كتب /محمد الحمامصي:يعتبر كتاب (نجيب محفوظ وتحولات الحكاية: اللص والكلاب أنموذجاً) للكاتب والناقد شريف صالح، الصادر أخيراً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، أول دراسة من نوعها على مستوى العالم العربي عن العالم الروائي لأديب نوبل نجيب محفوظ تتجاوز المقارنة بين شكلين سرديين كالرواية والفيلم، وتسعى لاستقصاء وتتبع الحكاية في تحولاتها المختلفة من وسيط إلى آخر، حيث تتبع صالح حكاية (اللص والكلاب) بدءاً من قصة سفاح الإسكندرية محمود أمين سليمان التي نشرتها الصحف مطلع الستينيات وتأثر بها محفوظ، فكتب رواية (اللص والكلاب) التي تحولت إلى فيلم سينمائي أخرجه كمال الشيخ، كما قدمها المخرج أحمد خضر في مسلسل في نهاية التسعينيات من القرن الماضي.وعبر الوسائط الأربعة يرصد الناقد بنية الحكاية وكيف تتحول من شكل إلى شكل، ماذا يضاف إليها وماذا يحذف منها. وذلك على مستوى إطار الحكاية وشخصيتها وزمكانيتها ومن يحكي ومن تحكى لها.وتتأسس الدراسة المميزة التي استغرقت قرابة خمس سنوات، من فرضية أساسية بأنه ليس للإنسان وجود خارج الحكاية، فهو يستوعب ذاته ضمن حكاية أبدية كبرى تبدو لانهائية. ويحاول البحث أن يستوعب الحكاية في تجلياتها المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة، كيف تشتغل وما هي مكوناتها الرئيسية؟ كيف تصاغ وتتطور؟.وفي الوقت نفسه لا تتكرر أية حكاية أبداً، فأي واقعة يراها الآخرون ـ مثلاً ـ في لحظة معينة، لا يرونها بالكيفية ذاتها، يكفي أن يتغير الراوي كي تتغير بنية الحكاية.. أو يتغير الوسيط نفسه، حيث للوسيط الصحفي بنيته الخاصة وإكراهات بعينها في طرائق السرد، تختلف إلى حد كبير عن الرواية أو الفيلم أو المسلسل. وإن اتفقت الأشكال الأربعة كلها في طبيعتها السردية المتمايزة عن الأشكال الشعرية أو المسرحية.في مارس وأبريل/آذار ونيسان عام 1960 لم يكن هناك حديث للشعب المصري إلا عن سفاح الإسكندرية، وبراعته في التنكر والهروب من الشرطة التي تطارده في العديد من المدن ما بين الإسكندرية والقاهرة.وكانت الصحف والمجلات وعلى رأسها الأهرام تتسابق في نشر أخبار ومغامرات محمود أمين سليمان، وكان محفوظ يتابع بدأب شديد تفاصيل تلك القصة، وهو ما أكده الأديب الراحل يحيى حقي في مقاله عن (اللص والكلاب) حيث قال له محفوظ نفسه إنه مشغول بمتابعة قصة محمود أمين سليمان.وما هي إلا أشهر قليلة عقب تلك الوقائع التي انتهت بقتل السفاح في مغامرة في حلوان، حتى أصدر محفوظ روايته القصيرة (اللص والكلاب) التي تقع في حوالي 140 صفحة، والتي اعتبرت تطوراً مهماً في أسلوبه الروائي وبداية مرحلة إبداعية جديدة.في نص الحادثة نتعرف على سفاح في الثلاثين من عمره عمل في مهن كثيرة، كما كان بارعاً في التنكر، وقادراً على المراوغة والهروب بين مدن كثيرة كالقاهرة والجيزة والإسكندرية، وأيضاً عاش لفترة في لبنان. من تلك الشخصية الثرية والمثيرة استلهم محفوظ شخصيته الروائية الشهيرة (سعيد مهران) في (اللص والكلاب) التي صدرت عام 1961.وإذا أخذنا محور (الزمن) نلاحظ أن أسطورة السفاح بدأت عقب هروبه من السجن، بينما أسطورة سعيد مهران بدأت عقب خروجه من السجن. كما كثف محفوظ أحداث الرواية في حدود أسبوعين بدلاً من شهرين في الواقع.نأتي إلى (المكان) لنجد أن أديبنا الكبير اختزل أماكن القصة الحقيقية الموزعة على عدة محافظات مكتفياً بالقاهرة الكبرى، وبدلاً من التركيز على حي محرم بك في الإسكندرية باعتباره بؤرة الأحداث في القصة الحقيقية، أدخل محفوظ شخصية (سعيد مهران) إلى عالمه الأثير وتحديداً أحياء القاهرة القديمة حول القلعة.ومن بين حوالي 90 مكاناً ورد ذكرها في الحكاية الصحفية، كثف محفوظ خريطة الرواية في حوالي 20 مكاناً.ونصل إلى عنصر آخر من عناصر السرد وهو (الشخصية) فقد حفلت الحكاية الصحفية بأكثر من 150 شخصية، نصفها من رجال الشرطة والنيابة والقضاء، بينما تقلص العدد في الرواية إلى حوالي 40 شخصية. لكن الملاحظة الأساسية أن معظم الشخصيات في الحكايتين كانت معارضة لسعيد مهران ومهددة لوجوده ومقاومة لرغبته في الانتقام.بعد عام من نشر رواية نجيب محفوظ، قدم المخرج كمال الشيخ فيلمه (اللص والكلاب) المأخوذ عنها، تمثيل شكري سرحان (سعيد مهران)، شادية (نور)، كمال الشناوي (رؤوف علوان)، فاخر فاخر (الشيخ الجنيدي)، صلاح جاهين (المعلم طرزان)، زين العشماوي (عليش)، وسلوى محمود (نبوية). وشارك الشيخ مع صبري عزت في كتابة المعالجة السينمائية للرواية.الفيلم مدته 125 دقيقة، وتضمن أكثر من مائة مشهد، تعرض لحوالي 50 شخصية، وإجمالاً التزم الفيلم بمعظم شخصيات الرواية، لكنه قلص حضور الشيخ الجنيدي في مشهدين فقط، وجعل بياظة صاحب مقهى وليس أحد أتباع عليش كما هو في الرواية، واختلق بعض الشخصيات التي لا وجود لها في النص الروائي أبرزها السجين مهدي (صلاح منصور).وإذا كانت الحكاية الصحفية بدأت من لحظة الهروب من السجن، والرواية بدأت من لحظة الخروج منه، فإن الفيلم عاد إلى الوراء زمنياً، وبدأ من فعل خيانة (نبوية) و(عليش) الذي أدى إلى دخول سعيد مهران السجن.ومن ثم نلاحظ أن مسار الزمن تحول جذرياً، من شهرين في الواقعة الحقيقية، إلى قرابة أسبوعين في الرواية، إلى حوالي خمس سنوات في الفيلم. أما المكان الفيلمي فهو يتركز، أو على الأقل يوهمنا بذلك، حول حي القلعة والأماكن المحيطة به.وإذا كان محفوظ ترك نهاية (سعيد مهران) غامضة قليلاً ولم يجزم بقتله، فإنه من المعروف أن سفاح الإسكندرية (محمود أمين سليمان) قُتل بالفعل في مغارة في حلوان. وهو ما أكد عليه الفيلم أيضاً بشكل لا يحتمل اللبس.وفي القصة الحقيقية ظهرت زوجته ـ بعد مصرعه ـ ورفضت استلام جثته، بينما في الفيلم ظهرت عشيقته (نور) وهي تحاول أن تقنعه بتسليم نفسه، أما في الرواية فقد واجه مصيره وحده بعد هروب زوجته الخائنة واختفاء عشيقته.من المهم أن نشير إلى أن استلهام شخصية سفاح الإسكندرية لا يقتصر على الحكايات الأربع، فالروائي الراحل غالب هلسا استلهمها أيضاً في رواية بعنوان (سؤال) ولا علاقة لتجربته بنص محفوظ.بينما قدم المخرج الراحل حمدي غيث رواية(اللص والكلاب) للمسرح من بطولة صلاح قابيل، وإن لم يعثر الباحث على أي مادة فيلمية عنها.كذلك التقى صالح السينارست الراحل محسن زايد الذي قدم الرواية في مسلسل في السبعينيات من بطولة عزت العلايلي، وأيضاً لم تتوافر مواد فيلمية عن هذا العمل.ولذلك تم الاكتفاء بأحدث معالجة تليفزيونية للرواية وهي مسلسل “اللص والكلاب” إخراج أحمد خضر ومعالجة أبو العلا السلاموني، وتم إنتاجه عام 1998.المسلسل يقع في 17 حلقة، متوسط الحلقة 41 دقيقة، ويشمل حوالي 500 مشهد. تمثيل: عبلة كامل “نبوية”، رياض الخولي “سعيد مهران”، هاني رمزي “عليش”، بهاء ثروت “رءوف علوان”، و رانيا فريد شوقي “نور”.وإذا كانت الحكايات الثلاث السابقة بدأت من لحظة دخول السجن أو الخروج منه أو الهروب، فإن الحكاية التلفزيونية ابتعدت تماماً عن تلك اللحظة، وبدأت من مرحلة عمل سعيد في بيت الطلبة خلفاً لوالده. وبذلك فإن زمن الحكاية التلفزيونية جاء مشوشا، فقياسا على عمر سعيد استغرق ما يزيد على عشر سنوات، وقياسا على الأحداث السياسية والاجتماعية في المسلسل مثل مظاهرات الطلبة المطالبة بالحرب عام 1972 وحرب أكتوبر وصعود التيار الإسلامي وشركات توظيف الأموال والتحذير من الإرهاب، يغطي المسلسل حوالي ربع قرن من الزمان وليس أسبوعين فقط، كما في الرواية.وعلى عكس الرواية والفيلم اللذين كثفا عدد الشخصيات، فإن المسلسل جاء مشابهاً للحكاية الصحفية في ضخ عشرات الشخصيات الثانوية في مجرى الحكاية أهمها: ضبو، شلبية، والدة نور، خشبة، ومدحت. بينما تعد شخصية شلاطة (توفيق عبدالحميد) في المسلسل، امتداداً لشخصية (مهدي) في الفيلم وليس لها وجود في الرواية.أهم ما يميز هذه الدراسة المهمة تخفيفها من (الكليشهات) الأكاديمية وجفافها، فهي تشتبك مع الوسائط الأربعة. وقد تطلب إنجازها وقتاً طويلاً لحرص الكاتب على ضبط وتقنين (التحولات) المختلفة، ما استلزم القيام بجهود كبيرة، لإعادة كتابة وتجميع القصة الصحفية من (ميكروفيلم) جريدة الأهرام، إضافة إلى مشاهدة الفيلم عدة مرات وكتابة سيناريو وصفي كامل لحواره ومشاهده وشخصياته، وبالمثل كتابة المشاهد الأساسية للمسلسل وفحوى الحوار فيها لاستحالة إعادة كتابة سيناريو كامل لـ 17 حلقة.وبذلك تجاوز صالح المقارنة الإجمالية والعامة، وقدم مقارنة استقصائية وتفصيلية، كاشفة في الوقت نفسه طبيعة كل وسيط ومدى التباين في إعادة إنتاج الحكاية. حيث تكشف قراءة الحكايات الأربع عن عدم تطابقها على مستوى بنائها وشخصياتها وأزمنتها وأماكنها ورؤيتها لشخصية البطل.ولا يقتصر الأمر على كون الحكاية مفتوحة على احتمالات كثيرة في إنتاجها، بل هي أيضاً مفتوحة في تلقيها وتأويلها، وهو ما أثبته صالح في دراسته، وخير مثال على ذلك تباين قراءات النقاد للرواية فهناك من صنفها باعتبارها رواية قصيرة (أنور المعدواي)، أو قصة قصيرة طويلة (يحيى حقي)، أو قصة متوسطة الحجم (ماهر فريد شفيق).وبالنسبة إلى الاتجاه الفكري والجمالي، فإن البعض اعتبرها (قصة كلاسيكية القالب رومانسية المضمون) (لويس عوض) فيما نسبها آخرون إلى الاتجاه الوجودي، فأزمة سعيد مهران وجودية من وجهة نظر أنور المعداوي، وغالي شكري وإبراهيم فتحي.وبعد هذه الرحلة الممتعة نخلص من ذلك إلى أن الحكاية تبقى مفتوحة إلى الأبد إنتاجاً وتأويلاً وإعادة إنتاج، كما تبقى متشابكة مع تاريخ لا نهائي من الحكايات. وتلك المساهمة البسيطة هي محاولة لإدراك عملية بناء النص الروائي لدى محفوظ وتحولاته، وتعميق الوعي به انطلاقاً من مقولة إغريقية قديمة جداً بأنه (لا أحد ينزل نهر الحكاية مرتين).
|
ثقافة
الأديب نجيب محفوظ وتحولات الحكاية
أخبار متعلقة