أنيس حسن محمدما الذي يجذب المتلقي والمستمع للشعر الغنائي ويجعله مولعاً به؟!!هل هو أسلوب ذلك الشاعر الذي يسخر (الجملة والمثل) لرسم خيال ممزوج بالواقع أو واقع ممزوج بالخيال .. بحيث يجعل المتلقي أو المستمع يفهم ما يسمع ومشاركاً في تأويل ما يعنيه الشاعر على ما تشتهيه نفسه وتترجمه مشاعره وهذا ما دعاني لطرح هذه الورقة في (حرفية الشاعر في توظيف الجملة والمثل).قد يتساءل البعض عن (حرفية الشاعر) لفظاً ومعنى .. والمقصود من هذا أن الشاعر تمرس في الشعر وصقل موهبته ووصل إلى الاحتراف، والاحتراف طريقة وأسلوب يمتاز به هذا الشاعر عن غيره ولا تأتي الحرفة إلا من خلال الموهبة والدراية في المجال الذي أفلح في صناعته وهذا الكلام يوصلنا إلى أن الشعر (صنعة).فإذا كان الشعر صنعة، فما مواصفات تلك الصنعة؟!! وما تحتويه والتي من خلالها تأتي القصيدة الغنائية المؤثرة التي تنحت في النفس كالنقش في الحجر ولا يزول أثرها مع تقدمها الزمني وتظل متجددة مع سماعها كل مرة!!!المعروف أن صناعة الشعر صناعة قولية أي كلام منظوم والمسألة كيفية استخدام هذا الكلام وتوظيفه التوظيف الأمثل في بناء القصيدة الغنائية وجعلها متماسكة شكلاً ومضموناً وتأثيراً. وهنا تأتي حرفية الشاعر في استخدام (الجملة والمثل) وعندما نقول الجملة نقصد بها (الجملة الاستطلاعية) أي الجملة المتداولة بين الناس مثل (الصبر مفتاح الفرج) (جيت عاني أزورك) (على بالي) (مصدق لك) وقد وضح الجعيري في قوله الصبر مفتاح الفرج كلمة نرددها كثيراً وجاءت كلمة في محل جملة وهذا المقصود من الجملة، أما المثل فهو كلام منثور ومأثور يتداوله الناس وهو فصل القول ويتصف بأنه موجز وبسيط، ومن استخدام الجعيري للمثل نأخذ:وعدتني وعد عرقوبلو كنت توعد وتخلفوأنت تدري وتعرف أيش الذي كان مطلوبونستشهد هنا بقول الأستاذ والشاعر الناقد الباحث محمد نعمان الشرجبي حيث قال عن الجعيري في هذه القصيدة:(إنها بحق قصيدة غنائية جمعت بين قوة المثل ومتانة التوظيف للمفردات الشعرية).اذاً يوصلنا هذا الكلام إلى أن هذه الصنعة لا تأتي من فراغ ولكن من موهبة حقيقية وتمرس وحنكة ودراية كاملة باللفظ الذي يوصل إلى المعنى وكما هو معروف أن المعنى واحد وإن تنوعت الأساليب في توصيله إذا أخذنا قوله:بنيت لك دار في قلبي حجارة صموالساس حقه نشم وملح حجاره مرجموحملنا المعنى بأن الشاعر بنى أحلاماً عاش عليها ثم اصطدم بواقع الوهم المصحوب بالألم .. دون أن يذكر ذلك كله إلا أنه أوصل إلينا ما أراد توصيله إذاً هي عملية توصيل، فكيف تأتي عملية التوصيل؟!تأتي من خلال اللفظ والمعروف أن اللفظ أشارات ثابتة تختص كل إشارة بدلالتها الفردية - كأرض، سماء،حب، كره، بحر، بمعنى أن الشاعر المتمرس والمدرك لدلالة الكلمة لا يستخدم إشارة بدلالتها في غير موقعها.مثلاً أنا لو قلت (لك تركت الهم ينور كل أيامك) إذا أنا أسأت استخدام إشارة “الهم” في موقع دلالتها هنا لم تخدم النص ولم تخدم المعنى وتركت مساحة من التساؤل عند المتلقي لأنها في محل ضعف ولكن إذا أخذنا حرفية الشاعر الجعيري في كيفية استخدامه وتوظيفه للفظ وتوصيله للمعنى الذي يخدم القصيدة الغنائية نكتشف ذلك في قصيدة الحب الكبير حين قال:أنت قصة حب حلوه عشتهاأنت كلمة ما لغيرك قلتهاهنا تأتي حرفية الشاعر عندما أخفى الكلمة متعمداً أو مدركاً لما تحمله من معنى وبهذا الإخفاء ترك مساحة عند المتلقي ليستنتج هذه الكلمة التي أخفاها وهو يردد قائلاً :أنت كلمة ما لغيرك قلتهاإلى أن يصل المستمع إلى الجواب وهذا يعد انشغالاً بالنص من المتلقي ليدرك هذه الكلمة ويترجم ما وراءها من معانٍ ويغوص في قوله “ما لغيرك قلتها” ليصل إلى المعنى والدلالة التي تحملها هذه الجملة من وفاء الشاعر وإخلاصه هذا ما وصلنا من خلال اللفظ المباشر وغير المباشر وتلاعب الشاعر للإدراك الحسي عند المتلقي ومن خلال هذا جاء التأثير الذي لا زال سارياً حتى اللحظة عند سماع هذه الأغنية وهذا يعود إلى مدلول الكلمة وأثرها عند المتلقي لأن اختيار الكلمة عند الشاعر اختيار دلالي بحيث يؤثر على المتلقي ذلك التأثير الإيجابي وعندما نقول (إيجابي) فنعني أنه يرفع ويخدم النص ويرفع أيضا من مستوى المتذوق فكرياً وهنا يكون الحكم على مكانة العمل كعمل فني إبداعي.وعندما نقول (فني إبداعي) نقصد من ذلك العمل المتكامل من الناحية الفنية فلنأخذ مثلاً قصيدة مهم حيث يقول:(مهم مهم قلنا وكررنا مهم)لم يوظف الشاعر كلمة مهم ويجعلها في مستهل النص الغنائي من فراغ بل من دراية كاملة بأن كلمة (مهم) إشارة تحمل صفة التنبيه ولذلك وظفها لشد انتباه المتلقي وجعلها كبرقية مستعجلة عن إعلان.والملاحظ أن (مهم) جاءت مكررة وقد أوضح الشاعر بقوله (وكررنا مهم) وبذلك التكرار استطاع الشاعر أن يعطي أهمية أكبر للأمر ويجعل المتلقي أي المستمع أكثر انتباهاً ومتابعة للقصيدة ومشدوداً من بدايتها إلى ما سيقوله الشاعر وهذا يؤكد أننا نقف أمام شاعر متمرس يستطيع أن يطوع الكلمة لخدمة النص وهذا من خلال انتقائه للمفردة والجملة ثم ينتقل الشاعر في السطر الآخر ليجعل المتلقي هو الحكم بقوله:(وفوش فهمنا لكن ما فهم)وهنا نقلة ذكية من شاعر متمرس يروض الجملة ويلحم القصيدة بالطريقة التي يراها مناسبة بحيث يظل ممسكاً بزمام القصيدة، وبعد أن جعل المتلقي هو الحكم يبدأ في شرح معالم القضية في النص حيث قال:(قلنا إن الجرح يشفيه الدواء ولا لقي إهمال يتعفن يرم) وهذا البيت بحد ذاته إثبات قوي بأن الشاعر ذو ثقافة عالية وملم بالشعر ولديه حصيلة كافية تمكنه من استخدامها متى ما شاء حيث استخدم ما قاله الشاعر ابن الروعة. (إذا ما الجرح ضم عن فساد ** تبين فيه إهمال الطبيب) الملاحظ في استخدامه لقلنا جاءت مكررة أيضا في بداية القصيدة عندما قال (مهم مهم قلنا) للإلحاح وتأكيد أهمية الأمر ولكن في البيت الآخر جاءت تحمل المعنى التاريخي للقول المتوارث في استخدام الحكمة قالوا .. وقلنا .. وقالوا لنا إذ أن إشارة قلنا جاءت تحمل صيغة الحكمة بصفة الزمنية.إلى هنا ولا زال المتلقي هو الشاهد ولكن على ماذا؟!! يبدأ الشاعر معالم المشكلات ويوضحها أكثر بقوله:البيت من ساسه ومن قوتهولا ضعف ساسه مصيره ينهدموبهذه الجملة التي تحمل الحكمة استطاع الشاعر أن يوظفها في غنائيتها لتصبح مثلاً يتداولها الناس لأنها جاءت من الناس إلى الناس ولكن بشكل جديد يستطيع أن يبقى ملتصقاً بذهن المتلقي.لأن العلاقات تبنى من الأساس أي من البداية على الصدق والعطاء والتضحية وليس على الغش والخداع والمصلحة ولهذا أصبحت هذه الجملة المستخدمة من ذكاء وحرفية الشاعر لتأثيرها المباشر على المتلقي ومن هنا يتضح لنا أن الشاعر أمسك بالخيط بطريقة ذكية متميزة لإدراكه بأهمية حكم المتلقي وهذا نجده حين قال:وفوق هذا ما رضي يسمع كلاموبلحماقة كل ما قاله يتموبذلك البيت بدأ الشاعر بشرح تفاصيل المشكلة للمتلقي (الحكم) على أن الطرف الآخر ظل مصراً على ارتكاب الحماقة والخطأ وهنا تكمن حرفية الشاعر في استخدام المفردات التي تحمل القصيدة مثل (فوق) التي تعني رغم توظيف إشارة حماقة التي جاءت تحمل معاني كثيرة مثل عدم التفكير واللامبالاة وتكمن الحرفية أيضاً في خروج الشاعر بطريقة سلسلة بحيث وضح حدوث المشكلة في آخر القصيدة الغنائية بقوله:(واليوم لما شاف الشرخ في المبنى ظهريوم شاف الشرخ في المبنى ندم)الملاحظ اليوم جاءت مكررة في الشطر والعجز وجاءت الشرخ أيضاً مكررة واليوم إشارة إلى الوقت الحاضر في الشطر أم في السطر الآخر جاءت إشارة إلى الحضة الآتية (يوم شاف الشرخ) أما الشرخ فيها إشارة إلى وجود المشكلة أما التكرار فجاء تأكيداً على وجود المشكلة (يوم شاف الشرخ في المبنى ندم)ويؤكد ذلك في قوله:من بعد ما حاول يبا يلحمهوسعه من حيث ظنه يلتحمإذا عرفنا استمرارية المشكلة في استخدام إشارة (وسعه) ويبقى المتلقي هو الحكم صاحب الكلمة الأخيرة التي تركها الشاعر له دون أن يبدي رأيه.اذا خرجنا من هذا النص بالحالات التالية:أ - تحكم الشاعر بفكرة النص من خلال استخدام الجملة المتداولة بمفرداتها ودلالتها.ب - توظيف الجملة التوظيف الأمثل لما تحمله مفرداتها من تنبيه أو حكمة أو مثل، واستخدام لغة سلسلة تحمل التكرار من أجل التأكيد.ج - إدراك الشاعر لأهمية المتلقي وجعله شريكاً أساسياً غير ظاهر في النص والحكم بمحتوى النص.د - توصيل الشاعر للمعنى المقصود من خلال تفسير المتلقي حيث ثقافته .. دون تدخل منه.ع - إلمام الشاعر بثقافة تمكنه من الوصول إلى الناس بشكل جديد وهنا تكمن حرفية الشاعر في توظيف الجملة والمثل.
|
ثقافة
حرفية الشاعر في توظيف الجملة والمثل في الشعر الغنائي اليمني..(سالم علي الجعيري) أنموذجاً
أخبار متعلقة