نجمي عبدالمجيدعبر عهودها السحيقة في العصور، تعاقبت على عدن عدة أديان ومذاهب وثقافات وأجناس من دول مختلفة من العالم، فتجاورت كلها في إطار الخصوصية العدنية القائمة على احترام المقدس والتعامل معه من منطلق التسامح والتعايش مع الآخر، فبحار عدن لم تكن تنقل الماديات التجارية فقط، بل نقلت عناصر التواصل الإنساني مع الشعوب.الديانة الفارسية من العقائد القديمة التي عرفتها عدن، وهي لطائفة سكنت عدن، ولكن لا نملك المصدر التاريخي الذي يحدد زمن وصول هذه الديانة إلى عدن.ولكن من خلال أهمية هذه المدينة في التجارة وما لموقعها من أهمية اقتصادية عبر الحقب الماضية، يجعل إتباع هذا الدين من الطوائف التي جاءت إلى عدن عبر أزمنة عديدة، وليست مع بداية دخول بريطانيا إلى عدن في عام 1839م، وأن كان هذا التاريخ هو بداية عصر المدونات الحديثة التي حفظت الكثير من المعلومات عن الأجناس وما كان لها في عدن حياة وأعمال، وهنا نقدم بعض المعارف المتصلة بهذه الديانة وطرق ممارستها عند إتباعها في عدن، وما هو الاسم التاريخي الذي عرفت به في كل العالم.الطائفة التي عاشت في عدن من الفرس، هم من إتباع زراد شت الحكيم، وهو حسب معتقدات هذه الديانة، من أسس هذا الدين، وقد اختلف الرأي في زمن ظهوره، وهناك من يقول أن ظهوره يعود إلى بداية القرن السادس قبل الميلاد، وآخر من جعله حوالي سنة 1000 قبل الميلاد، وهناك من أوصله إلى القرن الستين قبل الميلاد.ومما يروي كتاب التاريخ من العرب مثل الطبري وابن الأثير عن زراد شت، أنه كان - فيما يزعم اليهود من سكان فلسطين يخدم بعض تلامذة النبي أرمياء، ولكنه خانه وكذب عليه، وهرب إلى بلاد أذربيجان ووضع أسس دين المجوس، وصنف كتاباً هو قواعد هذا الدين، وطاف عدة دول ولكن لا أحد عرف معنى هذه الديانة، أما المجوس يقولون أنه إيراني من أذربيجان، ومن الأساطير التي تتحدث عنه: (انه نزل على الملك كشتاسب من سقف إيوانه وبيده كرة من نار يلعب بها ولا تحرقه، وكل من أخذها من يده لم تحرقه، وقد اتبعه الملك ودان بدينه، وبنى بيوت النار في البلاد وأشعل الكرة النارية في تلك المعابد، ويزعمون أن النار التي في بيوت عبادتهم هي من تلك النار المقدسة).وما هو متفق عليه عند أهل الدراسات المتصلة بعلم الأديان، أن زرادشت ميدي الأصل من أذربيجان ومنها انتشرت هذه الديانة إلى سائر إيران، ودون شك لعبت حركات الهجرة بين اتباعه عبر العصور في نقل هذا الدين إلى عدة دول ومدن من العالم ومنها عدن، وقد ذكر المؤرخ القاضي عبدالله بامخرمة في كتابه (تاريخ ثغر عدن) أنه يوجد في شارع الزعفران صهريج يعرف باسم صهريج الفارسي، كما يوجد في منطقة الطويلة صهريج يحمل نفس الاسم، وكان يوجد إلى جانبه بستان يعرف باسم بستان الفرس والذي كان معروفاً عند أهل عدن وقد اختفى تماماً الآن، وكان التاجر قهوجي الفارسي هو من أسس معبد النار في عدن، عام 1883م، كما شيد برج الصمت، وقد عرف باسم مقبرة الفرس، ولكن هذا الاسم غير صحيح، لأن المقبرة مكان دفن الأموات، وفي ديانة زرادشت، يجب أن تظل الأرض طاهرة، لأن الماء والهواء والنار والتراب عناصر مقدسة، فما هو برج الصمت في هذه العقيدة؟.يظل جسد الإنسان في حالة طهارة طالما هو على قيد الحياة، فإذا مات استحال إلى رجس ونجاسة لا يجوز لمسه إلا بطقوس خاصة، ولا يجوز أن يتصل بالعناصر المقدسة، فلا يمكن دفنه في باطن الأرض أو حرقه بالنار أو قذفه في المياه.. لأن هذه العناصر الطبيعية مقدسة عند الفرس، ولا يصح تلويثها بإلقاء النجس فيها، ومن هذه النظرة العقائدية، أقيم لجثث الموتى فوق قمم الجبال أبراج منعزلة عالية الجدران لأسقف لها، ويطلق على كل برج منها اسم (الدكما) أو دائيتيوكته، وتعنى باللغة الفارسية مكان العدل والإنصاف، وتحمل إليها الجثث نهاراً على نعش من حديد، ثم تلقى فيها وتترك طعاماً لجوارح الطيور، وقد عرفت سماء عدن أنواعاً عدة من فصيلة الجوارح ولعل أشهرها ما عرف عند أهل عدن باسم (الحديو) وهي كما كانت تبدو من أنواع الصقور وكذلك النسور التي تأكل اللحم، ودون شك كانت جثث الفرس طعاماً لها في برج الصمت.و كان كل من يلمس جثة ميت يعد ملوثاً، ولا يتم تطهيره إلا بعد طقوس دينية معقدة جداً، بل إن نجاسته هذه تنقل إلى كثيرين من المجاورين له، وقد جاء في (الأفستا) وهو الكتاب المقدس عند هذه الطائفة: (أنه أذا مات شخص، وكان جالساً بجواره وقت موته شخص آخر، فإن هذا الشخص الآخر يصبح متلبساً بجريمة لمس الميت، على الرغم من أنه لم يقصد هذا اللمس ولا إحداثه، ويجب عليه أن يولي مسرعاً حتى يصادف في طريقه أول رجل حي فيقف على بعد منه ويطلب منه، بصوت مرتفع أن يطهره من خطيئته بعد أن يبين له مجمل ما حدث له، فيخاطبه قائلاً: إنني قد لمست ميتاً لا حراك به ولا قدرة له على التفكير ولا على النطق وألتمس منك أن تطهرني).وقد خصصت هذه الديانة طائفة معينة من الناس لمثل هذا العمل والعدد لحمل الجثث إلى برج الصمت، فلا يجوز لفرد واحد من هذه الجماعة الإقدام على هذا الفعل منفرداً، بل يجب أن يشاركه اثنان آخران يشهدان عليه، وعلى الثلاثة أن يطهروا أنفسهم بعد الانتهاء من هذا العمل.وهناك دعاء خاص لتطهير الأماكن والمنازل من هذا التلويث من الجثث، يرفع إلى الإله أهورا مزدا، وهو الثيولوجيا الزراد شتية، إله النور والخير، وهو كذلك كبير الأرباب لديهم، وقد جاء فيه: (مزدا من يستطيع أن يحمي شخصاً ضعيفاً مثلي حينما يستعد الكافرون للاعتداء على؟! أي كان غيرك، بما لك من عقل وقوة نارية، يقوي نشاطه علي تنفيذ مبدأ التقوى والاستقامة؟! مزدا، أكشف لي عن أسرار هذه المعرفة، كي تساعدني على نشر دينك، من غيرك يستطيع لطم الأعداء، ويمدني بكلماتك المقدسة، التي هي درعي والمجن الذي يحميني، دلني يا مزدا على قائد مخلص حكيم متلطف يقودني إليك، ثم اجعل زعيم ملائكتك المزود بالروح الخيرة المستنير يدنو ممن تحب، كائناً من كان تفضل فاحمنا من أعدائك أيها المقدس هلاكاً لكذب الشيطان ، وهلاكاً لجميع الشياطين، وهلاكاً لجميع أتباع الشياطين، الهلاك التام لك أيها الكذب! اخسأ واذهب بعيداً عني إلى الشمال حتى لا تعبث بخلق مزدا المبدأ المقدس).مارس الفرس في عدن عبادة النار في معابدهم، ولكن لا نعرف متى تم بناء أول معبد لهم فيها، وكم كان عددهم في كل فترة، فما دون من المعارف عن عدن في الحقب التاريخية الماضية يظل قليل المعلومات حول هذا الموضوع، بالرغم من أن تاريخ الفرس في عدن له حضوره منذ القدم وحتى العصر الحديث.يتوجه الفرس في صلواتهم نحو النار أو الشمس، إذ يعتبرونهما تجسدين رمزيين للإله أهورا مزدا وترتل الصلوات خمس مرات في اليوم، ويقسم إلى خمسة أوقات، وتقام بالفارسية:هاون: من الفجر حتى الظهررفتون: من الظهر حتى الثالثة بعد الظهر.ازيرن: من الثالثة حتى الغروب.أيو سريترم: من الغروب حتى منتصف الليلاشهن: من منتصف الليل حتى الفجروتتلى أدعية فيها، ومما يقال في صلواتهم، الطهارة هي أفضل نعمة، الطهارة هي السعادة لدى ذلك الشخص الذي يطلب الطهارة المثلى.مثلما يكون الرب قادراً وقوياً، فإن الروح (رتو) تكون، بالدرجة نفسها، قوية بطهارتها ونقائها.إن الروح الخيرة (وهو منو) هي من نصيب ذلك الشخص الذي يسلك مثلما تفرضها إرادة مزدا.كانت للطائفة الفارسية في عدن أعيادهم الدينية ، تمارس بكل حرية فقد كان من صفات أهل عدن احترام مذاهب الغير، والتعامل معها من منطلق الإخاء وحقوق المواطنة، بل كانت كل طائفة وأصحاب كل دين يشاركون بعضهم في مثل هذه الاحتفالات مع احترام خصائص كل عقيدة.ومن أعيادهم التي عرفتها عدن في تلك الأزمنة: كهنبار: ويحتفل بهذا العيد في عام ست مرات، وفي كل مرة لمدة خمسة أيام، وهي حسب تصورهم أعياد فصلية بمناسبة الحصاد، أو بداية فصل الربيع، أو نهاية فصل الصيف، وكهنبار تعني لديهم الأيام الخمسة بين المراحل الست التي خلق فيها الله العالم واستراح فيها.واج يشت: وهو احتفال يقام قبل مراسم كهنبار، حيث يحضر كل الموبدون إلى معبد النار، ويقرأ أحدهم نصوصاً من كتابهم المقدس.سدرة بوشي: في سن العاشرة يلبس الفتى الحزام المسمى كشتى ويجري قراءة أدعية خاصة بذلك.نوزودي: وتعرف باسم دار طلب الموبد، فالشخص المختص بالعلوم الدينية، وتقام له الاحتفالات الخاصة لقبوله من ضمن جماعة الموبدين.ونوزود: كلمة فارسية تعنى الموبد الجديد، من رجال الدين.وكانت النصائح والمواعظ التي توجه سلوك الفرد وتعزز موقعه في الحياة وترفع مكانته بين الناس في الجانب الأخلاقي والروحي، جزءاً من ثقافة الفرس في عدن، كي ينال الفرد رضى الإله ويفوز بنعمة الخلود في الفردوس.ومن تلك النصائح: إن الطبيعة الخيرة، هي تلك التي تملي على صاحبها أن لا يصنع بغيره أمراً لا يريده لنفسه.أن يسعى إلى جعل العدو صديقاً، وجعل الشرير صالحاً، وجعل الجاهل عالماً.إن الشخص الذي لا يتغلب على نفسه، لن يتغلب على أي شيء.القوى هو الشخص الذي يبعد عن نفسه الغضب والشهوات والحرص وعدم الرضى.النية في الطاعة الصادقة تهلك نية الغضب.أنس كل ما مضى، ولا تقلق على ما لم يأتِ بعد.كن حميمياً مع الإله والأصدقاء.ابتعد عن كل شخص يتصرف معك بغضب وحقد.اختر بنفسك زوجتك.أحب المرأة الخجولة والحكيمة وأطلبها للزواج.لا تسخر من الإنسان العاجز.لا تنصت إلى الثرثار الكذاب.لا تطلب من الملوك القرارات غير العادلة.كانت الطائفة الفارسية في عدن تتبع كتاب الابستاق القديم، وهو مرجعا ، وقد أشار إليه المؤرخ العربي الطبري، أنه كتب في جلد أثني عشر ألف بقرة حفراً في الجلود ونقشاً بالذهب.ويقول المؤرخ ابن الأثير عنه: (إنه صنف كتاباً طاف به الأرض، فما عرف أحد معناه وزعم أن لغته سماوية خوطب بها وسماه «أشتا» وشرح زراد شت كتابه وسماه زند، ومعناه التفسير، ثم شرح الزند بكتاب سماه «بازند» يعني تفسير التفسير، وفيه علوم مختلفة كالرياضيات وأحكام النجوم والطب، وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء.وفي كتابه: تمسكوا بما جئتكم به، إلى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم).هي ديانة تدعو إلى حياة الاستقرار وتعمير البلاد والاهتمام بمظاهر الحضارة، ذلك لأنها ظهرت بين قوم حديثي العهد بحياة الاستقرار، فلا غرابة، أن تجد هذه الديانة وإتباعها في عدن وتسامح أهلها، بلداً ينعمون فيها بلذة الراحة وسكينة النفس وحرية العبادة ومقدرة التخاطب مع الغير، في هذا الإطار الذي جمع الأجناس والديانات المختلفة في عدن دون حساسيات الاختلافات في جوهر المقدس، لأن التسامح الديني من صفات كل العقائد التي تحترم حقوق الآخر.هذه اللمحة الموجزة عن تاريخ الديانة الفارسية في عدن، وهي من العقائد الوثنية التي تجاورت فيها مع الأديان السماوية، وكذلك مذاهب أخرى، تدل على مدى روح الإخاء والتعايش الذي جمع بين أهل عدن الذين شكلوا ثقافات متعددة، ومن يدرس تاريخ المذاهب والطوائف والأديان في عدن، سوف يجد فيها حضوراً ثقافياً قبل أن تكون خصوصيات روحية تتصل بمبدأ القداسة.والفرس الذين سكنوا عدن عبر حقب زمنية عديدة، شكلوا جزءاً من نسيج عدن التاريخي والاجتماعي والاقتصادي.وهذا الانتماء لعدن هو ما جعلها وطناً لكل من عاش فيها على مبدأ التسامح والسلام.
|
ثقافة
من تاريخ الديانة الفارسية في عدن
أخبار متعلقة