ينبني كل نص إبداعي وفق شكل محدد قد يكون خاصا به أو يشترك به مع غيره من النصوص، ويقصد ببناء النص كيفية تشكله، وتركيب معماره الخارجي، والداخلي الذي يميزه، ويفرده، ويحدد جنسه، ونوعه، ودلالاته، وأشكال معانيه، ويقصد بالبناء العنقودي التشكيل المتواشج، المتداخل، والمتقاطع الذي يولج سابقه بلاحقه، ويشد لاحقه بسابقه برابط ما؛ إذ تأتي نقطة البداية واحدة مكثفة، ومن ثم تتشظى إلى نقاط لاحقة تتآزر فيما بينها، أو بمعنى آخر أن ثمة مركزا محوريا يأتي بمثابة المنبع الذي يوزع الدوال ودلالاتها، والمصب الذي تأول إليه جميع تلك الدوال وغيرها.وستحاول هذه القراءة أن تستكنه جماليات هذا البناء في ديوان (مسميات الأشياء) للشاعر الجزائري (ناصر الدين باكرية)، الصادر عن دار (المقاومة) في الجزائر وهو الديوان الأول للشاعر، ويقع في مائة وأربع صفحات من القطع الصغير، ويحتوي على مجموعة من النصوص المشكلة تشكيلا عنقوديا تراتبيا يفضي كل منها إلى ما يليه تركيبيا ودلاليا وفكريا.ولعل من أهم القضايا اللافتة -شكليا- في المتن خلوه من الفهرس، وهي صورة تعد الأولى من نوعها؛ لأن ذلك -كما يبدو- لم يأت اعتباطيا، وله قيمته الدلالية التي تراوغ القارئ، وترغمه على تصفح المتن، والانخراط في تفاصيله فعليا..وقد جاء الديوان بمقدمة كتبها الدكتور (عبد الحميد هيمة) أشار فيها إلى أهمية هذا الصوت الإبداعي القادم بقوة.. وهو ما تؤكده النصوص المنسابة في الديوان لغة وصورا.ومن اللافت أيضا أن الديوان قد جمع بين جملة من الأشكال الشعرية المندغمة في فضاء واحد غير متباعدة مكانيا بطريقة تنم عن حس فني للشاعر وقدرته الفائقة على التشكيل (العنقودي) للنصوص، إذ إن ثمة عنوانا شاملا لكل نص من نصوص المتن، ومن ثم تتفرع العنونة الجزئية لكل مقطع منها، جاء النص الأول منها موسوما بـ(معابر) وتمفصل إلى أربعة مفاصل، كل منها يحمل عنوانا مضافا إلى دال (معبر) كما يأتي:(معبر الانتظار)، (معبر الارتياب)، (معبر الرؤية)، (معبر اللهفة)، (معبر الاحتمال)، وشكل البناء الدلالي في درجته الصفر لهذه الدوال/العناوين يشي بأن هذا النص بتفرعاته هاته محمل بدوال ودلالات صوفية ذات محمولات رؤيوية للذات والعالم، وهو ما يجده القارئ متمفصلا في النص على هيأة تساؤلات شتى لا تبحث عن إجابات بقدر ما تنفتح على كوى لإجابات و/أو احتمالات لإجابات شتى، كما في قوله في المقطع الأول الذي يحمل عنوان (معبر الانتظار):أمازلت أنثى...؟أمازلت أنثى تمشط أحلامها للغريب الذي قد يجيء...وقد لا يجيءأمازلت مثلي تجيئين في السهوكالغيمة الوافدة..(ما الذي يجعل الحلم أكبر من لغتي البائدة.أحاولك الآن معنى عسيراتراوده لفظة شاردة..لا يستقر الشاعر في هذا النص عند هذا الشكل الكتابي المنبني على الدفقة الشعورية، المنبنية -أساسا- على ما عرف بالنص الحر، بل يعتمد بناء عنقوديا -كما سبق- من حيث إنه يزاوج بينه وبين الشكل العمودي/البيتي كما جاء في المقطعين الأخيرين على نحو قوله في (معبر اللهفة):ولمحت وجهك بالرؤى متلهفا فاغرورقت بك لهفتي ورؤايا وتعانقت أرواحنا فنسيتني ورأيت كفك فارتمت كفايا لن تنتهي خطواتنا فأنا أنا إن لم أكني لن أكون سواياومن الملاحظ أن المزاوجة بين الشكلين الشعريين هذين لم يأتيا اعتباطا -أيضا- بل إن كلا منهما يدعم فكرة الأول، ويمنحه مستوى منطقيا آخر ينضاف إليه. فإذا كان النص محملا بالروح الصوفية التي تنبني على طبقات متراتبة فهو يشبه ما يسمى في العرف الصوفي بالـ(مقامات) التي تدل على التصعد نحو العوالم العلوية؛ للتخلص عن العوالم الدونية، والخروج من عالم الجسد، بالصعود نحو الروحي؛ فإن النص بأقسامه يشبه المراتب الصوفية تلك، إذ إنه ينقسم إلى أقسام خمسة، يحمل كل منها اسما جديدا، وكذلك القسمين الأخيرين العموديين يدعمان صورة المراتب والأقسام التي تشبه تلك...وأما النص الثاني فقد جاء بعنوان (الرسائل) وانقسم إلى ثلاثة أقسام، يحمل كل منها عنوانا فرعيا: (رسالة طفل، رسالة حراق، رسالة صحفي)، وهي نصوص مكثفة مبنية على طريقة “الهايكو” أو ما يعرف بالومضة نوعا ما، ويعالج القسم الأول منها/”رسالة طفل” قضية طفل/طالب لم يبلغ سن الحرقة/المهاجرين بعد، ولكنه يحمل حقيبة محملة بمشاريع أكبر من هم المعلم الذي يسأله عن المتنبي فيخبره بحقيقة المتنبي المتمثلة في حقيقة جوهرية تلخص موقف المتنبي تجاه العالم والأشياء التي لخصها في بيت يقول فيه:ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهوأخو الجهالة في الشقاوة ينعمفيقول ناصر الدين:طفل في العام العاثر من يأسهلم يبلغ سن الحرقة بعديتأبط محفظة حبلى ببرامج.. أكبر من إحباط معلمهقال له:-ماذا صنع المتنبي؟!!مات شريدا في البيداء بعقله!!وأخ الجهل المظلم ينعم في جهله!والطفل إذ يأتي بفكرته المجسدة عن المتنبي يعمل ذهنه بشكل طفولي عفوي، فيتساءل:لو أن المتنبي كان ذكيا لم يدخل مدرسة التاريخوتقصد مدرسة الألحانليصير..النجم(الشاب المتنبي).إن الشاعر بذلك يقف على مبعدة من الذات الكامنة في النص/الطفل ويدعه يتكلم من منظوره هو لا من منظور الشاعر، إذ إن الصورة هنا تحمل عفوية التفكير لدى الطفل وسذاجته، وتعدد (برامجه) التي تكبر هموم معلمه، فيتساءل ماذا لو اجترح المتنبي الفن وكان مغنيا؟ لربما كان شهيرا في هذا المجال أيضا كشهرته في مجال الشعر.أما القسم الثاني/(رسالة حراق) فإنه يعالج قضية إنسانية اجتماعية طاغية في الجزائر بشكل لافت، وهي قضية هجرة الشباب الجزائري غير الشرعية إلى أوروبا، أو كما يسميها الجزائريون بـ(الحرقة) التي تتم عادة عبر البحر ومعظمها ينتهي بفواجع الموت غرقا، والنص يخبر بأن الحراق -الشخصية المحورية في النص- لم يسعفه الحظ من جهة، ومن ثم فهو فاقد لجهة المعرفة إذ إنه لم يتعلم كي يصبح سيناتورا.وفي بنية الاختتام لهذا المقطع يفتح كوى القارئ على نشيد ينشده هذا الحراق بعد استنشاقه لأحلام مفجوعة؛ فيعيد هذا النشيد الذاكرةَ القرائية إلى زمن الأندلس، في بيتين شعريين يعيد صياغتهما ليتناسبا مع الحالة الواقع تحت ضغطها الحراق وتشي بمدى عنفوان المخيلة لديه واجتراحه لفعل التفكير المسبق عن ما وراء البحر وعن المستقبل القادم عليه:شاب لم يسعفه الحظ..لم يسعفه الحظ ليدرس كي يتمرمد بعد تخرجهأيضا لم تسعفه قبيلته كي..يصبح سيناتورا في هذا المبنى الجالس قربه.يمسك في يده كيسا من أكياس البيئة الممنوعةيستنشق أحلاما مفجوعة.ويغني:جادت البورصة والنفط دنى ورمانا في زمان انحسأيها البحر انتظر وأغد بنا لزمان الوصل بالأندلسفبقدر ما يحمل النص من رؤية واقعية مبطنة بالفجائعية التي يحملها الشاب الحراق، واليأس الذي أوصله إليه الفشل الناتج عن الحظ، وعن فقدان المعرفة، وكذلك عن القبيلة؛ فإنه يشي بقدرة الواقع المحيط على احتواء هذا الشاب، وهو ما يشي به اختتام الشاب بتلك الأغنية التي يحرفها لتلائم الواقع وتشي بامتلاك هذا الواقع لقيم اقتصادية/النفط ومالية/البورصة إلا أنها لا تجدي.أما المقطع الثالث فإنه يسرد (رسالة صحفي) بالإذاعة كان مبتور القناعة، ويختزل فيما وراء دوال النص برنامجا سرديا مركبا يفيد بأن هذا الشاب كان يتغنى بالمشاريع العظيمة بأنواعها، وبالوطن أيضا، ولكنه لم يتغنى عن ذاته، أو يبحث عن شيء ما لنفسه فهو قنوع، إلا أن آخر الأخبار التي تترد بأنه قد حرم حتى من المأوى الذي كان يأوي إليه:صحفي بالإذاعةكان مبتور القناعةرغم موفور البضاعةيتغنى بالمحطات العظيمة:من مشاريع القمامة..لمشاريع السكنيتغنى للوطن..آخر الأخبار قالت إنهم قد طردوه.. من سرير كان يؤويه بحي للذكوروهو الآن يدور؟..ويغني للوطن.ثمة رؤية فجائعية أيضا تختزل حال الصحفي الذي يتحدث عن العالم، ويرى ويسمع كل ما يدور من عظائم، ويعيش محروما من كل شيء، ومع ذلك يتغنى للوطن.ويمعن النص الثالث في عنقوديته بشكل أكثر من النصوص السابقة واللاحقة له ، إذ جاء حاملا لعنوان رئيسي من جهة هو (تجليات)، وحاملاً لعناوين فرعية من جهة أخرى وهي: (تجليات الصحو)، ويحمل هذا المقطع بدوره عدة عناوين فرعية، وهي: (1 - استهلال، 2 - المتن، 3 - هامش)، وبما للعنوان الرئيسي هنا من إيحاءات صوفية قائمة على الاتحاد والانشطار بين الذات والعالم من جهة، وبينها وبين الذات الإلهية من جهة أخرى؛ فإن هذه الأقسام المندرجة تحت العناوين الفرعية تشي بهذه التيمة الدالة على انشطار الذات عن ذاتها كحالة أولية وتتغيا الاتحاد بها من جديد كي تتم عملية الاستقرار والتوازن، وتسعى -كذلك- إلى الانشطار من حالة الفقدان للوطن إلى الاتحاد به وامتلاكه من جديد، أو تتغيا الخروج من الجسد إلى عالم الروح بوصف هذه الأخيرة تطهيرا من الأولى، ومن النماذج الدالة على ما تقدم قول الشاعر:(1) بحق خطانا التي قد مشينابحق الرصيفوحق الجنون علينادعينا نعود إلينا.(2)يتهدل أحمر ثوب على جسد اشتهيهولات وطن..وطني...!. لم يعد لي وطنحاصرته يداهواستفاقت على قبضة السامري خطاه.(3)أطفئي جذوة النور كي تشعلينيأحرقي جسدي مرتينوذري رمادي على الأرصفة...ربما تستفيق الكراسي بأصحابهاوتقرأ آياتها من رماد الجسد.ويستمر هذا الالتحام والانشطار في القسم الثاني الذي يحمل عنوان (تجليات عمودية)، التي تأتي في شكل بيتي/عمودي كما يخبر الدال الثاني من العنوان، وتبث هذه التيمة في بعض الأبيات وتتجلى في الأبيات الأخيرة التي يقول فيها:الصوت صوتي إن نطقت بزفرةفإذا صمت فأنت بعض صداياأنا فيك في عينيك أبحث عن أناوأنا أفتش في فؤادك عن أناياإني أفتش ما أفتش لست أدريإني أفتش لست أعرف مبتغايا؟إن النص الذي أتى منه هذا الملفوظ يشغل على اندغام الذات مع ذات أخرى في حالة عشق وتماه تتداخل فيها الأنا مع أنا الأنا المغاير لتصل الحالة الصوفية إلى الذروة المتمثلة في (الحلول) الجسدي والروحي بينهما.أما في الجزء الثالث الذي يحمل عنوان (تجليات إفضاء) فإن تيمة الانشطار وحدها هي المهيمنة فيه، فثمة انفصال للذات عن نظيرها، وحالة العشق لم تتحقق والسبب أن الذات ليس محترفا للعشق وقد أضاع الهدف، ولعل هذه الفكرة تتجلى بشكل أكثر عمقا في البنية الاختتامية للنص التي يقول فيها:كتبوافي الصحفلم يكن عاشقامحترفقد أضاع الهدف..ويحمل الجزء الرابع المعنون بـ(تجليات الغياب) التيمة نفسها المبنية على الفقدان وعدم الامتلاك، فالذات في النص غير ممتلكة للآخر منشطرة عنه، وتقع على مبعدة منه -أيضا- وهو ما يؤشره العنوان بدئياً قبل الولوج إلى النص، ومن الملفوظات الدالة في النص قوله في الجملة البدئية منه:عيون المهىوانتهى.فالبنية السردية للملفوظ الشعري مبتورة تركيبيا، مكتملة دلاليا، توحي مبدئيا بعدم الامتلاك، وهو ما يتجلى في النص، ويتجسد بشكل أكبر في البنية الاختتامية من النص إذ يقول:والعيون التي اكتحلت بالسفرهي من لقنته الغيابواختفت فجأة قيل لي:إنهافي كتاب.أما النصان الأخيران (المكاشفة)، و(منتظر وحذاء امرأة مخلوع). فإنهما أكثر تعقيدا مما سبق من نصوص، إنهما نصان نثريان مركبان، يطرحان أمام القارئ إشكالية التجنيس، أو بمعنى آخر إنهما بؤرة لتداخل الأنواع الأدبية، يدخلان القارئ في حيرة مربكة، فهما أشبه بالنصوص القصصية والقصيرة منها على وجه التحديد من عدة زوايا أولها أنهما -شكليا كما يشي بذلك الفضاء النصي- مصفوفان على شكل قصة، وثانيها أن الجانب السردي وعناصره وبنياتها تهيمن عليهما بشكل لافت، وهذا لا يمنع أن يحسبهما الشاعر نصان شعريان؛ لجملة من الأسباب أولهما أنهما يندرجان في ديوان شعري، وثانيهما أن اللغة المشتغل عليها فيهما لغة شعرية طافحة بالتيمات الشعرية وانزياحاتها.. ولعل هذه التيمات المربكة للقارئ تشكل سمة مميزة للمتن تفرده عن غيره وتخلق مسارات شعريته..وخلاصة ما يمكن قوله -هنا- أن الديوان مبني بناء عنقوديا قائما على التناسل الشعري، إذ يأتي عنوان خارجي شامل للديوان هو (مسميات الأشياء) وتأتي عناوين داخلية رئيسية للنصوص، ويندرج تحت كل عنوان رئيسي جملة من العناوين الفرعية التي ينضوي تحت كل منها نص يحمل تجربة مرتبطة مع قبلها منتجة لما يليها، وقد عالج الديوان في مجمله جملة من القضايا الإنسانية والفكرية والروحية، كونت مساراته النحوية، والصورية، وخلقت فضاءاته الدلالية في شكل لافت.
|
ثقافة
البناء العنقودي في ديوان (مسميات الأشياء)
أخبار متعلقة