في ق 18 تعززت الصلات بين الآداب الأوروبية لكن ذلك لم يدفع لأبعد من بعض المحاولات الأولية كما لدى فولتير الذي لم يتعمق في قراءة الأنواع الأدبية تاريخيا وحالة تبادل التأثير بينها... حتى يأتي القرن الـ 19حيث دور البحوث العلمية والتطورات العاصفة في المجتمع...الحركة الرومانسية ودورها في مسيرة نشأة الأدب المقارنلقد كانت الرومانسية تيارا واسعا وممهدا لتحولات واسعة في الحياة الفنية والعامة.. وبقراءة تاريخية سنجد ولادتها أولا في إنجلترا فألمانيا ثم فرنسا وإيطاليا...فكان لها أثرها في توليد أو تمهيد الأجواء وتوجيهها وجهة مقارنة نتلمسها عبر مقابلتها بالكلاسية للتعرف إلى مبادئهما العامة... وأول تلك المبادئ:[c1]1 - العقل والعاطفة:[/c] إذ كان أساس الفسلفة الكلاسية في حين اهتم الرومانسيون بالعاطفة وهكذا فالكلاسيون يرون العقل مرادفا للذوق السليم ولصواب الحكم الذي لا تتوافر فيه السلامة والصواب إلا باتفاقه مع تواضع المجتمع وتقاليده.. ومن ثمّ فلابد من التخلص من الخيال الجامح والنزعات الفردية والعواطف الجياشة وخير المؤلفات هي تلك التي تعبر عن المشترك الجمعي وتمثل القديم وإتباعه عبر نظرية المحاكاة باسم العقل.. وعلى قاعدة سجلها بوالو في قوله: (أحبوا دائما العقل ولتستمد منه وحدة مؤلفاتكم كل ما لها من رونق وقيمة). لقد استندت الرؤية العقلية للكلاسيين على شراح أرسطو من الإيطاليين وعلى الرغم من لقائها مع النزعة العقلية في فلسفة ديكارت إلا أن الفرق أنهم اتخذوا العقل لتبرير القواعد المقررة ولم يسلكوا في نقدهم على وفق مبادئ ديكارت ومنهجه في الشك لبناء الفكر الجديد وهدم الموروث الخاطئ.. أما الرومانسيون فيغلبون العاطفة والشعور لأنها منبع الإلهام والشعور معالد للضمير الذي يمثل عندهم قوة من قوى النفس قائمة بذاتها وهو غريزة خلقية تميز الخير من الشر عن طريق الإحساس والذوق. وعند الرومانسيين يبقى الجمال هو دعامة كمال نشاط إنساني وهو أساس ما في الإدراك نفسه من نظام ومن صيغة فنية تظهر فيها شخصية الإنسان وأصالته كما يرد في فلسفة شيللنك وكانط .والجمال على وفق الكلاسيين ينحصر في كونه الانعكاس للحقيقة شأنه في ذلك شأن الطبيعة. ومن ثم فعند الكلاسيين يكون ذوق باريس الكلاسي مطابقا لذوق أثينا.غير أن الموضع يختلف عن الرومانسيين فمرد الجمال إلى الذوق الفردي منه بالتحديد.. أي أن الجمال تحول من الموضوعية إلى الذاتية ومن المطلق إلى النسبي ومن القواعد التجريبية إلى التجريبية المعتمدة على الحواس النفسية الجمالية الممثلة للمشاعر والعواطف وآليات عملها. وهكذا فإن المتعة بالجميل لن تقف عند حدود معالجة الكلاسي المقصورة على معرفة المبادئ والأسباب أو توظيف الأشياء متناسبة الأجزاء مع معرفة المنفعة من لياقة وفائدة وراحة ولكن الأمر يذهب إلى الانفعال والإحساس بالجميل وهو ما يقوله الكلاسي بغير قيوده المنطقية العقلية..[c1]2- بين حقيقة الكلاسي وجمال الرومانسي:[/c] الكلاسي في عقلانيته ينشر الحقيقة بمعناها العام مبتعدا عن المشاعر الذاتية التي قد تمس التقاليد الثابتة لديه.. وكما يقول بوالو “لا شيء أجمل من الحقيقة فهي وحدها أهل لأن تُحَبّ ويجب أن تسيطر على كل شيء” وتطبيق هذا في بقاء السيد سيدا والخادم خادما وفي ثبات التقاليد واستقرار القواعد الأرستقراطية كونها الحقيقة المطلقة.. في حين سنجد أن الرومانسي يعتمد رؤية كما يقولها ألفرد ديموسيه (لاحقيقة سوى الجمال ولا جمال دون حقيقة).إذ كل مبدع يستند إلى هدي قلبه ومشاعره من دون قيود مسبقة ومن هنا لا يرى الرومانسي نفسا عظيمة أو وضيعة بلا احترام بل يميلون إلى الرحمة في مجموع البشر وإنصاف ضحايا المجتمع والحلم بالعدالة والمجتمع المثالي الذي لا يحترم حدودا تفصل طبقاته بظلم يجب أن يزول وأن يتم تكسير تقاليد لا مبرر لوجودها حيث حرية الإنسان منها تجعله أقرب للفضيلة والجمال من الالتزام به..[c1]3 - غاية الأدب:[/c]تظل غاية الأدب كلاسيا خلقية فالملحمة في الأدب القديم أخلاقياتها وغاياتها تكمن في إصلاح العادات وأنماط الشعر وفنون السرد والدراما أيضا. ما يوجب انتصار الحق على الباطل ويبقى الأدنى منفصلا عن الأعلى ولا ينتقل إليه ودائما ينتصر الواجب على العاطفة والمشاعر إلا إذا تم ذلك في ميدان يكشف فيه عن مواطن الضعف الإنساني تحذيرا للمتلقي من ذاك الخلل أو الضعف.. يقول راسين عن فيدرا: إنه في هذه المسرحية لم يجلُ شهوات الأنفس إلا ليبين كل ما ينتج عنها من اضطراب ويجعلها بغيضة عند الناس فيكون المسرح الكلاسي مدرسة للفضيلة مثلما مدارس الفلاسفة.وهذا ما يعمد رؤى الأدب الأرستقراطي المحافظ في الإيمان بحق الملوك الإلهي وبالإسقاط القدسي الديني بخلاف الرومانسية التي جاءت ثورة زلزلت تلك الرتابة والمحافظة وسلطة المجتمع وتقاليده المفروضة قسرا على الفرد وقد رافق هذا متغيرات اقتصادية اجتماعية وظهور أبرز للبرجوازية حيث صار الأدب الرومانسي تعبيرا عن الثورة ومصالح الفرد بالضد من مظالم المجتمع ما عمق الطابع الإنساني الشعبي في اختيار نماذجه وموضوعاته الأدبية الأمر الذي انعكس بوضوح في قضايا الدين والمجتمع والطبيعة.. حيث ولّد اهتماما بقراءة الكاتب وعبقريته وتفاصيل أحالتنا إلى تاريخ الأدب وإلى النقد الأدبي الحديث اللذين كانا سببا في نشأة الأدب المقارن الذي نحن هنا بصدد معالجته وتناوله..ومن جهود القرن 18 كان ولهلم شليغل W. Schliegel 1845-1746 من الأوائل الذين بحثوا في عبقرية المبدع وعملوا على تفسير النتاج الأدبي في جمالياته رومانسيا وقد ظهر للتفسير الرومانسي اتجاهان أساسيان: الأول ينظر إلى الأدب في علاقته بالبيئة والمجتمع كما ورد في قراءات ومعالجات مدام دي ستال..والآخر ينظر إلى الأدب في علاقته بمؤلفه كما ورد في قراءات ومعالجات سانت بوف..مدام دي ستال 1766 - 1817: داعية الرومانسية في فرنسا التي اعتمد نقدها طابعا علميا يتجه للتفسير والتعليل ودراسة الأدب بمناحيه الفردية والاجتماعية. تأثرت بالألمان في بناء النقد على الفلسفة بما يطبع النهضة الأدبية ويشمل أسس النقد الحديث. وعلى الرغم من عدّها الأدب ذا طابع فردي إلا أنها مضت لقراءة النتاج الأدبي بتأثره بالنظم الاجتماعية وما يخضع له المجتمع من أشكال الحكم والديانات والتقاليد وما ينشأ من ذلك من فكر إحساس وذوق ، تقول دي ستال “إلى الشرائع والقوانين يكاد يرجع كل التخالف أو التشابه الفكري بين الأمم وقد يرجع إلى البيئة كذلك شيء من هذا الاختلاف ولكن التربية العامة للطبقات الأولى في المجتمع هي دائما وليدة النظم السياسية القائمة والحكمة مركز مصالح الناس والأفكار والعادات تتبع تيار المصالح» .ولأن الأدب صورة للمجتمع صار لزاما قراءة التاريخ ونواحي البناء المدني الأخرى وبناء على المقارنات التي عقدتها مدام دي ستال يمكن تلمس أوليات لقراءة الأدب المقارن وولادته...[c1]سانت بوف 1804 - 1869 [/c]بحث في دلالة الأدب على مبدعه وليس على المجتمع فقط. حيث يتتبع الأمور خطوة فخطوة مع المبدع وتحقيقه منتجه الإبداعي ووظيفة النقد الأدبي عند سانت بوف هي النفاذ إلى ذات المبدع لكي يفهمه قرّاؤه “فالنقد يعلم الآخرين كيف يقرؤون” ص 49 من الأدب المقارن . ويرى بوف أن كل كاتب ينتمي إلى نوع خاص من التفكير يكشف عنه استقصاء طبائع العقول في الأدب الذي ينتمي إليه. وفي هذا الموضع ينجح بوف بموازنة النص الأدبي بنظائره لتتضح خصائصه وقد يكون من ذلك موازنة في آداب مختلفة ما يدخل في الأدب المقارن وبعامة تظل الحركة الرومانسية في استيلاد الأدب المقارن محدودة الأثر في موضع النصح لمقارنات بين النصوص في آداب مختلفة.. [c1]النهضة العلمية[/c]أما الاتجاه الذي كان له الأثر الأكبر والأوضح في ولادة الأدب المقارن فهو الظهور الأبرز للنهضة العلمية بخاصة بعد القرن التاسع حيث الدراسات النظرية والعملية على أساس منهجي وكان للتطورات في العلوم الصرفة والإنسانية آثارها الواضحة في النقد والأدب فعاد الأدب يصف واقع الحياة وصفا موضوعيا متحررا من جموح الخيال وانطلاق العاطفة .. فظهرت الواقعية وانحسرت الرومانسية في القصة والمسرحية وفي الشعر لصالح البرناسية...إن بروز جمهور العمال للأدب الجديد هو الذي وطد رؤى الواقعية والطبيعية باتجاهها العلمي فلقد جاء داروين 1809 - 1882 بنظرية تطور الأنواع إلى جانب نظرية ماركس في الاقتصاد وولادة علم النفس على يد فرويد ودور فريزر في تتبع جذور الأديان وكان لهذه العلوم الوضعية دورها في توجيه الأدب والنقد..لقد وضع أرنست رينان -1823 1892 كتابه تاريخ أصول المسيحية في مجلدات (1863 1883-) وكتابه التاريخ العام والمنهج المقارن للغات السامية 1855 وهو ما دفع لقراءة مقارنة لأصول الأفكار وكيفيات وآليات التكوين... ثم يأتي الانجليزي بوسنت بكتابه الأدب المقارن 1881 ليدرس ظاهرة الأدب في تأثراتها في دول مختلفة بالعوامل المخصوصة اجتماعيا لتلك الدول بين القبلي والمدني الإقطاعي والرأسمالي فكان خطوة أخرى باتجاه التأسيس للأدب المقارن الذي تابعه فيه الفرنسي ليتورنو في كتابه تطور الأدب في مختلف الأجناس الإنسانية 1894 ..ولظهور علم الحياة المقارن والتشريع المقارن والميثولوجيا المقارنة وعلم اللغة المقارن كان على ألأدب وتاريخه أن يتجه نحو الأدب المقارن الذي انتهجه إدجار كينيه 1803 -1875 وفي إشارة مباشرة واضحة للأدب المقارن وهي العلامة الأبرز في جهود التأسيس كما عند كل من هيبوليت تين وبرونتيير :أما هيبوليت تين 1828 - 1863 فقد بنى نظرياته على مبدأين:*التأثير المتبادل بين العوامل الطبقية والعوامل النفسية في نمو الجنس البشري وتقدمه..* إن بحوث العلم لابد أن تؤثر في الأدب والفن.. وقد أكد إمكان قراءة النتائج النفسية من قراءة المؤثرات المولدة لها وهو ما أشار إليه في كتابه تاريخ الأدب الإنجليزي حيث حدد عوامل التأثير في الجنس البيئة الزمن وقد قصد بالجنس تلك الاستعدادات الأولية لمجموعة إنسانية محددة بأصل واحد سواء منها النفسية أم العضوية ما يعني أن الصفات التي تشكلت عبر التاريخ تحولت لما يشبه الغرائز الفطرية وهناك الجنس العربي العبري الآشوري الآري والأخير ينقسم على الهندي والأوروبي والأخير ينقسم على اللاتيني والسكسوني.مثال: ويبدو من قراءة أسفار أنجلو سكسونية قوة الخيال وفيض الإحساس أمام الطبيعة وقوة الإرادة والاتجاه العملي. فيما قصد بالبيئة le milieau المحيط وعوامله الطبيعية والسياسية والاجتماعية المؤثر في تفكير الإنسان وهو مؤثر من خارج الإنسان في حين الجنس مؤثر من داخله..مثال: اشتراك بوالوو راسين في العوامل العامة لمحيطهما على الرغم من تميزهما فرديا.مثال: تفسير قلة الشعر عند قريش في مكة والطائف بقلة الحروب كما يرد عند ابن سلام الجمحي ..وقد وضع للزمن أو القوة الموجهة من تأثير الماضي في الحاضر والمكتسب من حركة ثقافة شعب عبر تاريخه موضعا ثالثا في التأثير في النتاج الأدبي ما يشير لنظرة تين في الأثر العميق للمذهب الطبيعي في الأدب.برونتيير 1849 - 1906استعان بنظرية التطور لداروين ورأى تطبيقها لدراسة الأدب وتبادلها التأثير:- ففي الرسم كان دينيا أسطوريا ثم تاريخيا فواقعيا مع مستوى تطور البشرية وحرفيتهم.ز- وفي القصة كانت ملحمية أسطورية ثم خيالية إنسانية فرومانسية فواقعيةوهكذا فكل جنس أدبي له معالمه وله مرحلته بما يعكس تطورا حتميا للعوامل الاجتماعية الطبيعية المؤثرة.وتعميقا لرؤى برونتيير فقد دعا لمقاربات الأدب المقارن وأثرها في ولادة الأجناس الأدبية المختلفة .بعامة لابد من الإشادة بكون مجموع المساهمات الصغيرة منها والكبيرة كانت المسرح للتمهيد للأدب المقارن حتى وصلنا جوزيف تكست في أواخر القرن 19 الأب الحقيقي للأدب المقارن وتبعه فردينان بالدنسبيرجيه وبالتأكيد بول فان تيغم،حيث الأدب المقارن يدرس الآثار الأدبية في كيفية تكوينها وظروفها التاريخية والاجتماعية على وفق تفاعلات ألوان لغوية قومية متعددة.
|
ثقافة
دروس في الأدب المقارن ( 2 - 2 )
أخبار متعلقة