قصة
الزمي مكانكِ ولا تتحركي، سأعود بعد قليل.نزلتُ السلم مسرعاً وكدت أن أصدم أحدهم، انزويت جانباً بمحاذاة أحد أعمدة المبنى وأفرغت شيئاً من شحنات الألم التي سرعان ما تتزلف وتلتصق بي مجدداً بعد حين، لا بأس، أشعر الآن بنوعٍ من الراحة، قد تكون الدموع السخنى قد غسلت شيئاً من أوضار الوجع، كفكفت الدمع ومسحت أنفي الأحمر الدقيق بالمنديل، ثم عدت إلى الأعلى. انتظرنا إلى أن يحين دورنا، أمسكتها بشيء من الرفق ودفعتها للداخل. - هل هي على ما يرام ؟أمرني أن أنتظر ريثما يكمل الفحص. تناول قلمه وراح يكتب لائحة من خمسة أدوية دون أن ينبس ببنت شفه، قلّب عينيه بين الورقة والمريض، وقبل أن يناولني روشتة الدواء، قال:- دعها تستخدم الأدوية بانتظام، وحبذا لو تحضرها للعيادة بعد شهر.- هل هو مرضٌ معدٍ ؟- لا.- هل ستزول أعراضه ؟……… -من اللطيف أن يتحاشى الدكتور الإفصاح مباشرة أمام المريض عن ماهية المرض ومدى استجابته للدواء، قد يكون ذلك مراعاة للشعور.- هل ستز...........- فاطمة عبد الرحيم، صوّت على المريض التالي، ورفع يده في إشارة على الانتهاء، ولم يترك لي مجالاً أكثر للاستفسار.لقد أثارني برود أعصاب الطبيب وردات فعله، فلم أثق فيه، وهذا ما حداني إلى الذهاب إلى عيادة ثانية، وثالثة، وربما رابعة، لا أذكر.هل يصدق أحدكم أن خيال تلك البقع البيضاء أصبح في كل مكان؟ في المرآة، في كوب الشاي الذي أرتشفه كل صباح، وأحياناً أخرى أراها على شكل أشباحٍ تتطاير في الممرات والدهاليز، ولا أُخفي عليكم أنني تمنيت أن تظهر تلك البقع البيضاء حقيقة في كل الوجوه. لا أحتمل سيل أسئلتها، كما لا أحتمل أسئلة الناس وأتهرب منهم، وأرى ضحكات الاستخفاف والاستهجان تطفح من أعين الماجنين، وهذا ما جعلني أسجن نفسي بين حيطان اليأس والقنوط، ربما تتعاطفون معي، وقد تلومونني، هذا لا يهم.لقد كانت شعلة من النشاط، كنحلة نزقة ترتشف من عبق الحياة بهجة وسرورا. تظل الآن رابضة أمام المرآة باستمرار كأقحوانة ذاوية نابتة في أرضٍ جرداء مقفرة، تتطلع وتتحسس وجهها، تتشمم فمها، تتفحص ثيابها.سهام أسئلتها يخترق أحشائي ويدميها، ولا أجد لها جواباً شافياً.- أبي، متى ستزول تلك البقع البيضاء عن وجهي ويديّ ؟ أخذت زميلاتي في المدرسة بالتناقص والنفور والابتعاد. أتهرب من أسئلتها كعصفور يدور في قفصه ويتحاشى القبضات، أرى تلك البقع الدائرية والبيضاوية الشكل مستميتة في الزحف والانتشار حول ذقنها، وفمها، وخديها، ويديها، لقد بدت الآن أكثر وضوحاً على وجهها الأسمر النحيف من ذي قبل. أُحطم المرايا، التلفاز، الأواني والصحون، وبعض المقتنيات، أفكر ملياً في عدم ذهابها للمدرسة والجلوس في البيت. ثرثارة وبليدة لا تعرف معنى الصبر، وهي التي استغرق مجيئها لشظف الحياة عشر سنوات من الانتظار أو يزيد.أجلس وحيداً بين حطام الذكريات السحيقة وأنقاض الأفكار المتضاربة، أنظر إلى المكان من حولي، إنه أشبه بزلزال ضرب المكان، أوانٍ محطمة، كراسٍ مبعثرة، قطع الزجاج المتناثر هنا وهناك يلمع ويعكس شيئاً من ضوء القمر المتسلل.لحيتي أصبحت كثة مرسلة، قد هاجمها غول المشيب، وسفعة سوداء على شكل هلال قد استقرت أسفل عينيّ، تترسب الأفكار الشيطانية في عقلي كما هي فرشاة الرسم هناك مترسبة في إنائها وجامدة، ألملم شيئاً من أفكاري المتطايرة، أدون رسالة بالقرب من النافذة وعلى ضوء القمر، أضعها فوق الفراش، أُلقي نظرتين أخيرتين على زوجتي وابنتي، أقرر الذهاب أخيراً إلى صديقي الحميم ( أمين )، لأذيب جليد البعد، وأمزق خيوط القطيعة التي غزلتها من حولي.ذهبت في ساعة متأخرة من الليل وهاجس الأفكار يعصف برأسي، طرقت الباب، يقطّب صاحبي من حاجبيه، يدعك عينيه، يبتسم ثم يقول: - أهلاً وسهلاً، تفضل، تفضل بالداخل.- لا شكراً، أتيت فقط لأخبرك بأمر هام يا ( أمين ) وأرحل.- تفضل، قل ما عندك يا عزيزي.- لقد تحينت الفرصة قبل سنتين وسرقت من محفظتك بعض الأوراق النقدية على حين غرة، عندما أوصلتك وأمك العجوز للمطار عندما كنتما ذاهبين في رحلة علاج للخارج، وأعتقد جازماً أني المتسبب الأول والأخير في كل ما جرى عليك، وفيما يجري عليّ الآن.قلت هذه العبارة ثم انصرفت واختفيت في غسق الظلام، تاركاً لصاحبي ألف تساؤلٍ وسؤال !