بينما آلية القتل العشوائية مندفعة، وطرفا الصراع في جنوب السودان يتبادلان الاتهامات وتتداعى الأوضاع في هذه الدولة الوليدة مبكراً، يذهب المراقبون إلى إبداء خشيتهم من دخول هذا البلد في دوامة الحرب الأهلية المفتوحة على الانهيار .وحسب رأي مجموعة الأزمات الدولية فإنه «حتى وإن تم التوصل إلى وقف العنف وإلى حوار سياسي سيكون من الصعب بلسمة الجروح التي أعيد فتحها داخل الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان وإذا استمرت المعارك التي حصدت عند اندلاع شرارتها الأولى قرابة 500 قتيل وأضعافهم من الجرحى وأدت إلى تشريد ما يزيد على عشرة آلاف من السكان؛ فإن الهوة ستتسع وتغرق البلاد بأسرها في حرب جديدة» .استنتاج هكذا يقوم كما يبدو على سببين، الأول أن الآثار السياسية لهذه التطورات الدموية مازالت غير معروفة؛ فمن جهة تدعي السلطات في جوبا أن الأمر يعود إلى محاولة انقلاب خطط لها النائب السابق للرئيس رياك مشار، الخصم السياسي للرئيس سلفاكير، وهو ما أدى إلى سقوط مئات القتلى في العاصمة، وفي غضون ثلاثة أيام امتدت المعارك العنيفة إلى مناطق عديدة لم يكن ينقصها الاحتقان ومنها ولاية جونقلي التي تعج بالمجموعات المسلحة وتبقى عاصمتها بور في ذاكرة جنوب السودان رمزاً دامياً في المنافسة بين كير ومشار .في مقابل هذا الاتهام قال مشار إن «محاولة الانقلاب التي نسبتها إليه السلطات ليست سوى ذريعة من الرئيس سلفاكير للتخلص من خصومه السياسيين»، وعلى أساس هذا التبادل يعيد ما جرى ويجري لغز جنوب سوداني ليس يتيماً ولكن حله إذا ما صار يأتي بعد فوات الأوان .أما السبب الثاني الذي يذهب إليه المحللون بأن تسوية النزاع يمكن أن تكون بعيدة المنال حالياً على الأقل تعود إلى السجل الحافل من الصراع الذي لم يتوقف على جبهة جنوب السودان والذي جمع ما هو إيديولوجي وسياسي وقبلي في آن، وبالطبع لم يجر هذا بمعزل إقليمي ودولي بل كان حاضراً وفاعلاً وساعدت سلطات الخرطوم المتعاقبة على إيصال السودان إلى ما بات عليه من انقسام بين جنوب وشمال .الواضح مما يجري الآن أن القيادات في الجنوب ركزت منذ إعلان ميلاد الدولة على سلطتها ولم تعط الاهتمام لمواجهة تحديات البناء والتغلب على موروث دمار الحرب في حياة وأحوال الناس ونفوسهم بما يتطلب ذلك من تحشيد وطني، وهذا يصير كافياً لوطأة مخاوف المحاذير من أن ما يجري الآن مفتوح على الانهيار بما يعني ذلك على السكان الذين عقدوا على ميلاد دولتهم أحلام الحياة الكريمة والسعيدة بعد حرمان مجرد الاستقرار .يعيد الكثير من المحللين ما يجري الآن من صراع دموي في جنوب السودان إلى منافسة الزعامة بين الرئيس الحالي للبلاد وريك مشار الذي لم يستمر نائباً للرئيس في تماهٍ مع المثل الشائع «لا يلتقي فحلان في قطيع»، وهم يشيرون إلى أن البداية تعود إلى سنوات الحرب الأهلية إذ في عام 1994 حاول مشار من دون أن ينجح إطاحة قيادة الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان الذي كان كير أحد أكبر كوادره .وعلى إثر ذلك حدثت أخطر الانقسامات التي شهدتها الجبهة الشعبية لتحرير جنوب السودان التي انقسمت من حينها على قواعد قبلية وانشق فيها مشار لينضم بقواته إلى جيش الخرطوم وخاض معارك ضد الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان كان أقدمها تلك التي دارت في النوير وقتل فيها من الجنوبيين ما يفوق ضحايا حرب السنوات العجاف مع الخرطوم قبل أن يعود إلى صفوف هذا الجيش مطلع الألفية الثالثة .ولكن هل يتوقف الأمر فيما يجري على صراع الزعامة؟ أو هو قاصر إلى كون جيش البلاد الوليدة قائماً على أساس قبلي؟ .لا شك أن هذه الأسباب غير هينة على الأوضاع في البلاد وهي ليست كوابح أمام انطلاق عملية البناء بل وهي مدعاة للكوارث أيضاً وما هو ماثل الآن من قتل مفتوح وترويع وتشريد هو الكارثة بعينها على أبناء هذا البلد الذين التقت عليهم نكبة اللاعبين والمتلاعبين .المفارقة في هذا الشأن أن أبناء جنوب السودان على الأغلب يعيشون في حرمان من أبسط متطلبات الحياة اللائقة بإنسانيتهم، وهذا الوضع يتناقض تماماً مع أن جنوب السودان لم يكن ومنذ عقود غير قليلة في عزلة دولية وبثرواته التي كانت حافزاً لمنافسات دولية شديدة .هنا يمكن القول إن لعبة اللاعبين في الداخل والمتلاعبين في الخارج تدور على جنوب السودان في جبهات السلطة وحقول النفط بحرمان أبنائه من سبل عيشهم وبكرم قتلهم المفتوح على حياتهم ومصيرهم في مشهد يعيد رسم بلدهم إلى جنون السودان بدلاً من جناته .
جنون السودان
أخبار متعلقة