كتب / أحمد زين الدينتبدأ قصة إلياس خوري (مجمع الأسرار ) بلازمة كلامية ( بدأت الحكاية ) تتكرر في مستهل كل مقطع، وتعيد رواية الوقائع مجدداً على صورة حلقات حلزونية تضيق وتتسع. تستـأنـف الحكاية دائمًا من جديد، أو الأحرى، من زاوية أخرى، ومن زمن آخر، كأنما هـي تتوالـد وتتناسل من داخل بؤرة حكائية مستقلة عن انعكاساتها الواقعية، بؤرة تكشف بقـدر ما تخفـي، وتعكس الواقع لتوهمنا به. الخبر الروائي في قصة خوري هذه، كما ســائـر أقاصيصـه، يبـدو شديد الواقعية، ولكن ما أن نفرغ منه، حتى نتبين أنه كاذب، وإن ما يروى هو الكـذب بعينه، هو الإيهام بالحقيقة، وليس الحقيقة في ذاتها، (هل نعرف السر حين نستمـع إلـى الكلام ؟ هل الكلام يخبر أم ينفي ) (ص 84). بهذا يتفوه الراوي ـ الكاتـب، وهـذا هـو الأساس الذي يقوم عليه البناء الروائي عند إلياس خوري. فالرواية لديه ليست رواية الحقيقة، إنما رواية الاحتمالات، شهـوة إلى الكلام لا ترد إلى الواقع بل إلى رواية أخرى. يضعنا الكاتب دوماً في مناخ من عـدم التصديق أن ما يحدث هو الواقع، يدفعنا إلى الريبة فيما يكتبه هو، وفيما نقرؤه نحن. وإذ لا حــدود بيـن المعيـش والمتخيل، ما دامت الحكاية تحل أحياناً محل الواقع، فإن رواية خـوري تقول لنا بأننا غيـر قادرين على معرفة الحقيقة. وإن النص الذي بين أيدينا ليس محاولة لزعزعة يقيننا بهذا الواقع الذي نسميه واقعاً. والراوي ها هنا، غير واثق من حقيقة ما يرويه. وحيث يتمـاهى الـراوي بالمؤلف لا يعود المؤلف قابضًا على زمام الموقف، وهو يضع نفسه في الموقـع المـحايـد، ويغدو واحدًا من الرواة المحتملين، ومرجعًا من مرجعيات متعددة. وإذ لا يدري هل ما يرويه حدث بالفعل، أو هو متخيل أو مختلق، فإن اللايقينية هذه تدفعه إلى الحيرة والبلبلة التي تخلط عليه الأحداث وتشتبه الأسماء في ذهنه، فلا يميز بين ما وضعه الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في “ قصة موت معلن “ عن حكاية سانتياغو نصار، وما يكتبه هو عن عـائلة يعقوب نصار في لبنان التي كانت تستعد للهجرة إلى كولومبيا. ويتساءل : (من كتب الرسالة ؟ ما العلاقة بين جريمة قتل حصلت في كولومبيا، وبين هذه العـائلة التي باعـت الأرض فـي (عين كسرين ) وكانت تستعد للهجرة النهائية إلى أميركا الجنوبية ؟ هل كان الكـاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز يعلم حين كتب روايته (قصة موت معلن) انه يكتشف سر تلك الرسالة الذي بقي غامضاً فترة طويلة، أو حكاية ماركيز لا عـلاقة لها بموضوعنا، وصلتها الوحيدة به هي الأسماء التي قد تتشابه وتتكرر ؟ )، لا يعود الراوي ـ الكاتـب أمام هذا الالتباس مسيطراً سيطرة كلية على فضائـه الروائـي. ولا يبقى متقلداً سلطة الكلام كصوت سردي وحيد. ثمة مسافة أو هوة عميقة بـين المؤلـف ونصه. وكأنما النص يتحرر من كاتبه، ويتملص من قيوده، ويسخر من ادعاءاتـه بالقـدرة المطلقة، ويغدو الراوي ـ الكاتب جزءاً من نسيج الأحداث، خاضعاً لوطأتها، معرضاً للنسيان والشك والتضليل. ما يدفعه إلى خلخلة الفواصل بين الأزمنة والأمكنة والأشخاص وبين المنـام واليقظة. وبين التمثيل والواقع. بين البريء والمجرم، ويظهر أن تبادل الأدوار، أو الالتباس بين حنا السلمان (المالح) البريء، وفيكتور عواد القاتل، يمثل صورة ناصعة عن هذا الخلط ذي البعد المأسوي. فحنا هذا الذي أرغم طوال الرواية على أداء الدور، ظـن في النهاية لشدة ما عانه انه لم يمثل دوراً، بل مارس حياة السجن كمجرم حقيقي. وحين ذهب لحضور إعـدام فيكتور عواد شعر كأنه هو من سيعدم )، حضر المحاكمة وذهب إلى حيث مثل عواد جرائمه، وكان يشعر أنه من الممكن أن يكون هو. رأى المجرم الحقيقي يمثل الجرائم التي سبق لـه أن مثلها، وخاف من الحقيقة، واقتنع أن الإنسان يمكن أن يكون أي شيء، وإن القضية برمتـها مجرد مصادفة ) ص (169)، وحيث الرواية تزيل الحد بين الواقعي والمتخيل أو المحتمل، تدخـل القـارئ في دوامـة السؤال المفتوح عن المنطقة البرزخية بين هذين القطبين. واعتدنا بـما ورثنـاه من مفاهيـم وتصورات ان نفرق بينهما تفريقاً حاداً. الرواية إذن تناقض ما ألفناه وتقول ما يخالف قناعاتنا، وحيث نريد ان نقرأ ما يجلو الغموض، ويبسـط الحقائـق تطمـس الحـدود، وتحجـب، وتواري، بدل أن تبين وتكشف. تبدأ بموت (إبراهيم نصار) وتقفل أو، الأحـرى، تفتـح مجدداً، (لأن كل نهاية في الرواية بداية لنقطة أخرى) على سلسلة من الأوهام والحكايـات المحيرة. بيد أن هذا الاختلاط بين الواقعي والوهمي في ( مجمع الأسرار) لا يقلل البتة من علائقها بالحاضر أو بالماضي، فالواقع في الرواية الذي يتناول، في وجه خاص، حقبة الخمسينـات، حاضر بقوة، وبكل كثافته التفصيلية اليومية، بصفته انه فترة مرجعية تضغط علـى تشكيـل المسار أو المنحى الذي اتخذته الحرب الأهلية اللبنانيـة عـام 1975 في ما بعـد، غيـر أن استحضار هذا الواقع أو تلك الفترة يمر من طريق الذاكرة، أي من طريـق التصفية وإعادة التركيب والمزاوجة بين الصورة الواقعية والصورة المتخيلة. كذلك يقـارب إليـاس خـوري الأحداث لا كما هي تنعكس في الذهن السلبي، وإنما من خـلال إعادة توزيعـها وتقطيعـها، وتنويع مساراتها ومستوياتها السردية، فيتمظهر الواقع لا كما كان، بل كما هو معاد إنتاجـه في نص متعدد الطبقات والكثافات. ويسعى القاص في مواضع من روايته إلى (التدخل) موضحاً مدلول تسميتة أو خبـر ما، بالإحالة على كتابات وأخبار صحافية، وربما وثائق تاريخية، مثل معنى اسم بلدة عين كسـور كما ورد في كتاب ( معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية ) لأنيس فريحة، وحورها إلياس خوري إلى (عين كسرين) وأخبار إصلاح السجون اللبنانيـة نقلًا عن الصحـف اللبنانيـة الصـادرة عهدئذ. وكذلك استعادة أحداث 1860، وتقصي حكايات المهرب الشهيـر سامـي خـوري. ووصف مراحل نزوح بعض العائلات اللبنانية من مواطنها الأصلية إلى لبنان. فالكاتـب لا يخرج روايـاته ولا أبطاله من السيـاق التـاريخي والأحـداث العاصفة، ولا يحررهم من الإيديولوجيات الدينيـة والعصبويـة والعائليـة التي تضغط على أعناقـهم وعقولهم. فهو خصص بالحرب الأهلية اللبنانية جل رواياته وأقاصيصه السابقة، وهنا فـي (مجمع الأسرار ) وإن لم يمض على الحرب الأهلية 75، مثلما درج في رواياته السابقـة، فإن تحديد زمن الرواية ومن الصفحة الأولى بالسادس من كانون الثاني 1976 والعودة المتكررة إلى أحداث 1860 لا يخلوان من دلالة ارتباط وثيق تجمع الحربين في سياق واحد، ويجعلان من الحرب الأخيرة فرعاً من جذع أو بنية من العلاقات السلطوية المتجذرة في تـاريـخ لبنان. وتغدو حكاية الحرب الأخيرة حكاية محتملة الحدوث في كل آن. كيف سيؤرخ المؤرخون لتلك العشيـة، هل بـدأت الحرب عـام 75، أو عـام 73 أو 68، أو عـام 67 أو عــام 58 أو عـام 1860 ؟. ( لا أدري كل العشيات تصلح أن تكون عشية لتلك الحرب الطـويلة التي دمرت كـل شيء) ص (185). والقاص في ما يكتب ينحو إلى الكشف عن الشروخ في قلب العلائق الاجتماعية والسياسية، ولا يتوانى في إظهار الثقوب في الجسد السياسي، عبر إدانته الجهاز القمعي للدولة التي عذبت بريئًا مثل حنا سلمان في السجن، حتى أوصلته إلى حافة الإعـدام والجنـون، وغضـت النظـر أو تواطأت مع مهرب عالمي مثل سامي خوري. كذلك يعرض بالسلك الكهنوتي عندما يرتشي الكاهن، فيدفن الميت دون إجراء الطقوس المفروضة دينيًا. وفي روايته يعنى الكاتب بموضوع الغربة داخل الوطن وخارجه، كما بأمور واقعية أخرى. هذا (الحضور ) التاريخي والواقعي الملموس في الرواية لا يمكن مقاربته مباشرة، كما لو أننا نقرأ رواية واقعية، إذا جاز اليوم هذا التصنيف الجازم، بل إن الكاتب لا يقدم طبقاً واقعيـاً جاهزًا، ولا موضوعاً متكاملاً، وإن غزل قصته من خيوط الواقع فهو يبعثـرها ويشبكـها، يشظي حكاياته، ويكسر زمنه. ويبدد موضوعاته، وان كان ثمة من علاقة بين الكاتـب والقـارئ فهي علاقة متباينة. حيثما يسعى الكاتب إلى التفتيت والتقويض والهدم، ينهض القارئ بأعبـاء الردم والتركيب والبناء، ووصل ما انقطع، وجمع ما تشتت. كذلك شأن وحدة موضوع الرواية، فثمة أحداث أو بؤر حكائية تتمحور حول شخصيـات، مثل حنا وإبراهيم ونورما وسارة وسامي خوري وفيكتور عواد وجوليا وعباس ومنير وأحمد. ووقائع محددة : موت إبراهيم، سجن حنا، اختفاء نورما، إلا أن سمة هذه البؤر أو الأحداث : الاحتمالية والتعددية، وتكرارها الحلزوني، وقابـلية وقوعها على أكثر من وجـه وصورة. الرواية ذات مراكز متعددة، ولكل مركز أو بؤرة حكائيـة خصوصيتـها ودلالاتـها الذاتيـة المستقلة من جهة، لكنها من جهة اخرى متعلقة، دون العلاقة العضويـة، بالنسق التخيلي السائد والمهيمن على مجمل الفضاء الروائي العام. ومتداخلـة بأصـل أو أصول حكائيـة مفترضة، وبمفاصل زمنية ومكانية، وعناصر تعريفية دقيقة. واللافت في رواية إلياس خوري انسجاماً مع تعدد المراكز والبؤر الحكائية، غياب البـطل (المركزي ) الأوحد إزاء البطولة المتعددة والمتنوعة، وإن بدا أحياناً أن الضوء يسلط علـى حنا السلمان، فإن مأسوية مصيره هي التي توحي بهذا. وشخصيات هذه الرواية ليست مختلفة عن سائر شخصيات خوري في رواياته الأخرى، ببعدها عن النمطية والنموذجيـة والقولبـة، واقترابها من المواقع الشعبية المهمشة، ومن المعاناة المعيشية اليومية التي تطحـن أجسـادها وعقولها وتشوه نفوسها وتعبث بمصائرها. شخصيات في قلب السياق التاريخي وخارجـه فـي آن، لأنها منهمكة بترتيب شؤونها الصغيرة ونزواتـها التافهـة، ومحاصرة بعقـدها النفسيـة ( نورما) المترددة، المازوخية، و(سارة) العانـس، و( جوليـا) المتوهمـة، إلى (حنـا) الغريب، و( إبراهيم)، المتوحد والمحبط. كذلك تتراجع اللغة الحوارية في (مجمع الأسرار ) إلى درجة من العامية، والسـوقية أحياناً، فتنم عند الشخصيات بالنوازع والنزوات الدفينة المتحللة من أهابها الاجتماعي، والمعبرة عـن عمقها الباطني الحار.
|
ثقافة
قراءة تحليلية لرواية (مجمع الأسرار) للأديب العربي إلياس خوري
أخبار متعلقة