سطور
نديم غريبإذا كان الأدب نديم المراحل ومرآة الحياة، فالنقد أديم المعالم والعوامل على مرايا الأول ليحكم الثاني. وظيفته لم تعد إلحاقية كأن يلهث خلف النصوص ليردها في الشكل والمضمون، بل تتعدى إلى أبعد من ذلك.سار بعد المؤسس/ أرسطو الركب على مراحل. وكان منا عبدالقاهر الجرجاني وابن قتيبة والفراهيدي وابن العربي والقرطاجني وابن خلدون وغيرهم... وصولاً إلى طه حسين وعمر فاخوري وميخائيل نعيمة ورئيف خوري وحسين مروة وغيرهم من الذين بنوا لنا النظرية النقدية على اختلاف رؤاها. أما اليوم فعلى المعاصرين أن يجترحوا ما يتلاءم منه ليتواءم مع حركة الواقع في المعاصرة ليكون النقد فلسفة وعلماً، وفناً، وثقافة، وفكراً، وجمالاً، وأداء يحمل رؤاه، باحثاً عن الحقيقة الضائعة، خلف المجهول الذي ينتظرنا، وليس فقط في أعماق اللغة وبلاغتها، ولا حتى حصراً في تراكيب حروفها وتعابيرها بين المجاز والفصاحة، بل عليه أن يكون السبيكة الفكرية، والفنية، والجمالية التي ينتهجها العقل كنموذج إبداعي في نطاق المتوقع، أو في حدود الممكن ليبقى فيه المعنى الجمالي - بحسب تعبير مالارميه - خلف جبال البيرينيه! في هذه الحال ينتقل أثره من المرئي والملموس والمحسوس إلى حيز الاحتمال في اللامحدود واللاملموس على قاعدة بناء الجدلية قبل المطلق.لم تعد اليوم وظيفة النقد أن يقف حارساً على سواحل الكلمات، بل عليه ان يكون عابراً إلى ما بعد شواطئ الإنشاء وبلاغة التركيب من دون ان يتوقف عند حدود الشكل والمضمون أمام النصوص. تلك هي فرضيتي من خلال وجهة نظري للنقد المستقبلي. في حقيقته الفعلية أن النقد كان يرصد واقع الحدث داخل الكيان الكتابي، إنما اليوم عليه ألا يكتفي بذلك بل عليه أن يحول الأدب إلى حوار يفيض منه في من التحولات متجاوزاً رتابة التبصر في اللغة والمعنى. إذ أن عليه أن يخرج عن حاشية ما يقوله الأدب لأن النقد عليه أن يضع الفرضية قبل اكتشافه الحقيقة لأن الناقد بما يختزنه من ثقافة وبما يتمتع به من مميزات جعلته ناقداً، والنقد بذلك يستدعي ان يكون فيه شيء من الفلسفة، وخزان من الفكر، ووعاء من الفن، وقدرة على التحكم ومزيد من الثقافة، والحكمة، والرؤيا، ومقدرة على التأويل والتحليل ليعطي البدائل ويكشف الوقائع، ويحسن الربط بين الائتلاف والاختلاف ليتماسك عند الجمال على قاعدة الايدولوجيا كمتراس للدفاع في خطوط الجبهة الأولى على خطوط التماس بين الوعي والمنطق من جهة، وبين الاستنتاج وإظهار الفرضية في نتائج عمله ليكون عمله مرآة ينسج في انعكاسها حقيقة القول ونوعية الحكم وصدق الشهادة من جهة أخرى.ترى! هل أصابت مراحله عمق الدلائل في اكتشاف المستور، والمسكوت عنه من جسد الخفاء فيما يكتبه الأدب؟ وترى أيضاً هل عالجت نظرياته ما كان مشكوك بأمره من دون مسايرة أو مراعاة، فوصل أصحابه بما بنوه إلى بر الأمان؟لا شك في أن مدارسه النظرية ومذاهبها بناها أصحابها على وقائع بناء للمواقف التاريخية والحضارية في الزمان والمكان ومشروعية الحدث. أننا لا ننسى ما قدمته مدارسه من مدرسة إيانا وفيينا وفرانكفورت وصولاً إلى الشكلانية والمستقبلية الروسيتين عبوراً الى ما أرساه هؤلاء بين الشرق والغرب من تداعيات ومصطلحات وتسميات بنوا على أسسها النقد السوسيولوجي، والعقائدي، والبنيوي، والسيميائي، والتاريخي، والفقه اللغوي، والكلياني ونقد اللاوعي والواقعي، والانطباعي والرومنطيقي والرمزي والسوريالي وصولاً إلى النزعات الماركسية، والنيتشاوية، والتحليلية الفرويدية، والدوغمائية، والنفسية بعد التماهي الذي أرساه روسو، وديدرو، ومونتسكيو، وكلوروج وتولستوي وقبلهم وبعدهم ماركس وكانط وهيغل ونيتشه وهيدغر وصولاً إلى جورج لوكاتش وكروتشيه وباختين وشكلوفسكي، وقبلهم ديكارت حتى في ما بعد مالارميه وبول فاليري وت. س. اليوت... على أعمدة الرؤيا التي أرساها هؤلاء.نحن اليوم وبناء لوقائع العولمة ونهاية التاريخ وصراع الحضارات والفوضى البناءة وما شابهها علينا أن نأخذ في الحسبان أن العالم قد تغير بعد ثورة الاتصالات وثورة الفيزياء والكيمياء وما أحدثته من تبدل علمي في الفضاء وبعدما غيرت المفاهيم ثورة البيولوجيا في عملية الاستنساخ، على النقد أن يبدل ويغير طريقه في التعاطي مع وقائع الوجود حتى ولو بقي الأدب سائراً على هيامه حالماً في مساهماته المرئية والمسموعة.ترى هل تغير الحدس عند الإنسان؟ وهل تغيرت المعرفة والثقافة لتتغير شؤون وشجون الكتابة بعدما حل اليوم مفهوم التناص وعملية التفكيك والتأويل؟ بعد فوكو وسارتر وتودوروف وكريستيفا ورولان بارت وغيرهم ماذا بعد؟.