سطور
من البدهيات التي لا تخفى على أحد: أن الثقافة الغربية ليست نسيجا واحدا من المعرفة؛ بل فيها الرأي وعكسه، والفكرة ونقيضها، وإن كل مذهب يستجد في هذه الثقافة إنما بني في الأصل على هدم مذهب آخر وتسفيهه، وما من اتجاه فكري إلا وله معارضون؛ يقول (مالكم برادبري، وجيمس ماكفارلن) في كتابهما (الحداثة)، مصورين موقف المتلقي الغربي من بعض أفكارهما: (إن المتلقين للحداثة قسمان:القسم الأول: يدرك ويتذوق هذا الفن عبر استيعابه لتقنيته وأفكاره، والثاني: لا يستوعبه، ويعده فنا غامضا وعدائيا، وحذرت طوائف مختلفة في الغرب من بعض آراء الحداثيين، وعدتها نزعة وتخريباً وهدماً؛ قال (مارشال بيرمن) عن أمثال هؤلاء المستنكرين: (إن جميع هؤلاء الناس رأوا الحداثة بوصفها خطرا جذريا يهدد تاريخهم، وتقاليدهم، وتراثهم كله).إن هذه البدهية - التي هي من قبيل التذكير بالموجود لا الدعوة إلى إيجاده - تجعلنا ملزمين إلزاما أن نغربل كل ما يأتينا من هذه الثقافة الغربية، وأن نضربه على محك ثقافتنا وهويتنا الحضارية، ثم نقف منه مثل ما يقف الغربيون أنفسهم منه: موقف قبول ورضا وأخذ، أو موقف رفض واستهجان ونبذ، ولكن معاييرنا في الأخذ والنبذ تمليها هويتنا، ويحددها ذوقنا ولوننا الحضاري.إن المثاقفة مع الآخر - والآخر ليس واحدا متشابها - أمر لا بد منه، بل أمر لا مهرب منه، وخاصة في هذا الزمن الذي انفتح فيه العالم بعضه على بعض، حتى صار كالمدينة الواحدة، التي لا حواجز بينها ولا أسداد، ولكن هذه المثاقفة الحتمية تقوم عند جميع الأمم على مبدأ التخير والانتقاء، لا سيما إن كانت ثقافة الآخر - كما ذكرت - تقدم أنماطا مختلفة من الأفكار والرؤى والتصورات.إن التعامل الرشيد لكل أمة تحترم نفسها مع ثقافة الآخر يقوم بداهة على اصطفاء ما يصلح لها، واستبعاد ما لا يصلح، وإن كل أمة - لا سيما إن كانت أمة حضارية شاهدة على الناس مثل أمتنا - ينبغي أن تعتقد الحق في قيمها الأصيلة، التي تشكل نسيج شخصيتها الحضارية، لا سيما إن كانت هذه القيم وحيا سماويا، وليست اجتهادات بشرية، أو قوانين وضعية، إن هذه الأمة المحترمة تستبعد - من غير خجل، ولا توار، ولا تسويغ - كل ما يخالف هذه القيم، فما بالك إن كانت هذه القيم - بعضها أو جلها - مستهجنا في ثقافة الآخر نفسه، لدى قليل أو كثير من رجالاته ومفكريه؟ولهذا كله تأخذ المرء الدهشة عندما يرى قوما من بني أمتنا يتحمسون لبعض شواذ الفكر الغربي أكثر مما يتحمس لها أصحابها، كأنهم - على حد تعبير المثل المصري العامي -: (ميري أكثر من الميري).وحسبك - مثلاً - في هذه العجالة (بدعة القراءة)، التي تحدثنا عنها في مقال سابق، إنها اليوم (قلعة) الدارسين، وإذا كان من إيجابيات هذه النزعة - التي لا شك فيها - التأكيد الدقيق على ما كان معروفا سابقا من غنى النص الأدبي، ووفرة الدلالات فيه، وثراء لغته - فإن الشطط الذي حملته شديد الخطر؛ إنها نسفت (موثوقية النصوص الأدبية) مهما كان مصدرها، وهذا رأي هجين ترفضه ثقافتنا العربية؛ لأنه قد يمثل - من بعض وجوهه - اختراقاً لقدسية كثير من النصوص الدينية ذات الدلالات القطعية، والتي تبنى عليها أحكام كثيرة لا حصر لها في شؤون العقيدة والكون والإنسان، إنها نزعة - كما يقول الغربيون المعارضون لها - إلى الشك، وهدم الثقة في كل شيء، حتى اللغة نفسها.