الباحث الموسيقي الأكاديمي (عبدالقادر قائد) واحد من أفراد قلائل في عالمنا العربي ممن وجهوا عنايتهم لتسجيل ودراسة التراث الغنائي الإبداعي .. يدفعهم حب الوطن والرغبة في بيان أصالة هذا الشعب.وليس بدعاً ان يصنف مؤلفه القيم هذا البالغ الكلفة (قراءة موسيقية في نشوء وتطور الأغنية اللحجية) الذي صدر مؤخراً عن دار الكتب اليمنية ـ مكتب خالد بن الوليد للطباعة والنشر بغلاف سميك يضم بين دفتيه 730 صفحة من القطع الكبير، فمثل هذا الجهد الكبير طالما كان ميداناً للكثير من الباحثين وعلماء الفولكلور في الغرب ولعلنا نتذكر منهم (بيللا بارتوك) الباحث الموسيقي الفلولكلوري الذي جمع الأغاني الشعبية المجرية، ونهض بتدوينها الموسيقى (نوتة Note) لحفظها من الضياع وخشية من أن تسدل عليها ستائر النسيان وهي التي استمرت متوارثة في بيئة المدينة الحديثة إبان عهده وجارية في الاستعمال، الشيء ذاته الذي نهض به قبل باتورك عالم الفلولكور الالماني (هردر) في كتابه المشهور المكون من جزئين (أصوات الشعوب من اغانيها) (1778 ـ 1779) والذي جمع فيه أغاني شعبية ألمانية حرص على ان تكون مما يعكس صورة هذا الشعب .. وقد وضع (هردر) في كتابه هذا المعالم الأولى للأغنية الشعبية، ونادي في الجزء الثاني من الكتاب (بالحياة لتلك الأغاني التي يرى البعض أنها تافهة)! ومن المتفق عليه إن التراث الذي لا يخضع لعملية إحياء يكون عبئاً على كاهل الأمة أو الشعب الذي يحمله فما من أمة ليس لها ماض مجيد يدل عليها وعلى نهضتها حتى لتفخر به كإسهام في السياق العام للتطور الإنساني الثقافي والحضاري .. وأوكأ على القلب ضياع هذا التراث المعبر الرئيس عن أصالة كل شعب!فإن كنا نتوقف من هذا التراث على الموسيقى والرقص والشعر بخاصيته الغنائية الباعثة على الطرب ـ وهي الفنون الزمنية التي عرض لها الباحث الموسيقي الأكاديمي الأستاذ عبدالقادر قائد بالمعية تدل على قلق الفنان الذي يحس ان الأرض تسحب من تحت أقدامه، وان لا دليل سيبقى على أصالة هذا الشعب، فإننا نجزم بأننا أن أضعناه فلن تدرك الأجيال اللاحقة شيئاً عن مراحل نشوء وتطور ورقي هذا المجتمع بكل مفردات تلك الحياة، أي أشكالها الرئيسية التاريخية والجغرافية وروح المكان .. ومن هنا جرى القول: إن أردت ان تتعرف إلى شعب ما، فاستمع إلى موسيقاه!القصيد له وقع موسيقي، والرقص له وقع موسيقي، والآلات النغمية والإيقاعية هي أدوات هذه الموسيقى التي على نبضها تحركت عاطفة الشعر وتحركت أعطاف الرقص، أكان طقساً فرائحياً أم وظيفياً أم تعبدياً كتعبير عن علاقة الإنسان باعلاق الطبيعة وما وراء الطبيعة.الموسيقى هي جوهر هذه الفنون بجرسها وأحاسيسها وإيقاعها وتوقيعاتها حتى لو كان هذا التوقيع بالأكف أو الأقدام أو الزغردة التي عادة ما تتصاحب مع نغمات المزمار الحادة أو ضربات الطبل السريعة والعنيفة، وما يكون من إيحاءاتها لبعث الهمة في النفس ولتعزيز قيمة الفرح وتعميق أواصر الحب، والتي من خلالها نشأت الأغنية العاطفية كأغاني الزواج واحتفالاته وغزليات الحب التي استأثرت بكل أنماط الرقصات الشعبية، أو بكل الإيقاعات المقرونة بإيقاع الحركة الجسدية باللحن واللفظ، فردية أكانت أم جماعية وبعد أن أفرغت تلك الرقصات من شعائرها أو من وظيفتها التي كانت لها في السابق .. إلا أن مفرداتها تظل محتفظة بتلك الشعيرة أو الوظيفة التي اندثرت في مسار التحولات الاجتماعية والتغيرات البيئية الطبيعية أو كتعبير عن مزاج وثقافة وروح هذا الشعب. وهذا موضوع آخر لا ينتقص شيئاً من قيمة هذه الدراسة الموسيقية العلمية!ذلك أن الحديث في هذا الكتاب إنما يرتكز بالأساس على عملية التدوين الموسيقي، المهمة التي حملها على عاتقه (عوضاً عن مؤسسات علمية Learning bodies) أستاذ جليل في ميدانه خشية اندثار هذا الجانب من ثقافة الشعب فجعل ينصب على الأغنية التراثية اللحجية بسمتها العامة وليس فقط بخاصيتها الفلولكلورية التي تحولت إلى إنتاج جمعي ظل ينتقل من جيل إلى جيل من غير نسبة موثقة إلى مبتدع أو مؤلف.يتحدث عن الأغنية التي دخلت في دائرة التراث الرسمي (أي التي جرى الاعتراف بها رسمياً عبر مختلف الوسائط الثقافية أو أشرطة التسجيل)، ولها أعلام يشار إليهم بالبنان، وقد حظيت بالانتشار الواسع بما لقيته من تقبل شعبي (جماهيري) وتلك هي الأغنية العاطفية.على أن كثيراً من تلك الأغاني (فترة عشرينات ـ خمسينات القرن الماضي)، إنما كانت تقوم على استلهام عناصر فلولكورية في مادتها الشعرية وفي طابعها اللحني الأصيل، وقد اتخذت من تلك العناصر مصادر استلهام لأعمالها الجديدة اللاحقة في مجال تطور الأغنية!هذه العملية التي يطلق عليها علم الفلولكور تسمية (المتجددات) أو (المستأنفات) Revivals أو Survivals، وهي مما ظل مستمراً بقوة العادة أو بما لها من قوة طبيعية على البقاء والاستمرار والتمدد في مجتمع جديد وإلى أبعد مدى .. وبقيت كشواهد وأمثلة لأغان أكثر قدماً انبثقت عنها أغان أكثر حدة، فنجد الباحث الأكاديمي الحصيف في هذه القراءة الموسيقية العلمية، وفيما هو يعرض لنا نماذج من تلك الأغاني والرقصات الشعبية وما تصاحبها من آلات موسيقية شعبية يقدم بعض الموتيفات أو الشذرات المتبقية من أصل فلولكلوري وقد أعيد استخدامها وأصبحت قيد الاستعمال المعاصر وقتئذ من مطلع حتى منتصف القرن العشرين.وكأنموذج لهذا التفاعل أو الاستعداد أو المزج بين القديم والجديد ليخفقا معاً في إيقاع الحياة الاجتماعية نقف على هذه الشذرة وهي أنموذج من النماذج التي توقف عندها القمندان! وكأغنية تراثية شعبية لم يعتورها التغيير وقد دونت وفق أداء الفنان مهدي درويش، فيما كانت قد أصبحت زاملاً ـ بحسب المؤلف الباحث ـ يردده عمال البناء العائدون إلى بيوتهم والمزارعون بعد الانتهاء من عملهم وجني الحصاد:[c1]روحنا من السعدية بلا سيف ولا جنبيةهذا لك وهذا لي قسمة حق بالتسوية[/c]يفسر لنا المؤلف بواعث هذا النص الغنائي الفلولكلوري: (وقد أفادنا العارفون في لحج بأن هذه الكلمات رددها وأنشدها بعض العبادل العائدين إلى ديارهم بعد حادثة السفينة الهندية (داريا دولة) وقيل حينها أنهم قد نهبوها، فكانت هذه الحادثة ذريعة وحجة قوية لاحتلال عدن عام 1839م، بقيادة الكابتن البريطاني هينس قائد الحملة البريطانية التي احتلت عدن).وينبغي التنويه هنا إلى ان المرددين قديماً لهذه الأغنية، وهو ما تواتر عن الفلولكلور من خلال الممارسة مثلما كنا نرددها من بعد في عدن بعد تحوير كلمة (السعدية) إلى (الزيدية) حيث دخلها اللحن، كانوا عند أداء الشطر الثالث يضعون الكف اليمنى من اليد على الرقبة من الخلف أو بمحاذاة الأذن، ويضربون المرفق الأيمن لليد بالكف اليسرى عند قولهم (هذا لك)، ثم يضعون الكف اليسرى على الرقبة من الخلف أو بمحاذاة الأذن، ويضربون مرفقها بالكف الأيمن عن قولهم (وهذا لي)، وهي عادة ملازمة للغضب إشارة إلى أنهم عادوا من المعركة بلا شيء، أي دون البضاعة المنهوبة التي يتظاهرون الآن باقتسامها والتي يدعيها المحتل البريطاني إذ نبت سيوفهم وخناجرهم عند مقاومتهم له لما كان يملك أعتى الأسلحة .. والشطر الأخير كناية عن السخرية المريرة المغلفة بقشرة من السكر وكما يقال شر البلية ما يضحك! .. بهذا وجب التنويه حتى لا يتوهم القارئ ان الأهالي قد غنموا تلك السفينة وشرعوا باقتسامها بعد مقاومتهم للعدو دفاعاً عن الوطن.غير هذا، ثمة أنموذج آخر كان يجري من خلال التخاطب مع اعلاق الطبيعة حيث نجد تلك الموتيفة Motif التي كان يجري ترديدها في حضرموت وفي عدن سيان في لحج مع أولى تباشير هطول المطر:[c1](يا مطيره صُبي لبن لبنيا مطيره العيدروس دخل عدن)(حضرموت)(يا مطيره صُبي لبن لبنيا مطيره عمي في عدن)(عدن)[/c]وهي في لحج التي تستقي من الأودية فتستبشر بأول الغيث وتتطلع إلى السيول الزاحفة من جبال اليمن، وقد تحولت إلى نص غنائي حديث بمصاحبة آلة موسيقية وعلى إيقاع السياري الشعبي:[c1]وامطيره حطي لبن لبن سال السيل جانا من اليمن بايسفح للبحر في عدندفوني انا بردان جنا الحب ملا الوديانخلى كل حد فرحان ذي ما يحب فهو غلطان واسيلوه .. واسيلوه[/c]على ان تفاعل القديم مع الجديد، كما يرصده لنا هذا المؤلف من خلال المعطيات الشعرية الشعبية أو الألحان المصاحبة للرقصات الشعبية، وهو مما يجري التعاطي معه في كثير من المجتمعات الحديثة في البيئات المتحضرة حتى اليوم سيان في الشرق والغرب!وسمة علماء الفلولكور في عملية التفاعل هذه قولهم: انه النتاج الحديث لنفس العقل الشعبي القديم الذي يعمل تحت ظروف جديدةـ ما يعني أن الأغنية الحديثة ، نسبياً ـ في ظرف من ظروف تطور الأغنية، تدخل في عداد الأغنية الشعبية وان أصبح لها مؤلف معروف وآلات موسيقية غير الآلات الشعبية .. وعلى هذا قامت كثير من أغنيات (أحمد فضل القمندان) وهو ما كان يصنعه قبل ذلك (فضل ماطر) الذي كان لايزال قريباً من حاسة الوجدان الشعبي، قبل نضج وتطور تلك الأغنية!ويحتوي هذا الكتاب غير ذلك، على ذخيرة من عناصر السرد التاريخي لكثير من الوقائع والظروف التي احاطت بتشكل ونضج وتطور الأغنية اللحجية .. وفيما تتعرض له اليوم من التعدي على جوهرها، إما انتحالاً بنسبتها إلى غير مصدرها , وأما بتقديمها في نسق مشوه على غير صياغتها اللحنية .. وهو الأمر الذي حدا بالباحث الأستاذ (عبدالقادر قائد) إلى استنقاذها وإعادة إحيائها في سياق علمي يعتمد أدق أساليب التدوين الموسيقي الذي شمل الآلات الإيقاعية الشعبية .. فحفظ للحج الخضيرة الغناء كجزء من التراث القومي معلماً من أهم معالم تاريخها الثقافي غير المدون عزوة هذا المفهوم القائل: الفلولكور ينشد ان يستكنه تاريخ الناس غير المدون، على ان كثيراً منه قد بقي بغير تدوين، وهو ما يجعلنا نطمح لأن يمعن الباحث ويتوغل في استقصاء عناصر هذا التراث التي ربما لاتزال مغيبة في الذاكرة الجمعية للشعب.
|
ثقافة
التراث الغنائي اللحجي .. بوظائفه الإيقاعية والموسيقية في سياق علمي
أخبار متعلقة