الاتجاهات السياسية المتصارعة، لا تستند على مشاريعها الجغرافية الحدودية، ولكنها تعتمد على عملية الشرخ الذي يصدع تماسك الثقافة الوطنية ويجعل منها هويات متصارعة تقف عند حدود أزماتها، وتسقط عليها صفة الانتماء ما يخلق فيها حالة رفض لكل ما يخالف تصورها، وهذا الاختلاف يتسيد على مساحة المواجهة وكأن الفكر لا يكون إلا بدخوله في صدام مع الآخر حتى يعلن وجوده وعقائده من خندق الحرب، وليس من باب الحوار القابل لاستيعاب أكبر قدر من التصورات.كل من يقرأ الدراسات والأبحاث والتحقيقات حول مشروع الشرق الأوسط الجديد، يلاحظ عدة ركائز يقف عليها هذا الانتقال التاريخي الذي سوف يدخل العالم العربي الإسلامي في حقب من التصارع المدمر حتى تنهار هذه المجتمعات لتصل إلى دون مستوى البشرية ومنها:تحويل الثقافات إلى أفكار مناطقية تتصارع مع ثقافة الوطن الواحد، وجعل المنطقة هي هوية من ينتمي إليها فكرياً.طرح المذهبية في المقدمة بدلاً عن الدين وجعلها المحرك الأول في مساحة التصارع، لأن الحروب مازالت خارج قيادة ذاتها.السقوط في مربع المناطقية، وفي هذا ما يصيب الأمة بالكساح والعجز عن فرض إرادتها، فهي لم تعد قوة متماسكة بل حالة ممزقة تتآكل من الداخل.إسقاط كل مراكز القوى ومشاريع الإنقاذ ورفض ثقافة التجانس، حتى لا توجد قوة تسيطر على خطوط الأزمة لتجعل من نفسها قيادة جديدة، بل تظل هذه الشعوب في وضعية غياب القيادة حتى تصل إلى درجة الرماد في صراعاتها، والمغذي الأول في هذا، ثقافة الانقسامات التي تلغي الانتماء للتاريخ والأمة.حالة التشرذم تعيد إنتاج أزماتها ولكن بصورة أعنف عندما يصل الانتحار في داخل هذه الكيانات المناطقية والمنقسمة، إلى رفض بعضها البعض والدخول في موجات تدمير مرعبة تفقد معها حتى الانتماء لكيانها المتصدع.غير أن هذه النتائج لم تأت ظاهرياً في جسد الأمة العربية الإسلامية إلا وكانت العلل قد سكنت جسدها وتفاعلت أعراضها على أرضية من الأزمات.يقول الكاتب أسامة عبدالرحمن في كتابه “مؤامرات تقسيم الأمة العربية” عن دور الاستعمار في تقسيم العالم العربي وصناعة ثقافة الاغتراب والانقسام: (من خلال دراستنا للتجربة التي مر بها العالم الإسلامي مع الاحتلال تتكشف لنا السياسات التي اتبعها الاحتلال في حربه ضد الإسلام، فقد تبنت الدول الاحتلالية الأوروبية سياسات عديدة تجاه دول العالم الإسلامي، ويمكن تلخيص أبرز هذه السياسات في: قيام قوى الاحتلال بنشر الدعوات السياسية التي تسعى إلى تحقيق أهدافه، مثل تشجيع الاحتلال الأوروبي لبعض الطوائف والمذاهب الدينية التي تدعي الإسلام ظاهراً، كالبهائية التي تزعمها عباس أفندي والتي تعرف بجذورها اليهودية، وكان تعاون هذه الجماعة مع الاحتلال البريطاني في الحرب العالمية الأولى واضحاً بشدة إلى درجة أن الحكومة البريطانية منحت زعيمها عباس أفندي لقب “سير” كما أن العلاقة الوثيقة بين هذه الفئة والحركة الصهيونية يتضح من خلال وجود المركز الرئيسي لهذه الدعوة في فلسطين المحتلة كما شجعت بريطانيا الدعوة القاديانية التي كان يتزعمها ميرزا غلام أحمد، الذي دعا إلى إلغاء فريضة الجهاد، وأنه لا يجوز للمسلم أن يرفع السلاح في وجه الإنجليز، لأن الجهاد قد رفع، ولأن الإنجليز هم خلفاء الله في الأرض فلا يجوز الخروج عليهم كما اجتهد الاحتلال في إثارة النعرات القومية التي نجح الإسلام في القضاء عليها، ومن أبلغ الأدلة على ذلك الخطاب الذي وجهه الوزير البريطاني أورمسبي جور إلى قائد قواته يقول فيه: إن سياستنا تهدف دائماً إلى منع نمو الوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي، وينبغي أن تكون كذلك، ففي السودان ونيجيريا - كما هو الحال في مصر ودول إسلامية أخرى - شجعنا نمو القوميات المحلية الأقل خطراً من الوحدة الإسلامية.كما تجدر الإشارة إلى أن أول جمعية علمية أدبية أسست في الوطن العربي - وهي جمعية الآداب والعلوم التي أسست في عام 1847م على يد بطرس البستاني ونصيف اليازجي، والتي أصبحت فيما بعد نواة للحركة القومية - كانت بمساعدة البعثات التنصيرية الأمريكية.عملت أيضاً الدول الأوروبية على إدخال فكرة العلمانية في العالم الإسلامي بهدف إيجاد أجيال مسلمة تؤمن بعقائد وأيديولوجيات غربية وتجدر الإشارة في هذه النقطة إلى أن المعهد الذي أنشأه نابليون في مصر، يعتبر أول مؤسسة علمية غربية في العالم العربي في العصر الحديث.كما أن الجامعة الأمريكية في بيروت كانت تعرف في بداية نشأتها بالكلية البروتستانتية السورية، التي أسستها البعثة التنصيرية الأمريكية.ما جرى في الماضي من الأحداث، لا يعني أن مشهد الأزمة السابقة قد سقط في دائرة فقدان المرجعية، فالماضي في التاريخ والسياسة تربطه خيوط خفية تحرك مجرياته حتى اختلفت العقليات ومحركات التنفيذ، فالصور تحمل أكثر من لون ولقطة وكل مرحلة تصاغ مشاريعها وبرامج عملها حسب الزمن ونوعية البشر.والفكر الغربي قد أدرك، أن العالم العربي يمر بحالات من الانقسام والتصارع تسخر فيهما كل أساليب الصدام بما في ذلك الثقافة التي تدحرجت مقوماتها إلى أدنى حدود الذاتية، أما السياسة التي كانت من الإلزام التاريخي أن تطرح كقيمة موضوعية في بناء الإنسان والمجتمع، فقد تحولت إلى سلطة قمعية وعززت ثقافة عبادة الفرد (الزعيم) وأصبحت القيادة ملكية خاصة، ولم تقف عند هذه الدائرة، بل أدخلت اقتصادها وأوجدت من الأحقاد وثقافة المربع الواحد الذي لا يقبل شريكاً يقف إلى جانبه، فكان من هذا، العجز عن إنتاج المعرفة وتدني المقدرة في التخاطب مع الغرب الذي وجد في مثل هذه الأوضاع الأرضية الأفضل بطرح مشروع الشرق الأوسط الجديد (المؤامرة الكبرى).يقول الباحث مصباح محجوب في كتابه (استنير وشياطين الظلال والحصاد الذي حان قطافه) الصادر في عام 2005م عن وضع اليمن في هذه الأزمات العاصفة في العالم العربي والداخلة في مشروع الشرق الأوسط الجديد وعن دور الصهيونية العالمية في وضع اليمن في هذا المخطط: (منذ بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين والصهيونية تنظر إلى أرض اليمن باعتبارها البلد الذي يحوي عشرات الآلاف من اليهود الأكثر فقراً وبؤساً.ومنذ ثلاثينات القرن العشرين سعت القوى الاستعمارية المتمثلة بالصهيونية العالمية والأمريكية والأوروبية المنافقة وخاصة بريطانيا التي كانت تقف دائماً وراء خطة توطين اليهود في فلسطين، سعت بقوة إلى تهجير يهود اليمن إلى فلسطين حيث كانت المخططات تحتاج إلى ذلك.وقد حاول مونتيفيوري، استخدام يهود اليمن في عملية الاستيطان الذي كانت بريطانيا تخطط له منذ منتصف القرن التاسع عشر وجرى بالفعل تهجير بعض من يهود اليمن إلى فلسطين.أما عملية تشجيع هجرة يهود اليمن إلى فلسطين فقد بدأت منذ العام 1843م حيث هاجرت طلائعهم إلى الأرض الفلسطينية بقيادة الحاخام باروخ، واستقرت في منطقة قريبة من صفد، ومع جهود منظمات بيلو - أحباء صهيون - هاجرت أعداد أخرى.وفي العام 1907م هاجر إلى فلسطين حوالي 220 يهودياً يمنياً كلهم تقريباً من الفلاحين والفقراء واستقروا في رحوفوت - وريشون ليتسيون وبتاح تكفا - وفي العام 1910م أرسلت الحركة الصهيونية الدكتور صموئيل يعنانيلي، إلى اليمن لتشجيع الهجرة، والتقى في هذا العمل مع أبراهام طبيب الذي أصبح فيما بعد زعيمهم في فلسطين، وعليه يمكن القول إنه في الفترة ما بين 1919م - 1948م هاجر من اليمن إلى فلسطين حوالي ستة عشر ألفاً من اليهود اليمنيين أي ثلث اليهود اليمنيين تقريباً. وفي الأعوام 1948م - 1949م وبمساعدة الاحتلال البريطاني هاجر إلى فلسطين حوالي ثلاثة وأربعين ألف يهودي يمني - عبر معسكر غيوولاً، وفي العام 1951م وحتى 1954م هاجر حوالي ألف وخمسمائة آخرين من يهود اليمن إلى فلسطين المحتلة.أما في اليمن الجنوبي فقد كان يوجد في عدن حوالي ثمانية آلاف وخمسمائة وخمسين يهودياً في عام 1947م وصل منهم إلى فلسطين أيضاً من خلال معسكر غيوولاً حوالي ثلاثة آلاف وثمانمائة يهودي يمني، وخلال حرب اليمنيين ضد الإنجليز هاجر باقي يهود اليمن الجنوبي إلى فلسطين.وتجدر الإشارة هنا إلى أنه وبحماية الاحتلال البريطاني تم تشكيل منظمتين يهوديتين هما منظمة حالوتسي هعوفيد في العام 1944م والثانية فرع لمنظمة بني عكيفا الدينية في العام 1951م.وخلافاً لما تدعيه الصهيونية من أن اهتمامها باليمن يعود لأسباب دينية، لأن اليمن كما يزعمون هي موطن الأسباط العشرة وهي المكان الذي يضم مدينتي سبأ وعدن اللتين جاء ذكرهما في التوراة. إذن فالسبب الرئيسي لاهتمام الصهيونية بهذا الجزء من الجزيرة العربية هو نتيجة موقعها الجغرافي الحساس، إلى جانب تحكمها بالمنفذ الجنوبي للبحر الأحمر وهذا كان أحد الأسباب الكامنة وراء توطيد إسرائيل لعلاقاتها مع أثيوبيا في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي، وفي الوقت نفسه حاولت إسرائيل إقناع بريطانيا بضرورة التشبث بجزيرة بريم ولتحقيق ذلك أجتمع أبا إيبان، رئيسي وزراء إسرائيل آنذاك ووزير خارجيته مع جورج براون، وهارولد ويلسون، رئيسي وزراء بريطانيا السابقين في العام 1968م وفي العام 1970م استأجرت إسرائيل جزيرة حالب الأثيوبية التي تبعد عن ميناء عصب حوالي عشرين كيلو متراً، واستخدمت جزيرة دهلك الأثيوبية أيضاً لإنشاء قاعدة للرادار لمراقبة التحركات البحرية للدول العربية والقوات السوفياتية قبل انفراط عقد الاتحاد السوفياتي.وفي 12 - 3 - 1973م احتلت إسرائيل مجموعة من الجزر غير المأهولة بالقرب من باب المندب.أخيراً وليس آخراً نود تسجيل اعتقادنا بأن الخطر القادم إلى المنطقة العربية سيصيب اليمن في وحدة أراضيه بحيث يصبح أكثر من دولة.وان المسألة مسألة وقت بالتأكيد مسجل على لائحة الانتظار خاصة وأن الصهيونية واليهود يدعون أنه موطن الأسباط العشرة اليهود.أما عن تمرد الشيخ حسين بدر الدين الحوثي على السلطة في صنعاء فبالإمكان وصفه ببداية الرقص حنجلة فهل بدأ تخريب اليمن وإشاعة الفوضى فيه).الخطورة في التاريخ عندما تتحول جزئيات اختلافاته إلى مشاريع سياسية، وعندما تصبح دائرة القطرية مساحة لتشكيل وعي مغاير للعام عند الأمة، في زمن تضرب فيه الهزات والتصدعات بقايا التماسك في ذلك الكيان المنهار، تقفز إلى السطح كل احتمالات التمزق، أما مسألة استعادة صورة الاصطفاف الواحد فتصبح في حكم العدم لأن الحتمية التاريخية تكون قد طرحت بدائلها.يقول الدكتور سعيد اللاوندي، في كتابه (الشرق الأوسط الكبير) الصادر عام 2005م: (المحقق ان منطقة الشرق الأوسط تتعرض حالياً لعملية تصدع هائلة تكاد تأتي على الأخضر واليابس معاً .. وهو ما حدا ببعض الباحثين إلى الصراخ محذراً من التغييرات أو التحولات التي تفرضها القوى الكبرى ـ بالتعاون مع بعض القوى الإقليمية ـ والتي ستؤدي إلى طمس كل الملامح المعروفة عن هذه المنطقة لنجد انفسنا ـ والحالة هذه - أمام شرق أوسط جديد في حدوده الجغرافية والديموغرافية.صرخة التحذير هذه تتجه إلى ما يعرف بالنظام الإقليمي العربي الذي سوف يصبح اثراً بعد حين ـ حتماً ـ مع تكريس مشروع الشرق أوسطية الذي لا يخفى على أحد أنه من بنات افكار الولايات المتحدة.صحيح ان هذا المشروع ليس جديداً تماماً وإنما هو كمخطط قديم، لكنه يتجدد بين الحين والآخر ويتجسد في صور مختلفة ومن ثم بات يمثل تحدياً أمام النظام الإقليمي العربي الذي وجد نفسه بين أمرين، إما ان يعيد فرض وجوده كعنصر مؤثر في معادلات القوة على المستوى الدولي والقومي أو أن يتحول إلى مجرد عنصر هامشي في الإستراتيجية التي تضعها القوة الكبرى بهدف إعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط).عملية إعادة صياغة المواقع الجغرافية، ليست مجرد حسابات حدود ومسافات تفصل بين سيادة دول وحقائق انتماء، بل يدخل في صلب هذا حالة خلق مغايرة في الفكر والثقافة والعقائد وحتى هوية الشعوب تخرج من مساحة الكل إلى دائرة الفردية، وهذا يطرح ثقافة تصارع الغير فهي تجمع من جزئيات ذاتيتها وتصبه في قالب فكرها المتفرد لتجعل منه الواجهة التي تدخل عبرها دوامة الصدام مع من كان في السابق ينتمي إليها.
|
ثقافة
ثقافات منقسمة تصنع هويات متصارعة عندما تصبح حدود الأزمات هي حدود الانتماء
أخبار متعلقة