طفولة المبدع هي مخزونه الأساس ومصدره الذي يؤسس للواقعي والمتخيل في كتاباته
كتب/ عكاب سالم الطاهرنهاية عام 1981، كنت في زيارة لليمن (الشمالي) كما كان يسمى قبل الوحدة مع الجنوب. كانت الحرب على حدود العراق الشرقية مشتعلة، ولأن سماء العراق كانت جزءاً من جبهة الحرب، لذلك توقف الطيران المدني من وإلى العراق. وهكذا سلكتُ الطريق البري نحو الكويت، ومنها بالطائرة نحو العاصمة اليمنية صنعاء. كانت اليمن (الشمالية) تحِث الخطى، في ظل نظامها الجمهوري، نحو حياة عصرية جديدة. عندما كنت أخطو على أرض مطار صنعاء، تذكرتُ قولاً لصحفي أوروبي (لعله المواني) زار اليمن قبل بدء نظامها الجمهوري.سئل الصحفي: ما هي انطباعاتك عن اليمن؟ قال: كانت رحلة ممتعة، لقد شاهدت بأم عيني، كيف كان يعيش الإنسان اليمني قبل خمسة آلاف عام! وتخلصت اليمن من حكم أسرة (حميد الدين)، وكان ثمن الخلاص باهظاً جداً.في 26 سبتمبر/أيلول 1961، قاد عبدالله السلال انقلاباً عسكرياً، وتوالت الأحداث محملة بالمفاجآت والعنف، والعنف المقابل، ولكن: رغم الأثمان الباهظة، شق اليمن الجمهوري طريقه نحو حياة جديدة، بدأت بالحصول على الكهرباء وسماع المذياع، وتوالتْ المكاسب على هذا الطريق. ومن أشقائه وجيرانه في الشمال، تلقى اليمن الجديد، بداية، ما هو مؤذ، ومن الأشقاء البعيدين (مصر في ظل حكم عبدالناصر) تلقى المساعدات المتنوعة: عسكرية ومدنية. وكانتْ الحصيلة: رسوخ النظام الجمهوري، ويأس الملكيين من العودة إلى حكم اليمن.خطوتُ خارج مطار صنعاء، بصحبة الصديق الإعلامي عادل عبدالجليل الدلي، الملحق الصحفي العراقي آنذاك، ومن بعيد لاح أكثر من عمود غبار من أحياء المدينة، وهذا يفصح أن قسماً من شوارعهــا لم نجز تبليطه بعدُ.في فندق سبأ كانت إقامتي. وفي صنعاء، وقتها، كانت هناك ثلاثة فنادق من الدرجة الممتازة: هذا الفندق، وفندق شيراتون، وفندق حدة الذي بناهُ مستثمرون خليجيون. وخلال إقامتي في العاصمة اليمنية صنعاء، وقد استغرقت أسبوعاً، التقيت وحاورت مثقفين يمنيين، وتحدثتُ لصحيفة (26 سبتمبر). وبناء على نصيحة المستشار الإعلامي الدلي، تحدثتُ في المقابلة عن القيادة اليمنية الشابة، وعن أن اليمن - تاريخياً - منجم الأقوام العربية التي هاجرت شمالاً، ثم توجهت شرقاً نحو العراق، وغرباً نحو مصر، فيما واصلت أقوام أخرى سيرها شمالاً نحو سوريا الكبرى. ونشرتْ المقابلة على صفحات تلك الجريدة.ومن النشاطات التي قمت بها أثناء زيارتي لليمن، اللقاء مع رئيس جامعة صنعاء، في حينها، الدكتور عبدالعزيز المقالح، وهو شخصية قومية مستقلة، من مواليد 1937، حاصل على الماجستير من كلية الآداب بجامعة عين شمس بالقاهرة عام 1973، وعلى الدكتوراه من نفس الجامعة عام 1977.في هذا اللقاء، صحبني الدبلوماسي الإعلامي عادل الدلي، تحدث الأكاديمي اليمني عبدالعزيز المقالح في أكثر من موضوع، وقدم قراءة في أدب اليمن المعاصر، وتحدث عن أزمة القصيدة العربية. وتصفحنا ديوانه الشعري الصادر عام 1971، تحت عنوان: (لا بد من صنعاء).وحاولنا أن ننحني بحوارنا نحو الجانب السياسي، وسألنا الدكتور المقالح عن رؤيته للدور المصري في اليمن، فتحدث عن: عبدالناصر واليمن. وكان حديث العروبي المستقل. وَوَدَّعناهُ شاكرين.تذكرت كل هذه الوقائع، وأمامي على الطاولة، تستقرُ، الآن، مخطوطة كتابي الذي حمل عنوان: (محطات على طريق الكتابة)، وفي صفحاته الأولى نص مستل من كتابات الدكتور عبدالعزيز المقالح وجاء فيه: (أكاد أجزم أن طفولة المبدع هي مخزونه الأساس، ومصدره الذي يؤسس للواقعي والمتخيل في كتاباته. يصاف إلى ذلك أن الحضور العميق لهذا المخزون المترسب في أقاصي الذاكرة، يعطي للمبدع الحقيقي معنى الخصوصية).ويضيف الدكتور المقالح: (صحيح أن لكل مبدع، بل لكل إنسان طفولته وزمن صباه، إلاّ أن لكل واحد من هؤلاء مشروع طفولته الخاص، وظلال هذا المشروع وأصداءه).وأردت، من هذا الاستشهاد، تعزيزاً لمنطلقات ونتائج محطاتي على طريق الكتابة.