إلى وقتٍ ليس ببعيد كانت بريطانيا تنعت بالمملكة التي لا تغيب عنها الشمس لكثرة مستعمراتها، والأجمل من ذلك والمثير للإجلال-مقارنة بالعصر الراهن - أنها كانت - أي بريطانيا- مستعدة للتنازل عن كل تلك المستعمرات دون التنازل عن مسرحية واحدة من مسرحيات شكسبير، ذلك العبقري الذي أضفى على التراث الإنجليزي ما لا طاقة له به من الجمال والعظمة والجلال، سواءً لغةً أو تحليلاً نفسياً واجتماعياً أو توغلاً في أعماق النفس البشرية أو حتى ما أسبغه على الشعر الإنجليزي من حلاوة ورقة وتشبيهات نادرة ومبتكرة..ولا غرو في أن لشكسبير ما انماز به على أقرانه من كتاب المسرح، ومن ذلك على سبيل المثال، وما حار فيه النقد والنقاد.. مصادر قصص مسرحياته.. وهو ما سنقف عليه ونسوق الأمثلة لأجله..[c1]استعارة الهياكل [/c]لا غرو في أن أكثر الصعوبات التي جابهت النقاد وهم يتناولون أعمال شكسبير بالدراسة والتحليل (مصادر قصصه ومسرحياته) حيث نسبت الكثير من قصص مسرحياته إلى أكثر من مصدر، بيد أن أغلبها كانت بعيدة كل البعد عن المصادر الأصلية لقصص مسرحياته..ولعل الأجدر بنا وقبل الحديث عن عبقرية شكسبير التي تجلت في قدرته على صنع الحبكات لقصص وحكايا كانت رميماً، لكأني به كان ينفخ فيها من روحه، علينا التعريض لمصطلح نقدي كان هو المسلك الذي عبر عن طريقة شكسبير وهو يؤلف مسرحياته، وهو مصطلح (استعارة الهياكل) كما يلزمنا التعريف به..(استعارة الهياكل) مصطلح نقدي تعرض له بالتعريف ناقد عربي كبير وهو (محمد مندور) في أحد مؤلفاته النقدية، وكان ذلك حين أخذ يصنف أنواع السرقات الأدبية، ويفرق فيما بينها، بيد أن السباق إلى تعريف وذكر معنى هذا المصطلح قبل مندور هو حازم القرطاجي ولكن بتسميةٍ أخرى، مصطلح التناص يعود اصلا للباحثة البلغارية جوليا كرستيفا التي استلهمته من فكر الباحث الروسي ميكائيل باختين في الحوارية، واتى فيما بعد الباحث الفرنسي جيرار جينيت فأسس بما يسمى المتعاليات النصية أو بمعنى ادق العلاقات عبر النصية، والتي من ضمنها نمط التناص وآلياته.وتعريف هذا المصطلح هو: (أن يقوم الأديب أو الكاتب - على تعدد أشكاله - بأخذ قصة تاريخية، ميثيولوجية - يراعى أمر شهرتها بالضرورة - وينفض عنها الغبار، ثم ينفخ فيها لهباً يحييها من جديد ومن ثم يقوم بتضمينها نصه الذي يكتبه على تعدد أشكاله) ما يشبه ما يسمى بالإحيائية، واستعارة الهياكل ذو أنماط وأشكال متعددة، ومن تلك الأنماط نمط يقوم فيه الكاتب بتضمين الحكاية التاريخية أو الميثيولوجية نصه - كرمز- دون التعرض لذكر اسم صاحب القصة وكأقرب مثال على ذلك قصيدة (لا تصالح) للشاعر أمل دنقل والتي ضمنها حكاية الزير سالم وأخيه كليب..كما أن هنالك نمطاً آخر على عكس السابق تماماً، حيث يذكر فيه الكاتب من تخصه الحكاية التاريخية والميثيولويجية دون التعرض لمضمونها، وهو نمط أسهل من النمط السابق، والأمثلة على ذلك كثيرة..ونوع يستخدم فيه الكاتب - على تعدد أشكاله - الحكاية التاريخية والميثيولوجية وصاحبها ويشير إليهما وجعلهما مدلولاً بدال يشير إليهما، وهذا النمط هو من أصعب الأنماط بالنسبة لاستعارة الهياكل، ونأخذ ممن برعوا فيه وفي استخدامه، الشاعر الكبير عبدالله البردوني مثال ذلك قوله في إحدى قصائده:من كل ثقبٍ يوغلون بداخلي ..وبرغم إتلافي أحرق متلفيأطعمتهم مني إلي تسربوا ..أضحوا فمي،خبزي، بناني، معزفيلا تكترث إني على أميتي ..أرنو إلى هدفي أرى مستهدفيوتتجلى براعة البردوني في كيفية استخدامه لاستعارة الهياكل في البيت الأول من هذه الأبيات، حيث يشير به إشارة لا يتنبه لها إلا قارئ حصيف إلى أسطورة مشهور هي أسطورة شمشون ومقولته وهو يهدم المعبد (علي وعلى أعدائي) تماماً كما (وبرغم إتلافي أحرق متلفي)..وبعد هذه التوطئة نعود إلى شكسبير لنتأمل كيف أنه استخدم كل تلك الأنواع والأنماط من استعارة الهياكل وهو يؤلف مسرحياته..أول مثال نسوقه هو مسرحية (روميو وجولييت) وخلاصتها حكاية حب بين شاب وفتاة يعارضها الآباء ويرفضونها تماماً، فتنتهي بمأساة حيث يقتل كل منهما نفسه وفاءً لذلك الحب وغباءً منهما..ترى ما الذي نجده بين مكدسات التاريخ وميثيولوجياته يضارع المضمون العام لقصة هذه المسرحية؟لعله كان الأجدر بشكسبير وهو يؤلف هذه المسرحية أن يستخدم الأسماء الأصلية التي وردت في القصة الأصل..فذات مضمون (روميو و جولييت) قد ورد في الميثيولوجيات الإغريقية في أسطورة (بيراموس وتسبي)، و خلاصتها أن بيراموس الشاب أحب تسبي الفتاة - يقابلهما (روميو وجولييت) لدى شكسبير - وقد عاشا في بابل، وكلما بعضهما من ثقب في الجدار الفاصل بين بيتيهما، لأن عائلتيهما لم توافق على ذلك الحب ورفضا فكرة ارتباطهما، وفي إحدى الليالي رتبا لقاءً عند شجرة التوت وقد وصلت تسبي أولاً، لكن لبوة كانت تخضب شدقيها الدماء أخافتها فهربت، ولكنها في هربها سقطت عباءتها، فمزقتها اللبوة إلى نتف، وعندما وصل بيراموس لم ير سوى العباءة الممزقة فقتل نفسه، و حين أتت تسبي إلى المكان وعثرت على بيراموس ميتاً لم يكن منها إلا أن تقتل نفسها لتصير إلى جانبه..ومضمون روميو وجولييت هو مضمون بيراموس وتسبي، بغض النظر عما أدخله شكسبير عليها من أحداث وشخوص فتلك ضرورة اقتضتها حبكة المسرحية حتى تتواءم مع عصر كتابتها..بعدها يأتينا مثال آخر وهو مسرحية (هاملت) تجلت فيها بشدة عقدة أوديب التي كان شكسبير مصاباً بها، والتي عرف عنها أن مصادرها حقيقية وواقعية، ذلك بالنسبة للاستخدام الكلي لاستعارة الهياكل، أما الجزئي - بمعنى تضمين المسرحية (جزء من أحداثها) حكاية تاريخية أو ميثيولوجية - فعلى سبيل المثال ما ورد في مسرحية (ماكبث) الذي تنذره الساحرات في أحد فصول المسرحية بأنه سيموت حين تمشي غابة دولسنين، وهذا نفسه ما اشتهرت به زرقاء اليمامة وعرفت به حين أنذرت قومها من الغزاة حين رأت الشجر يمشي، وقد انتشرت هذه الأسطورة في أدب أوروبا قادمةً من الشرق..ومثال آخر - للاستخدام الجزئي - ما ورد في مسرحية “بيركيليس” عن أحد شخوص المسرحية يدعى “ أنتيوخس” وابنته والذي يحكي أحجية ويقسم أنه سيقتل نفسه إن عرف أحد ما جوابها، وبالمقابل فإنه سيقتل كل من يتقدم لسماع الأحجية ويعجز عن الإجابة..ونجد الشبيهة لقصة انتوخس في مسرحية “بيركيليس“ في الميثولوجيا اليونانية في “السفينكس اليوناني وأوديب”....كذلك استقى شكسبير أهم مسرحياته (تاجر البندقية) من واقعه واستناداً إلى المراجع التاريخية فقد تمت كتابة هذه المسرحية ما بين عامي 1596 و 1598. أي في عهد الملكة إليزابيث ، آخر ملوك إنجلترا من آل تيودور. وفي هذا العصر كان إجلاء اليهود من اوروبا في أوجه، لما أحدثوه من مشاكل شعبوية داخل اوروبا. وإثر ذلك الاضطهاد، تم أمر جميع اليهود بالبقاء في ملاجئ محددة ضمن الدولة البريطانية، وأن يضع جميعهم قبعاتٍ حمراء على رؤوسهم في حال خروجهم إلى العلن، لكي يعرفوا بأنهم يهود. بلغ الاضطهاد أن يتم حجزهم في هذه الملاجئ، بينما يجبر اليهود على دفع أجرة النصارى ، سجانيهم، مقابلما يقومون به من حراستهم.وقد كانت البندقية مدينةً استثماريةً تجاريةً بامتياز. لذا اهتمت بالاستثمار الأجنبي في أراضيها، سواءً من اليهود أم غيرهم، ما جعل السلطة هناك، تقر مبدأ الربا المحرم في النصرانية، لكي تنعش اقتصادها أكثر فأكثر. ما جعلها موطناً للعديد من المستثمرين اليهود.وفي هذا الوقت حدثت الحادثة التي قلبت الرأي العام في انجلترا وأوروبا، كانت هذه الحادثة هي محاكمة (رودريجو لوبيز)، وهو طبيب الملكة اليزابيث، وهو يهودي الأصل، أعلن نصرانيته. تم اتهامه بالخيانة العظمى، وتدبير مكيدةٍ تفضي إلى دس السم في طعام الملكة اليزابيث. وكانت النتيجة بكل تأكيد، الإعدام.حدثت هذه الحادثة عام 1594، ما جعلها قضية رأي عام في ذلك الوقت. وألهمت قصة لوبيز العديد من الكتاب أمثال كريستوفر مارلو، والذي ألف كتابه (يهودي مالطا)، ومثله ويليام شكسبير في مسرحيته (تاجر البندقية) أو (يهودي البندقية) وهو ما يبدو طبيعياً مقارنةً بما ذكرناه آنفاً وعرفناه عنه من هوس باستعارة الهياكل التاريخية والميثيولوجية .وهكذا كان شكسبير يتصرف تماماً كالرسام الذي يأخذ نماذجه من الواقع فيضيف لها شيئاً ويحذف آخر ، يمحي هويتها، ينفخ فيها من لهب روحه فإذا بها مخلوق جديد له صلة بماضيه لكنها تنسب من جديد إلى الرسام تحمل هويته ... قد لا يتسع المقام لإيراد أمثلة أكثر على (استعارة الهياكل) لدى شكسبير في مجمل نتاجه الأدبي المسرحي .. سوى أن الباب ما يزال وسيظل مفتوحاً لتناولات أخرى وبأشكال أفضل ولنا عودة في هذا الموضوع إن شاء الله..