في مسلسل (فرصة أخيرة)
مختار مقطريأتحفتنا قناة (السعيدة) الفضائية بمسلسل درامي هادف وراق وجميل، من ثلاثين حلقة، طوال أمسيات شهر رمضان المنصرم، بطولة نخبة من فناني عدن الكبار منهم قاسم عمر وفؤاد هويدي وسالم العباب وهاشم السيد واحمد عبدالله حسين وعبدالله هادي السعدي وعمر مكرم وغيرهم بالإضافة الى الفنانات المتألقات شروق وسالي حمادة وهدى حسن وفاطمة عبدالقوي وهدى رمزي، ومجموعة غير قليلة من الوجوه الشابة التي تقف لأول مرة أمام الكاميرا وقد تميز البعض منهم وتوتر البعض الآخر كونها التجربة الأولى، فقد تميز مثلا محمد خالد وصقر عقلان وعمرو احمد ومعاذ وفيصل وهدى رمزي وغيرهم. ولن ادلي بشهادتي في تميز الممثل الشاب أكرم مختار (مجد) لان شهادتي فيه مطعون فيها لأنه ابني الأصغر.ومسلسل فرصة أخيرة قصة وسيناريو وحوار كل من عمرو جمال وياسر عبدالباقي ومازن رفعت ومروان مفرق.ومعظم هذه الأسماء لم يسبق لها تجربة الكتابة الدرامية للتلفزيون فهم مشهورون أكثر في القصة القصيرة والرواية، فكيف أمكنهم كتابة سيناريو محكم ململم التفاصيل لا رتابة فيه ولا ملل، بمشاهد قصيرة وجمل حوارية قصيرة ولهجة وسط لم تغرق في اللهجة العدنية المحلية وبعد كل مشهدين أو ثلاثة حدث جديد يحبس الأنفاس، مع مخرج مبدع متمكن، يمسك بإتقان بكل خيوط العمل الفني ليقدم لنا مسلسلا من ثلاثين حلقة لم نشأ أن ينتهي، ولعل في الجعبة جزءا آخر لنواصل مع المخرج المبدع عمرو جمال تفاصيل أخرى من المأساة التي أصابت مدينة عدن ولربما مدن جنوبية أخرى جراء من اعتقدوا أن الوحدة اليمنية تعني الضم والإلحاق وتعني الاستحواذ على ثروات الجنوب وأراضيه وإلغاء منجزاته بحجة الخصخصة لكل شركة ناجحة وكل مصنع واقف على قدميه ولم يكن يحتاج الا لدعم من الدولة، كل ذلك بذريعة كسر احتكار الدولة ليستفيد من كل ذلك مجموعة أفراد وأسر من ذوي الجاه والسلطان والقوة المتحالفة ليتحول الاحتكار من احتكار دولة لصالح المجتمع الى احتكار قلة من المتنفذين ورجال المال والأعمال والقادة العسكريين ورجال السياسة وشيوخ القبائل منذ انتهاء حرب 1994م، وفتحوا للاستثمار أبوابا غير مشروعة في ظل غياب متعمد لسلطة الدولة وإلزامية القوانين، فكانت النتيجة خصخصة لا تخدم الاقتصاد الوطني وتشريد الآلاف من العسكريين والموظفين والعمال الى الشارع بالإكراه والضغط او بالتقاعد المبكر وغير ذلك.لكن المخرج المبدع عمرو جمال في مسلسل (فرصة أخيرة) لم يشأ أن ينكش أوجاعنا لأنها منكوشة فعلا، ولم يشأ أن يبكينا فكم قد بكينا، ولم يشأ أن يعمق مأساتنا لأنها عميقة فعلا، ولم يدعنا للتذمر والشكوى والنواح، لكنه أراد أن يدعونا للتفكير أو لإعادة التفكير في واقعنا المرير لنكتشف بأنفسنا الطرق الناجعة لمواجهة الشر، ولذلك ظل طوال ثلاثين حلقة يكشف لنا بعض أوجاعنا وبعض الظواهر الاجتماعية الخطيرة التي لم تعرفها عدن من قبل وربما مدن يمنية أخرى، وما أصاب الشباب من إحباط وخيبات أمل، وما أصاب معظم الأسر والعائلات الكريمة في عدن من تمزق وانفلات اجتماعي لان أربابها مشغولون بتوفير لقمة العيش الكريمة والاستقرار الأسري للأبناء، لكنهم فاشلون في هذه المرحلة، لان الشر مازال هو الأقوى بوسائله المتعددة المهدمة للقيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية، لكن المخرج المبدع عمرو جمال لم يشأ أن يصدمنا بما هو أدهى وأشد بشاعة من ظواهر اجتماعية مفجعة لا يمكن حصرها على مدينة عدن وحدها، ولكن عدن لها أسبابها فلم تعرف من قبل شيوع هذه الظواهر وتحولها إلى ظواهر اجتماعية متفشية مثل (البطالة والتقاعد المبكر وخصخصة الشركات والمصانع الناجحة والتهميش حتى في مجالات الابتكارات العلمية والثقافية والفن والإبداع والفقر المدقع وانعدام المياه والكهرباء والرشوة والفساد الإداري والأخلاقي والتطرف الديني)، وحسبنا انه تناول ظاهرة المخدرات.ولذلك لم يدخل عمرو جمال بالكاميرا إلى الأحياء الأشد فقرا أو معاناة بمدينة عدن بكل ما فيها من أخطاء وخطايا وأماكن لا تصلح للسكن الآدمي لأن عمرو جمال لم يشأ أن يزيدنا تذمرا لنستمر في الشكوى المذلة والتفجع والنواح، وإنما لنفكر في حلول لمشاكلنا وخلاص من مأساتنا، فجاء إخراجه للمسلسل بحرفية عالية المستوى واضحة الهدف على رؤية فنية واعية ومبدعة مع تصاعد درامي جميل ومشوق، فلم تفلت منه شاردة ولم تضع منه واردة فكل مشهد كان يخدم سياق العمل الدرامي كله، مع حرص شديد على الجاذبية في الصورة وفي الديكور وفي ملابس الممثلين المشتراة خصيصاً للمسلسل وليس كما اتفق، مما يعني سخاء قناة (السعيدة) في الإنتاج، هذا بالإضافة إلى الجديد والتجديد في فن الإخراج الدرامي التلفزيوني، وتحديداً في المشاهد الخارجية التي كونت الجزء الأعظم من الحلقات الثلاثين للمسلسل، بزوايا تصويرية منتقاة بعناية وإبداع، مما قتل الرتابة والملل، ما لم نعهده في الدراما التلفزيونية منذ أكثر من عشرين عاماً، ضف إلى ذلك تلك الصور الجميلة لمدينة عدن كفواصل بين المشاهد أو أماكن للتصوير مثل البحر والكورنيش والشوارع والمدن المضيئة كخلفيات للمشهد و(الجولات ) التي تم تصوير حركة السيارات حولها بالتصوير السريع، وكأن عمرو جمال يريد أن يقول لنا أن مدينة عدن رغم مآسيها ومعاناة أبنائها لاتزال مدينة جميلة لا يقوى أحد على إذلالها أو تحطيم معنوياتها، فهي لم تهرم ولم تشخ ، وهذه هي الرسالة النبيلة التي أراد عمرو جمال إيصالها لنا من خلال مسلسله الرائع ( فرصة أخيرة ) من غير تشنج أو صراخ في أداء الممثلين جميعاً أو تصوير مفجع ومرعب لمناحي المآسي والكوارث الاقتصادية والاجتماعية في مدينة عدن، ولكن من خلال إخراج فني متميز، درس صاحبه السيناريو دراسة متأنية وواعية وحدد هدفه بعناية قبل البدء بالتصوير، فتمكن من تقديم رسالته الفنية والفكرية بكل سلاسة ورشاقة وجاذبية ، بعيداً عن الهرجلة والعكتة والفواجع والرعب والإشارة الحسية كما نشاهدها في مسلسلات عربية وغير عربية، وربما اختلفنا معه في رؤيته الفكرية ، لكننا لانملك إلا أن نعترف بنجاحه الكبير في إفراج مسلسل درامي متميز في ثلاثين حلقة رغم أن المآسي والكوارث بمدينة عدن (موضوع المسلسل) فيها من المشاهد الدرامية مايزيد عن تسعين حلقة أو أكثر، ومن يدري ، فلربما كان عمرو يدخر في جعبته جزءاً ثانياً وثالثاً لهذا المسلسل الجميل ( فرصة أخيرة ) مع اسمى آيات الشكر والتقدير لقناة ( السعيدة ) الفضائية على إنتاجها السخي لهذا المسلسل الجديد فكراً وإخراجاً وتصويراً ومضموناً ولها كل الثناء لإضافتها الجديدة في الدراما التلفزيونية اليمنية بعد أكثر من عقدين من اللاجديد في الإبداع الدرامي التلفزيوني الجاد، لم نشاهد خلالها غير التكرار والإمرار والارتجال والسطحية في المضمامين والإخراج الكسول التقليدي والمقلد دون أدنى احترام لعيون وعقول المشاهدين، الأمر الذي جعل مسلسل (فرصة أخيرة) للمخرج المبدع عمرو جمال عملاً درامياً حافلاً بالتشويق بلا إسفاف أو كآبة أو إثارة لمجرد الإثارة. ومن عوامل نجاح هذا المسلسل أنه ابتعد عن نمط مسلسلات البطل الواحد الأوحد، كما في المسلسلات المصرية (مثلاً) ولذلك تنوعت المشاهد والوجوه والمواقف الإنسانية المختلفة فكانت المدينة (عدن) هي بطل المسلسل الذي جعل له كاتب القصة والسيناريو والمخرج عمرو جمال هوية عدنية وجنسية يمنية وعلى الرغم من مشاركة العديد من الممثلين الكبار إلا أن المسلسل بدأ أميل لمناقشة هموم ومشاكل الشباب من خلال مواقف الكبار، في مسلسل درامي يدعو لتماسك الأسرة والمجتمع لمواجهة الشر، ويدعونا للحب والتعاون والاقتراب أكثر من الشباب لأن الأمل دائماً في الجديد ، لكن الشر له أوجه عدة، وهو لايتوقف عن محاولاته لتدمير المجتمع لتحقيق مصالحه، ولذلك كانت براعة من المخرج في انتهاء المسلسل بلقطتين ، لقطة عودة التألق للأسرة داخل المعمل، وعود الكبريت المشتعل في محاولة جديدة للشر لإحراق المعمل للاستيلاء على الأرض ولست بصدد سرد قصة المسلسل كي لا أفسد متعة مشاهدته على الذين لم يشاهدوه لو قامت قناة ( السعيدة ) بعرضه مرة أخرى، وأظن أنها ستفعل ذلك قريباً. ويغامر عمرو جمال بهذا المسلسل بابتعاده عن الكوميدية التي اشتهر بها في الدراما التلفزيونية وعلى خشبة المسرح ونجح في المغامرة وغامر في الاعتماد على وجوه شابة جديدة ونجح في المغامرة، ونجح في الدخول لصميم المجتمع لكنه لم يجلد ظهورنا وإنما دعانا للتفاؤل بقدرتنا على مواجهة الشر، مقدماً نماذج من أبطاله، وزير فاسد، محام بلا ضمير، رجل أعمال لا يهمه إلا تحقيق مطامعه، تاجر مخدرات وغيرهم ، وبالمقابل قدم لنا أبطالاً للخير، ومنذ غابر الأزمان والخير والشر متصادمان، ولكن الشر يبدي نواجذه أكثر في ظل وضع سياسي فاسد وسوء إدارة وغياب للدولة والقانون، وفساد أخلاقي ولكن تبقى القيم الصالحة حية لاتموت، ويبقى صلاح الأسرة وتماسكها خير معين في مواجهة الشر. وكان المسلسل شجاعاً حين تطرق للأسباب السياسية في تداعي المجتمع نحو التخلف، وكان رائعاً حين دعا الشباب للاستفادة المثلى من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في الانترنت لكشف الفساد وتأهيل التعاون فيما بينهم في مواجهة الشر. أخيراً... لي عتب على قناة ( السعيدة ) ففي نحو خمس وعشرين حلقة قدمت من غير المقدمة، فلم نحفظ أسماء الممثلين الشباب ولم نستمتع بالأغنية الرائعة المصاحبة للمقدمة (رمز المسلسل ) وهي بذلك حرمت عدداً كبيراً من حقهم الأدبي ، فكان التنسيق واحتساب الوقت ضرورياً، بدلاً من اتهامنا إياها بأنها ترى العمل الدرامي في المرتبة الثانية بعد برامج المسابقات، وسيبقى مسلسل (فرصة أخيرة) دليلاً على بطلان دعوى عدم وجود مبدعين في بلادنا، فالأزمة أزمة محاباة ونفاق ومجاملات وإنتاج ضخم معظمه لايخدم العمل الفني ، لكن، وكما قال المسلسل، لا وجود للفرصة الأخيرة ، وإنما هناك دائماً (فرصة أخيرة) مهما تفاقمت الأزمات وانتهكت الحقوق. ألف شكر وتقدير لكل من أسهم في هذا المسلسل الجميل (فرصة أخيرة) الذي ظل المخرج المبدع عمرو جمال يعزف من خلاله قطعة موسيقية مؤثرة لكنها غير منكسرة ، وحزينة لكنها ليست متشائمة ، وشخص الواقع بشفافية مع نهاية مفتوحة، لأن الفنان الحقيقي يحترم عقل المتلقي فلا يفرض عليه حلولاً ، بقدر ما يصور الواقع ويترك حرية الاختيار، مع توجيه ناعم وشفاف نحو الاختيار الأفضل: الحب والتآلف والقيم النبيلة، ليبقى الخير قادراً على مواجهة الشر!