كما لم نر إلا في القليل من الكتابات النسائية الجادة، يفجؤنا صوت أنثوي متمرد مشاكس، نسمعه بوضوح في (أبجدية خاصة) لرانية أرشيد. نقع فيه على ارتكاب السماء خطيئة التفاحة و ارتباك الإنسان في مواجهته للعدم في انتصار نصف التفاحة الآخر لأنثويته المعذبة، المنقسمة ما بين الرغبة و الخلق ، في لذة الحرمان و الحرمان من اللذة.نقرأ أبجدية (رانية أرشيد) لنستعيد لغتنا المفقودة في حلم الجنة بعد الطوفان، الأرض الموعودة التي نبني عليها جنة الحياة و حياة الحرية. نتهجأ أحرف أبجديتها لنتعلم منها لعبة الرفض الجميل للقيم الموروثة التي نحن إليها ولا نسكنها، كبيت رانية العتيق على التل. و كأنها بذلك تساهم في بناء أسس الكتابة الأنثوية المتمردة في شرقنا المأزوم و ثقافة الخصي الذكوري الضائع، البلا ظل.هذه الكتابة التي تقوم في ظاهرها على العلاقة بين (أنا) الأنثى و (أنت) الذكر، لكنها في حقيقتها تمحو هذا الفارق الجنسي الساذج والسطحي جدا، لتقترب من العمق الإنساني لكليهمافي مواجهتهما الوجودية مع المصير/ القدر الأزمة. و إن اصطادت (رانية) صور هذه العلاقة فلأنها اختزلتها في تعاشقها مع (هو) الغائب الذي لم يحضرها بعد. ربما لأنه اكتشف أنه لا يليق بعظمة ما هي عليه، لأنها الأنثى الماء و هو الرجل الغبار.تتعرى يومية الحياة عند (رانية أرشيد) من كل ما التبس عليها من أسئلة عصية على الإجابة. فتهرب هي من التفاصيل السوداء التي لونت حياتها بالعدم. لعبة ذكية أن نتلون بالعدم لنخرج بنا منه إلى الخلق، القيامة. لعبة ظلالٍ تتشكل صورا يومية اعتيادية لكنها ليست عادية أبداً، إذ تتخذ لها دورا في لعبة الظلال و الأشكال في لوحة سوريالية الحياة وصولا برانية إلى عالمٍ رومانسي رمزي لا يتسع إلا لها، و لا يكتمل إلا به.التفاصيل : الستارة، النار، النهر، القبر،الرصيف، الكوخ الصغير، المدخنة، موج البحر (صفحة 18)، كلها صور خادعة قاتلة موحية بالعدم تكتمل بالساعة الزئبقية و العقربين، بالرياح الصفراء، بالشتاء البلا مظلة، بالمساء في مرضٍ إنساني ينتشر كوباء في عالم بشريتنا الحديثة و مدنيتنا المعاصرة. التفاصيل المريضة بالوهم و الخيال و الشتاء (صفحة 22) تنبئ بالغربة و الوحدة و الضياع، فتصير أجسادنا كلها أشباه أجساد، و يصير للرصيف ملامح عجوز تلمع في عينيها نقمة على الحياة - رانية اختزال ذاكرة الوهم و حاضر العدم، ( لا لست أنا، فلتقم القيامة على روحي) . و لا تكتمل صورة العدم إلا بالمدنية الحديثة، ذاك الهم الذي أرق شعراء هذا الزمن المريض بالإسفلت و أزرار المصاعد و مناطحة السماء في سير حثيث متسارع الوتيرة نحو موت محتم.المدنية المريضة التي تبعث على الغثيان، تبعث على الحزن، الموت، حين تختصر (رانية أرشيد) صورة هذا الحزن في حماقة ترتيبه لأشياء الحياة، (أجلس وحدي على شرفة المدينة، أطالع عبارات الحزن في أرصفتها، و أشارك الشوارع وحدتها.و تضيف (رانية أرشيد) إلى هذا الوجع الشاعري، في تماس روح الشاعر بالمدينة الحديثة التي تفرض اختناقه، ملامحَ جديدة لم تكن معروفة قبلا، إذا تنـزع عن بعض الأماكن تلك الرومنسية الحميمة التي وسمها بها الشعراء من قبل. فالبحر عند ( رانية أرشيد) هو أشلاء نوارس و غريق، و ذاكرة موج تقول : (تتألم ، لا تتكلم). كما تسقط (رانية أرشيد) عن الموسيقى ذاك السحر الذي كان باعثا على الحياة ليصير لوجع النايات علاقة وطيدة بلسعة الذكرى و الفرح الرمادي، كأنها تعلن موت الصوت، الروح (كأن نزيف أمطاره رشة ملح على طعم ساعاته ، حين البعد أضاع المسافة).لعبة الكلمات في اتخاذها أشكالا شتى وصولا إلى فعل عمادتها بالماء. خطاب سماوي أنثوي حالم يغرق التفاصيل بالسوداوية و يسميها بالعدم. ثم يرتقي بها إلى عالم البياض، الماء، الطاهر المنـزه أو الكشف الحميم.هو و هي يغرقان في عالم السوداوية المريض بالخطيئة، (توتر ليله العاقر، رعد كلماته محترقا ببريق اللحظات، خطوات على رمل الساعات). هو سبب و نتيجة معا، سبب تشظيها و انسلاخها عن ذاتها الراغبة، الدافئة في غوايتها، و هي مريضة به حين هو كأنه يمازح حواسي المختصرة، حين يفاجئني ببرده المحموم. يختنق صدرها بالآخر، حتى فسحة الفراغ، تختنق من دخان التراب، لأن ليله جاف و صفاءه أسود، ولأن كليهما (غريب، أشباح على فراش بعيد)، وهي جثة في مقبرة المكان.هو سبب معاناتها به، وهي سبب فرحه بها. حين هو سكر فرحها و انتشائها، و سكر روحها بوجوده المحرض على الغواية دقائق تتصارع في نفسي ... تحصد ثمار ذاكرتي لتنثركَ بذورا و يحتويكَ جسدي . و المسافة بينهما معاناتها و فرحه ، فرحها و غيابه. المسافة، الظلال و انتفاء الوصول في انعدام التحقق. لأنه الآتي الذي لم يصل، تصرخ في وادي الوهم، و يرجع صوتها الصدى (صوت واحد يريدني إليك ... يريدني لديك). تعيش خصوبة الحلم ولا يتحقق. تصير ثمرة مدلاة ترتعش من قطافٍ محرم حين تمارس الجدران، جدران روحها و ثنايا جسدها، عادتها في الشقشقة، لأنه هناك يراوحها قميص من أصابعه و لا يأتي، بل يمر كحفيف ثوب أبيض لأن جسدها غير قابلٍ لمعادلة اكتمال اثنين بالكشف و الخلق، لأن بينها و بين سهوله الخضراء سفراً و صحارى يتخطاها سرابها، و نوما ثقيلا تلقنه درساً في الأجوبة المحرمة.خصوبة الحلم كدافع محفزٍ على الخلق الجديد، قيامة الماء بعدما فقدت عناصر الخلق الأخرى قدرتها على التشكل، فالريح ضدها (كريشة عصفورٍ عاجزٍ تحملها الرياح، يرتعش جسدي)، و النار خبت في ثناياها التي كانت دافئة ( كنت نارا و لم يشتعل الجسد، أنا قبر داخلي حي يرتاح به قلبي) ، و اختناقها من دخان التراب ثم يأتي الماء، الماء الذي يعيد الحياة إلى عروق الأرض عروق القلب. الماء المتقطر عسلا، نقطة نقطة لتحيا هي و تزهر أوراق غوايتها، ( قرر الشتاء أن يثقب أرضي، غزيراً كان ... تواقا لها).تبدع (رانية أرشيد) في عصر الكلمات و اختزالها إلى أبسط تشكلاتها البنائية بأبعد الإيحاء، و برمزية رائعة خلاقة ، فتصير (كل الفصول ... مواسم للحصاد) .تناجي الياسمين كي يرسم اكتمال لوحتها الرومنسية، كي ينـزرع فيها لتحميه بيديها و تصله عواصفها الصامتة، ليسمع رعد ارتجافها، ارتعاشها لأن (هو) نهر هائج نحو نارها، لا تراه إلا ( بملامحه العارية). تطرح (رانية أرشيد) إشكال العلاقة بين المقدس و المدنس، في وضوح اقتراف الموروث قتلَ الجديد المحدَث. ارتكاب المجتمع باسم القديم المعتاد جريمة وأد جنين الرغبة في انطلاق فردية الإنسان، الشاعر الحميمة، و يغدو الضمير الجمعي حارس القيم المتجدد ناطورا لتفتح البراعم في حقولها الخضراء ساعةَ، خطواتها تسير خلف خطواته المجهولة ، تقتلها الظنون، و تقول: لا، لا / هناك مازلت أرى صاحب الكرم ، و بيتنا العتيق خلف الرابية،.البيت القديم ، قيم التقليد، موقف (رانية أرشيد) من جبروت هذا الرقيب، الأب، الحاكم، رجل الدين. موقفها من التراث، انتحار الرغبة قبل تحققها، لأنها تعني انسلاخ (أنا) الشاعرة عن (أنا) الجماعة في إعدام الحلم و قتله (أنا دون مظلة، خرساء، أحرق ماضي و حاضري).تصير الفراشات في ربيع أبجدية (رانية أرشيد) الخاصة بنتَ الليالي التي تمحو رقص الفراشات، و الجدار الذي يقف بينها و بين أن ترتاح إلى أنوثتها، و هذا الجدار محصن أمامها و مانع يقمعها، حكايته مثل حكاية بيتها العتيق خلف الرابية، حكاية التقاليد و القيم، موروث الغباء في إسقاط الفكرية على الشعرية و العقلانية على اللاوعي في أرقى انزياحاته و تفجره، موروث العرف المجتمعي الخانق لكل جمالية في اقتراب السماء من الأرض، أو نزوع الإنسان، الأرضي إلى الارتقاء بسماويةٍ ما، لا يفقهها إلا الشعراء، و (رانية أرشيد).
|
ثقافة
قراءة نقدية في مجموعة (أبجدية خاصة) للأديبة رانية أرشيد
أخبار متعلقة