ذات يوم، أطلق نابليون هيل مقولته الشهيرة بقوله: عادة ما يتحقق الإنجاز العظيم بعد تضحية عظيمةلقد ظل الناس يعتقدون لمئات السنين أنه من غير الممكن جسمانيًّا أن يجري إنسان ميلاً كاملاً في أقل من أربع دقائق، بل أعلن المدرب البريطاني في أوليمبياد 1903م أن الرقم القياسي لمسافة الميل هو 4 دقائق و12.75ثانية، وأنه لا يُـمكن تحطيمه.في نفس الوقت، جاء ذلك الرياضي الذي يُـدعى روجر بانيستر، والذي ظن في نفسه جازماً أنه يستطع تحطيم الرقم القياسي وكسر حاجز الأربع دقائق، وفي 6 مايو 1952م استطاع تحقيق ذلك، وكان قوله بعد ذلك: (كنت واثقًا أنني أستطيع جري الميل في أربع دقائق )، والعجيب أنه في خلال ثلاثين يوماً من تحطيم بانيستر لحاجز الأربع دقائق تمكن 32 رجلاً آخراً من تحطيمه أيضاً، وفي خلال عام واحد تمكن 317 من تحقيق نفس الهدف، وقد تمكن العداء النيوزليندي جون واكر من تحطيم حاجز الدقائق الأربع 120مرة، واليوم نجد أن تلاميذ المدارس الثانوية يكسرون حاجز الأربع دقائق للميل.فإن سر النجاح يكمن في تحطيم وهم ترسخ في عقول الكثيرين بحتمية الفشل، فها هو بطل رياضي يكسر حاجز الوهم بحتمية الفشل الذي ظنه الناس حقيقة، بعد أن استنهض عملاقه الداخلي.فالتغيير الأهم الذي مكَّن روجر من تحطيم الأرقام القياسية، بدأ من الداخل، من يقينه بقدرته على ذلك، تماماً كما يقول مايكل كوردا: ( لكي ننجح، يجب علينا أولاً أن نؤمن أنه بمقدورنا تحقيق النجاح )، وتذكر دائماً أنه ليس للتغيير عصا سحرية، وأن السماء التي لا تُـمطر ذهباً، وبالتأكيد لن تُـمطر تغييراً.وهنا قد تبرز شماعة الظروف، التي يُحبِّـذ البعض منا تعليق أسباب تأخرهم عن ركب الفاعلية عليها، فتضيع طاقتهم في النقد، وإلقاء التبعة على الآخرين، ناسين أو متناسين القاعدة المهمة التي تعلمنها في مقدمة رحلتنا أن التكليف فردي.وتأمل أيها الهمام كيف يُـحوِّل أهل الهمم العالية الظروف القاسية إلى طاقة تدفع إلى النجاح، فلا يعيشون بين قضبان الظروف أو يضيعون أوقاتهم في نقدها، تمامًا كحال ذلك الصقر الفريد.ففي يوم من الأيام، وبينما كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بين حاشيته قال لهم: (أخبروني من صقر قريش من الملوك؟)، قالوا: (ذاك أمير المؤمنين الذي راض الملوك، وسكن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء)، قال: ما قلتم شيئاً، قالوا: فمعاوية، قال: ولا هذا، قالوا: فعبد الملك بن مروان، قال: ما قلتم شيئًا، قالوا: يا أمير المؤمنين، فمن هو؟، قال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميًّا مفردًا، فمصَّر الأمصار، وجند الأجناد، ودوَّن الدواوين، وأقام مُلكاً عظيماً بعد انقطاعه، بحسن تدبيره وشدة شكيمته، فهل كان طريق الصقر مُـمَـهداً؟ يجيبكم التاريخ على ذلك، فقد دخل الأندلس وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره، مُـطارد من العباسيين في المشرق، ومن الخوارج في المغرب، الكل يريد رأسه، فبات وحيدًا إلا من عون الله وتوفيقه، ثم شدة بأس، وعزيمة نفس، لا تقف أمامها الصعاب، ولا تذوب في عضدها الظروف، ومع كل ذلك ينجح بفضل الله تعالى في الوصول إلى الأندلس وتكوين جيش مقاتل، يؤسس به أركان الخلافة الأموية الأندلسية.ثم دخل عبد الرحمن بن معاوية إلى قرطبة فصلى بالناس وخطب فيهم، فكان ذلك بمثابة إعلان ميلاد الدولة الأموية في الأندلس، وبويع له بالخلافة في (10 من ذي الحجة 138هـ / 18 من مايو 756م)، ليصبح أول أموي يدخل الأندلس حاكماً، ويُـطلق عليه ذلك اللقب الذي عُـرِف به "عبد الرحمن الداخل"، مؤسس تلك الدولة الفتية، التي أصبحت حضارتها منبعًا لحضارة أوروبا الحديثة، وظلت منارًا للعلم والمدنية عبر قرون طويلة من الزمان.إن الإعاقة طاقة للتغيير وبهذه الجملة يمكننا أن نصف حياة تلك المرأة المُـعجزة، إنها هيلين كيلر، عدوة الإعاقة، المرأة التي وُلِـدَت في مدينة (تسكمبيا) من ولاية (ألاباما) بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1880م، وقبل أن تبلغ الثانية من عمرها أصيبت بمرض أفقدها السمع والبصر، وبالتالي عجزت عن الكلام لانعدام السمع.سعت والدتها إلى تعليمها استعمال يديها في عمل إشارات تفصح بها جزئياً عما تود قوله، ثم وضعتها في معهد لفاقدي البصر، وطلبت من رئيس القسم أن يرشدها إلى معلمة لبنتها، فأرشدها إلى (آن سوليفان) التي كانت قد أصيبت أول عمرها بمرض أفقدها بصرها، ودخلت هذا المعهد في الرابعة عشرة من عمرها.وبعد حين عاد إليها بصرها جزئياً، وقد التقت بعد انتهاء دراستها بهيلين كيلر لتبدأ معها رحلة طويلة مثيرة هي أشبه بالأعجوبة، وتمثل في الحقيقة أروع إنجاز تم في حق تأهيل المعوقين.رحبت أسرة كيلر بالمعلمة سوليفان ترحيباً حارّاً، وكانت هيلين آنذاك تبلغ من العمر ستة أعوام، بدأت سوليفان تعلمها الحروف الأبجدية بكتابتها على كفها بأصابعها، واستعملت كذلك قِـطَـعاً من الكرتون عليها أحرف نافرة، كانت هيلين تلمسها بيديها، وتدريجيّاً بدأت تؤلف الكلمات والجُـمَـل بنفسها.وبعد مرور عام تعلمت هيلين تسع مئة كلمة، واستطاعت كذلك دراسة الجغرافيا بواسطة خرائط صُـنِـعَـت على أرض الحديقة كما درست علم النبات، وفي سن العاشرة تعلمت هيلين قراءة الأبجدية الخاصة بالمكفوفين، وأصبح بإمكانها الاتصال بالآخرين عن طريقها.ثم في مرحلة ثانية أخذت سوليفان تلميذتها إلى معلمة قديرة تدعى (سارة فولر) تعمل رئيسة لمعهد (هوارس مان) للصم في بوسطن، وبدأت المعلمة الجديدة مهمة تعليمها الكلام، بوضعها يديها على فمها أثناء حديثها؛ لتحس بدقة طريقة تأليف الكلمات باللسان والشفتين، وانقضت فترة طويلة قبل أن يصبح باستطاعة أحد أن يفهم الأصوات التي كانت هيلين تصدرها.لم يكن الصوت مفهومًا للجميع في البداية، فبدأت هيلين صراعها من أجل تحسين النطق واللفظ، وأخذت تجهد نفسها بإعادة الكلمات والجمل طوال ساعات، مستخدمة أصابعها؛ لالتقاط اهتزازات حنجرة المدرسة وحركة لسانها وشفتيها وتعبيرات وجهها أثناء الحديث.وتَحَسَّن لفظها وازداد وضوحاً عاماً بعد عام، فيما يُـعَـد من أعظم الإنجازات الفردية في تاريخ تربية وتأهيل المعوقين.ولقد أتقنت هيلين الكتابة وكان خطها جميلاً مرتباً، ثم التحقت هيلين بمعهد كمبردج للفتيات، وكانت الآنسة سوليفان ترافقها وتجلس بقربها في الصف لتنقل لها المحاضرات التي كانت تُـلْـقى، مما مكَّنها أن تتخرج من الجامعة عام 1904م حاصلة على بكالوريوس العلوم في سن الرابعة والعشرين.ذاعت شهرة هيلين كيلر فراحت تنهال عليها الطلبات لإلقاء المحاضرات وكتابة المقالات في الصحف والمجلات، وبعد تخرجها من الجامعة عزمت هيلين على تكريس كل جهودها للعمل من أجل المكفوفين، وشاركت في التعليم وكتابة الكتب، ومحاولة مساعدة هؤلاء المعاقين قدر الإمكان.ثم دخلت في كلية (رود كليف) لدراسة العلوم العليا، فدرست قواعد وآداب اللغة الإنجليزية، كما درست اللغة الألمانية والفرنسية واللاتينية واليونانية، ثم قفزت قفزة هائلة بحصولها على شهادة الدكتوراه في العلوم والدكتوراه في الفلسفة.وفي الثلاثينيات من القرن الماضي قامت هيلين بجولات متكررة في مختلف أرجاء العالم في رحلة دعائية لصالح المعوقين؛ للحديث عنهم وجمع الأموال اللازمة لمساعدتهم، كما عملت على إنشاء كلية لتعليم المعوقين وتأهيلهم، وراحت الدرجات الفخرية والأوسمة تتدفق عليها من مختلف البلدان، ألَّـفت هيلين كتابين، وكانت وفاتها عام 1968م عن ثمانية وثمانين عاماً.وصدق الشاعر حين قال: هذا الرقيـق تـراه عـند الـروع في قـلب الأسـود متـبـسمًا والـدهـر غضبـان يـزمجـر بـالوعيـد فـإذا رمـاه بالخـطـوب رمـاه بالعــزم الجـليـد وإذا دعتـه الواجـبـات فحـمَّـلتـه بـما يَـئـود وجـدتـْهُ صلب المنـكبـيـن فـلا يـخرُّ ولا يـميـدإن الأمثلة السابقة تؤكد حقيقة واحدة: أن الإنسان المبادر الإيجابي هو الذي يُـشَـكِّـل الظروف، وليست هي التي تُـشَـكِّـله، ويبني التغيير الذي يريد من داخله، بطريقة متوازنة، كما أنه لا يُستحسن أن ينتظر من يأتيه بالتغيير من الخارج، فلا إفراط ولا تفريط، ومهما بلغت التحديات ذروتها، ومهما تراكمت المصاعب على صاحبها، فهو قادر بإذن الله على تخطيها.
|
آراء
عندما تتواجه قَـطْـرة الإرادة وجليد الإعاقة ... من المنتصر؟
أخبار متعلقة