء البريطانيين للقاعدة العسكرية رمى 20 الف شخص بين براثن البطالة، وحرم تراجع البريطانيين عن التزاماتهم المالية الدولة من 60 في المائة من دخلها.وادى هذا الوضع الى غضب سياسي عنيف بسبب تدهور القاعدة الاقتصادية اما جهاز الدولة الموروث من التركة الاستعمارية فقد نخرته الخلافات القبلية والسياسية، وبرغم دعم الجيش في اللحظة الأخيرة الا أن ولاءه للنظام الجديد كان مشكوكاً فيه. اكثر من ذلك. كان الصراع داخل الجبهة القومية مستمراً منذ العام 1965م وتصاعد بحدة بعد ان وصلت الجبهة القومية فجأة الى السلطة. وخارج الحدود حشد الأعداء قواتهم لسحق الدولة الثورية.فقد صمم قادة جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل والجناح اليميني من الجمهوريين في اليمن الشمالي بالتعاون مع السعودية وسلطنة عمان، على تخريب الجمهورية الفتية.وانضم اليهم في هذه الجهود البريطانيون والاميركيون الذين سرعان ماادركوا ان وصول الجبهة القومية الى السلطة سيفرض مخاطر اكبر على مصالحهم في المنطقة.هذه الصعوبات الفورية تضافرت الى بعد الحدود مع المشاكل بعيدة المدى التي ورثتها الجمهورية المستقلة من نظام السلاطين والاستعمار، يضاف الى ذلك ان حرب الغوار دامت لفترة قصيرة نسبياً، بالمقارنة مع الثورتين الصينية والفيتنامية اللتين دامتا عقوداً طويلة ـ وبرغم عنف وذكاء النضال الا ان التركيبة الايديولوجية والاجتماعية للمجتمع اليمني لم تتغير الا بشكل سطحي ولم تتأثر به البلاد كلياً تقريباً . فقد بقي التخلف والانقسام والفقر، ولم يتجاوز الدخل الفردي 40 جنيهاً استرلينياً.كان ذلك يعني انه برغم التأييد الواسع الذي تحظى به الجبهة القومية بين العمال والفلاحين الا انه تعين عليها ان تنفذ عملية التحولات الاقتصادية ـ الإجتماعية بعد إنجاز مرحلة الثورة الوطنية بنجاح. ان الجبهة تغيرت خلال سني نضالها الاربع، ولكنها بقيت بشكل اساسي منظمة قومية ذات تركيبة زئبقية تعتمد على العمل التأمري وعلى الدعم الجماهيري في آن معاً.كما كان على اليسار داخلها ان يثبت وجوده في شروط دولة الاستقلال الجديدة.إضافة الى ذلك حددت عوامل عدة مستقبل الدولة، وتتضمن هذه العوامل التطورات التي طرأت على سياسات باقي أنحاء الشرق الاوسط، خصوصاً في الخليج، وسياسة الاتحاد السوفياتي والصين وهما الدولتان اللتان تعتمد عليهما الدولة.ومهما كانت نوايا القيادة اليمنية الجنوبية، الا ان حرية حركتها كانت مشروطة بالمشاكل التي تواجهها في الداخل والخارج.توضع المسافة الزمنية الفاصلة بين هذا الطرح السياسي لمسالة الجنوب اليمني بعد عام 1967م، والنظرة المنطلقة من الحاضر في تعامله مع مهاد الأزمة، ان الجنوب لم يكن يملك سياسياً استقلالة في الأخذ بنوعية تحديد الإتجاه الصائب.بقدر مادخل في دائرة الارتهان مع لعبة الإستعمار الجديد بعد خروج الإستعمار القديم، وهو ما يدل على فقدان القدرة عند القيادة الجنوبية على بناء خصائص الدولة الجديدة.غير ان الاندفاع نحو افكار فاقدة الإنتماء في الداخل، جعل هذه التجربة تعاني من تكسرات وتصدعات متواصلة حولت اختلاف الرأي الى حلبة صراع مدمر.ان النصر الثوري لا يعني انتصاراً للسياسة وهي المفارقة التي سقطت بها عدة حركات تحررية في الدول المتخلفة، واصبح الاستقلال تصارعاً على النفوذ فأوجد دولة القمع السياسي والتي حملت جرثومة زوالها في داخلها، وذلك ماوجد في الجنوب بعد عام 1967م.في إدارة العمل السياسي كمجموعة علاقات متواصلة مابين الداخل والخارج اسقطت سلطة الجبهة القومية هذا الاتزان الذي جعل من عدن نقطة تصارع عالمي لا يمكن نفيها بعيداً عن اطر المراهنات العسكرية والاقتصادية ودخولها في خانة القطب الواحد, لم يجعلها تكسب سباق المسافات الطويلة نحو الحسم النهائي لشكل السيادة، بقدر ما ادخل عقليات حكامها في دائرة التناحر الداخلي، اما المحيط الخارجي فقد كانت له حساباته من وصول الجبهة القومية الى الحكم والتي جاءت بالشوعية عند خطوط التماس مع مصالح الغرب في الجزيرة العربية، فقد ظل الترقب من دول الغرب وخاصة امريكا لمن يصل الى عدن وباب المندب بعد عام 1967م هو الدافع لوضع هذا المكان في دائرة صدام القوى الكبرى القائم حتى اليوم.لم يكن الجنوب قادراً على وضعه في دائرة الصراع بين الشرق والغرب، وفي دخوله هذا التناحر، وضع تحت وصاية الاستعمار الجديد، وهو ماحجم تحرره السياسي والاقتصادي، واوجد بينه وبين عمقه الجغرافي والتاريخي في الجزيرة العربية صراعات خدمات المعسكر الشرقي الذي سعى للدخول الى منطقة الخليج عبر بوابة الجنوب البرية ومنافذه البحرية، ولكن تصدع العقليات التي حكمت الجنوب، قد كسر هذا التمدد).توصلنا قراءة الفرد هو ليداي الى نقطة هامة في هذا الجانب، وهي قصور حركات التحرر في خلق الدولة المدنية، ومنها اليمن الجنوبي ، حيث لعبت القبلية والمناطقية السند العسكري والنضالي في تحريك مسيرة الكفاح المسلح والذي وضع هو الآخر تحت وصاية الولاءات الحزبية والمناطقية، وهي حالة ليست من تجاوزها في ظل واقع يجعل الافعال السياسية تابعة له في هذا المضمار، وهو ما عزز ثنائية التقاطع بين الفكر والواقع وعجز الممارسة الايديولوجية عن التطابق مع الانتماء.كانت الأحداث السياسية في الجزيرة العربية عند تلك الفترة من التاريخ، قد اتسعت عند نظرة الفرد هو ليداي، وهو الذي زار المنطقة اكثر من مرة عند حقبة شهدت صعوداً لمد حركات التحرر في المنطقة، ولم تكن جزيرة العرب بعيدة عن كل هذا وتأتي الدراسة الميدانية له لتعزز أهمية المعلومات في معرفة الصياغة لما جرى.فالجزيرة العربية في تلك الفترة الزمنية كانت مناطق بدوية ـ رعوية لم تشهد بعد نقلة اقتصاديات النفط التي اعادت هيكلة شكل هذه المجتمعات وعلى هذا ترتبط رؤية الكاتب بحدود المرحلة التي انطلقت منها قراءاته لوضع هذا المكان.يقول عن وضع جزيرة العرب (ان الشكل المهيمن للبنى الاجتماعية هي القبيلة، التي كانت وحدة قرابية تستند اساساً الى انحدار حقيقي او خيالي من نسب واحد عبر خط الذكور.والزواج كان يتم عادة داخل القبيلة، والنسوة من القبائل الاخرى اللائي تتزوجن لاسباب تتعلق بالتحالفات القبلية، كانت تتبعن قبائل ازواجهن.فالقبيلة كانت الوحدة التي تتضمن النشاطات الاقتصادية والعسكرية والسياسية كافة سواء في الجماعات المستقرة او عند البدو وقد بقيت الشكل الاساسي في المجتمعات الفلاحية المستقرة كاليمن وعمان. وفي العديد من الحالات ساعدت للتركيبة الاجتماعية سواء في البلدان التجارية كعدن والبحرين والكويت او في المجتمعات الفلاحية المستقرة كاليمن وعمان.وفي العديد من الحالات، ساعدت مرحلة الانتقال الى الاستقرار ثم الى الاتصال مع العالم الخارجي الاكثر تطوراً على تعزيز الروابط القبلية بدلاً من إضعافها.عن الحرب الاهلية التي دارت في اليمن الشمالي يوضح ان تلك الحرب التي اندلعت في ايلول 1962م حتى حزيران 1970م تتحدد سياسياً في ثلاث مراحل، حيث نشبت اعنفهما في الفترة بين 1962م و 1965م حينما سعى الطرف الجمهوري والملكي إلى احراز النصر السياسي والعسكرية بشكل كامل، كما شهدت الفترة من 1965م حتى 1967م حالة من الجمود العسكري بفعل محاولات التفاوض بين جمال عبدالناصر وحكام السعودية، وبروز قوة ثالثة جمهورية منشقة، وانتهت هذه الفترة بنكسة 1967م وانسحاب مصر من اليمن وسحقت القبائل الجمهورية محاولة اليساريين الجمهوريين عرقلة الاتفاق مع الملكين، وكانت نهاية الحرب في 1970م مع قيام حكومة جمهورية ـ ملكية مشتركة وإعتراف السعودية بالجمهورية العربية اليمنية.حول هذا الصراع الذي لم يوجد دعائم الاستقرار في اليمن الجمهورية يقول الفرد هوليداي:(دمر المصريون أي فرصة للجمهورية العربية اليمنية في ان تعزز نفسها وتطور دولة مركزية قادرة).والحصيلة الاساسية لتدخلهم كانت تقوية زعماء القبائل الذين برزوا كاضخم قوة في اليمن الشمالي. هؤلاء كانت تحديداً العناصر التي شكلت فيما بعد القوة الثالثة أي المجموعة التي رفضت شن هجوم شامل على الملكيين والتي تحمست بقوة حال شعورها بقوتها، في المطالبة بخروج المصريين.والتفسير الغربي النمودجي للحرب اليمنية هي ان الجمهورية اعتمدت في وجودها على المصريين، وان المصريين امتنعوا عن السماح لليمنيين الشماليين بان يديروا شؤونهم بأنفسهم وإيجاد السلام.والحقيقة ان الجمهورية بقيت ضعيفة وأزدادت ضعفاً لان المصرين قيدوها وكبلوها والقوى نفسها التي دعت المصريين الى الخروج مدينة لهم بتعزز مواقعها بسبب الطريقة التي ادار فيها المصريون الحرب.ان القوى القبلية الجمهورية التي اعتمد عليها المصريون قد انهت الحرب وحولت البلاد الى جرم يدور في فلك السعودية.قراءة التاريخ في وضع مثل اليمن لا تقف سياسياً عند حدود المراحل التي خلقت تلك الاحداث، فان كانت دول هذه المنطقة قد خرجت من محنة صراع القبيلة والدولة، فان اليمن مازالت تدور ازماتها في هذا الاتجاه، وهو كما يرى الباحث الفرد هوليداي المحور الاكبر الذي حجم كل محاولة سعت الى تغيير مراكز القوى في ادارة عملية الصراع السياسي.من هنا تظل فصول هذا الكتاب المتصلة باليمن مفتوحة على قراءات مستقبلية طالما ظلت نفس العقليات من تدير اطراف التصارع على قيادة الدولة والقبيلة، وهذا يعطي للباحث في هذا المجال إعادة تفكير بما كتب حول هذا التاريخ.