كتب/ محسن الذهبيبمثابرة وإصرار ووعي متميز تقف التشكيلية العراقية (نبراس هاشم) بما تقدم من منجز إبداعي في صف متقدم من المشهد التشكيلي العراقي اليوم، للتآلف مع المفردة الإبداعية في أعمالها بحسية المتفاعل مع الهم الإنساني من خلال تماهي الأشكال والألوان على سطح اللوحة . فهي تحاول أن تقدم لنا مجموعة من العلاقات و الأنساق الفنية التي ترفض السكون والركون إلى واقع محدود الأفق بل تأخذنا بدأب طموح صوب جهد فكري بغية خلق مدلولات تعبيرية موحية بتواصلها في حوار مع حياة الإنسان والمحيط . تأخذنا بعض أعمالها إلى وحي يبتعد عن الطبيعة والواقع بشكل غير مباشر، فلا تعبر عنها بشكل تصويري بل من خلال تعبير لا شعوري عفوي نابع من إحساس تكويني للشكل يلعب الوعي بلا قصدية دورا مهما في عملية الخلق الإبداعي فهي تبحث عن أشكال تقترب بين الجسد الواعي المخزون في ذاكرتها الإبداعية وبين الواقع لخلق أشكال ومشخصات بمدلولات تعبيرية لا تبتعد عن الموروث العراقي بالذات وكأنها تحتمي به بل هي تجعل التجريد في أروقته أقرب للتعبيرية، فهي لا تتوانى من استخدام مختلف الخامات والأساليب ولا تلتزم بالتكرار الأسلوبي لذا نجدها تتبنى خطاباً بصرياً يحاول أن يجد له لغة جمالية تتفرد عما في الساحة التشكيلية من منجز إبداعي، فتلوذ بأجواء الحداثة التعبيرية كمتنفس لتفريغ شحناتها الانفعالية . متخذة من البساطة الوصفية عبر تجسيم لغة هي أشبه بطلاسم حلمية لا تخلو من عبث طفولي مقصود ، لتكون أطروحات الفنانة ( نبراس هاشم ) إعادة لصياغة اللاوعي المتجذر بشكل يقترب من العفوية ، لذا فهي تتبنى خطابا بصريا قوامه لغة جمالية مغايرة ، إذ وجدت في الحداثة التعبيرية ملاذا آمنا لمزاولة هوايتها ، ومرتعا خصبا لتفريغ شحناته الانفعالية على سطح اللوحة، وطريقا مفتوحا للبوح البصري المفتون بالتعبيرية التجريدية ، ممعنا في تبيان البساطة الوصفية، والغور بكل بساطة في أروقة لغة الحلم والعبث الطفولي ليحيلها إلى لغة الرسم الأكثر تعبيرا وتعقيدا كي لا يشوب المادة المسترجعة بعض التشوهات والنسيان وإعادة السرد إن أعمالها توهمنا بالواقع ، بل تحاول أن تترجم تجربتها الإنسانية المحدودة عبر التوغل في عالمها الذاتي عبر الارتقاء إلى مستوى التجريد التشخيصي الذي يحمل ميزة الحكاية غير المكتملة والمفتوحة على كل التأويلات مع احتفاظها بقدرة للتمتع بقيمة الجمال ومحاولتها إشباع رغباتها الذاتية بالتمتع باللعبة التشكيلية عبر تركيب وإسقاط معنى الواقع على ما هو خيال.. وهنا يمكن أن نجد الحس النقدي لمعاناة الإنسان هو السائد في أغلب أعمالها بمرويات ليست مرهونة بأسلوبية واحدة بل تتعدد الأساليب حسب نتيجة القلق الإبداعي فالتقنية والموقف لديها هو ما يستدعي أسلوب التعبير، أي أنها تشتغل في فضاء مفتوح وتحاول أن تختار تنافراً لونيا قد يبدو للعين متناسقا مع روح الفكرة . لقد نجحت بشكل لافت في تجسيد ما تريد ، وتقدمه للمتلقي عبر غنائية لونية لا تخلو من طرافة لذيذة ومدهشة في أغلب الأحيان فليس سهلاً على الفنان أن يحول روح الطفولة الحية بفيض المشاعر إلى عمل جمالي عالي المستوى دون الركون إلى مخيلة واسعة المدى والاستيعاب تعيد صياغة المتخيل بهذا الفيض من التجلي الإبداعي. فالرمز في أعمال الفنانة (نبراس هاشم) كامن في الحضور واختزاله قبل طرحه عملية ليست بتلك السهولة والعفوية بل هو وليد تجربة امتدت لعقدين من الزمن في دراسة الفن فقد بدأت الفنانة مشوارها طالبة بمعهد الفنون الجميلة لخمس سنوات وتلتها دراسة لفنون النحت في كلية الفنون لتنال البكلوريوس لأربع سنوات في النحت ومثلها في الرسم، وتكمل مشوارها تدريسية للفن بمعهد الفنون الجميلة ببغداد كل ذلك منحها معرفة وخبرة في كيفية التعامل مع عملية الخلق التي تسكن في عمق روح كل عمل إبداعي لتشكل لنا نصا دلاليا يتشح بالغموض وينفتح على تأويلات متعددة ليضيف معاني خفية تتمظهر بين التآلف والتباين بين حرارة اللون وبرودته ، وبين شفافيته وعتمته مستغلة متاهات التناقض اللوني ومابينهما من تدرجات وبقع لونية لتوصيل فكرتها التعبيرية ، أي أنها قد حاولت جاهدة أن تجعل من انفعالها الإبداعي مدخلاً سردياً كاشفاً لمفاصل الصراع وتوصيفاً لحالة الاشتباك الإبداعي، كل هذا يحدث كما أعتقد بتلقائية اللحظة المقتنصة، من هنا يجب أن نكون حذرين في منهج قراءة النص التشكيلي لديها لأن لكل عمل لديها مذاقه، فهي مغرمة بالتجريب وهنا يجب الوقوف عند كل عمل تنجزه بما له من خصوصية إبداعية قد تختلف أو تقترب مع عمل آخر .. فليس من السهل أن نرصد مبعث هذا التوالد في ثيم ورموز الفنانة عبر الراصد لمجموعة محددة من الأعمال، لان لكل عمل كيانه ومراحل ولادته وبعده الدلالي، مع أنني أرى أن أعمالها تتوالد بعضا من بعض وتتكامل في محصلة حركتها الإبداعية رغم اختلاف أسلوبيتها .إن عوالم (نبراس هاشم) عوالم مدهشة تزيد المتلقي والدارس رغبة في الترحال معها لفهم حكايتها، فطفلة الكلام لازالت تنطق بالإبداع . فهي تحاول أن تصنع لكل شكل وثيمة موقفها اللحظي مما يمكنها من الوصول إلى الدلالة الأيقونية وتعبيريتها بشكل ذهني بصري فالفعل الإبداعي لديها موجود بين لحظتين لحظة مضت وبقيت صورتها الذهنية كخيال، ولحظة آتية تحاول الوصول إلى وعي تلك الذاكرة واسترجاع ما مضى لتذوق روح الجمال فيه .وهي في عملها، كما عبر (شيللير) في بحثه حول الجمالية قبل أكثر من قرن و نصف بقوله (إن الفن يستطيع أن يمد جسوراً عبر الهوة التي تفصل عالم العقل عن عالم العاطفة ..)، إنه أشبه بمغامرة مفتوحة يجري بها البحث عن ماهية الشكل والرمز مثلما هي أيضا تشبه رحلة الانتقال من العدم إلى الوجود من متناغمات اللاشكل إلى كمال الشكل بتعبيريته كتكوين يقدم مساهمة مفهومية داخل أطر الحالة التصويرية المتخيلة للمتلقي وهي بذلك تقدم قيمة مفهومية للعمل التشكيلي وليس قيمة نهائية في نقل أفق وتأثير الصور المتعارف عليها سلفا وذهنيا في روح التلقي الواقعي ، أي أنها ترفض فكرة تقديم العمل الفني كمنتج جاهز الهضم بل هي تحاول البحث مع المتلقي نفسه عن الهدف الغائي الغائب والمستقر بين طيات الرمز، حيث إنها تؤكد على التعبير الذاتي المباشر وتتداخل في أعمالها التلقائية بشكل ملحوظ باختلاف الأسلوب الذي قد يميل إلى الهدوء والرقة والروحانية، فهي تنظر لحركة الإبداع كلحظة متفجرة متوترة تعبر عن مزيج من الأساليب والتي تعتمد على خاصية اللون التعبيرية، والمعاني السيكولوجية للخطوط ، والمساحات العضوية في التعبير عن أحاسيسها وانفعالاتها، وذلك لأنها وجدت التجريب حرية أكثر في التعبير عن الانفعال ودوافع الصدق الإبداعي .
|
ثقافة
التشكيلية العراقية نبراس هاشم.. طفلة تقرأ الواقع بشكل مشاغب
أخبار متعلقة