نجمي عبدالمجيد عبر آفاق متسعة التواصل مع الثقافة العالمية تذهب بنا قراءة الفكر والنص في أعمال المفكر العالمي الدكتور ادوارد سعيد إلى مناهل من المعارف الإنسانية تضع منزلة ومسؤولية الكاتب عند مستوى التاريخ .وما بين أحداث تصنعها الصراعات وأفكار تفرضها المصالح ، يأتي دور الكاتب في قراءات عملية التحول ما بين الممكن في الذات الإنسانية وما بين ما يرفض أو تعاد صياغته لأنه من صنع البشر لذلك لا يمكن إسقاط القداسة عليه. في كتاب ( الحق يخاطب القوة - ادوارد سعيد وعمل الناقد) الصادر عن كتاب سطور، تحرير بول بو فيه، ترجمة الدكتورة فاطمة نصر عام 2001م القاهرة، يلتقي فكر ادوارد سعيد مع الآخر عند درجة الحوار الإبداعي وقراءة النص الثقافي وكل هذه العوامل تتجمع في رؤية تحاول إعادة اكتشاف ادوارد سعيد فكراً وانسانياً عبر ما تراكم من تراثه الفكري وما تمازجت به من عناصر ثقافية متعددة بالرغم من عبورها إليه عبر بوابة ثقافة الغرب ( اللغة الانجليزية) وفي هذا تتوسع حلقات الالتقاء بين عقلية من جاء من الشرق لتعاد صياغة تكوينه ليخرج من خلاله اجتهاده من حصار اللغة وفقدان الانتماء إلى مساحة واسعة من المعرفة دفعت به ليكون عملاقاً في الكتابة الثقافية بل لتعيد للعقل العربي حضوره الكوني - الإنساني في مدارج الثقافات الخالدة. يقول الكاتب جيم ميرود : ( كتابات ادوارد سعيد المنشورة على مدى ثلاثة عقود لتأملاته التي تتسم بالتناغم المعقد وهي كتابات تجمع موضوعات شتى يحوز مداها الإعجاب ويميزها تحكم فكري رائع وقوة تدفق واندفاع “ تعقيدات ذات تفاصيل مفاهيمية” تقترب الآن من أن تكون صرحاً سيمفونياً مجسداً مكتملاً . لقد سبرت تيمات سعيد أغوار المشاكل الأدبية ومسام التنظيرت المتقلقلة، والتعقيدات الفلسفية والمستنقعات السياسية وقد درس سعيد بخيال تحليلي السياقات الثقافية للسلطة والمؤسساتية التي تمكن العمل الإبداعي والثقافي وكثيراً ما تعوقه واتخذت زاوية شهاداته موقعاً ذا وعي ذاتي يشبه السيرة الخاصة فريداً بين الكتابة الأكاديمية وإرساء شهاداته في وعي ذاتي إحالي لم يفسد ابداً التناسق مع الظروف المعيشية المحيطة بالمناسبات التي يكتب عنها. كما أنه لم يعبر عن ذاته كأداء شخصي يدفع فيه بنفسه إلى موقع الصدارة بإيماءات احتفالية. فحتى حينما يظهر سعيد في الوسائط الإعلامية بصفته “ خبيراً “ يعلق على البنى العميقة للصراعات الدولية نجده يرتدي زي “ الخبير “ بدون مبالاة وبعدم تحديد مدروس احتراماً منه لدور الهاوي الأوسع مدى وأكثر تراحماً. استوعب سعيد موقع الإدراك التحليلي هذا من نموذج الكتابات النقدية المهيبة للناقد آر . ب . بلاكمور . كان بلاكمور استاذاً لسعيد في جامعة برنستون وحيث كان عقل بلا كمور يتجه كانت تتبعه عقول الآخرين عاجلاً أم اجلاً . وحيث وصل فكر سعيد الآن فسيستمر تجمع الآخرين هناك .فلدى كل نقطة عمل سعيد على اكتساب الموقف الفكري لعمله الفريد التأسيسي نتيجة لمشاركات خارج نطاق الأكاديمية التي ما زالت تغمره في خضم الأحداث العامة والمناقشات السياسية الجدلية حيث يراكم التعبير “ علماني “ الذي كثيراً ما يستعمله في نصوصه كثافة وغموضاً ووهناً وهي أمور من المحتم أن يقابلها الفكر التعارضي. ولم يستطع احد ممن يكتبون عن النظرية الأدبية والثقافية اليوم تفادي تناول قبضة سعيد وهذا المدى هو عن حق مدى شخص هاو ، مما يعني أن العمل الشاق المؤسس على المعرفة لا يعوقه شيء بالنسبة لفرد شديد الاهتمام بعمله. أما الفوائض العاطفية المحتملة لهذا الاهتمام فهي ترتكز هي ومداها خارج نطاق مجرد المهنية .. تذيلات زخرفية مهنية يعرضها بعناية واهتمام . فإن كان المرء يهتم عن حق ، ولمدة طويلة بتبعات العمل الفكري “ بنتاج ولع المرء الوجداني وعمله الشاق “ فسينفتح التباعد المهني، لا محالة، على تبادل آراء غير متوقع مع رجال ونساء يفند ويوسع بإلحاح أنشطة منوعة مشتركة غير مسماة ومثل هذا الانفتاح “ باتجاه علوي أو خارجي أو باطني “ يحمل معه وطأته الخاصة مع مسئوليات العزلة وما ينجم من تقارير شخصية). هل شكلت كتابات ادوارد سعيد حلقة تواصل ثقافي بلغت أعلى درجات الوعي الحضاري لدور المفكر في الحياة الاجتماعية؟ تلك رؤية يطرحها علينا الكاتب جيم ميرود في تصوره للعلاقة بين الإبداع والحياة ، فقد أدرك ادوارد سعيد أن الكتابة والفكر هما جوهر التواصل مع التاريخ فهو مثل ما يحمل إعادة الصياغة للمجريات وما تفرزه من تحولات كذلك يخرج انتاجات مغايرة لأسلوب الإبداع والثقافة فالفكر كما يولد مع الطبقة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تنتجه كذلك ايضاً تتكون خصائصه المهمة لصفاته العاجلة لوحة لأنواع الحياة التي يعيد الإبداع قراءتها من منظوره الفكري وتتغلف بتصورها الذاتي لمعنى الإنسانية لان الفكر الحامل لتاريخ زمن معرفته الحضارية لا يقف عند هذه الحدود ولا يسجن نصوصه عند شهادة أزمنة محددة بقدر ما يتحول إلى عملية ترحيل مستقبلي تنقل هذا الارث إلى مساحات أوسع في العالم وذلك ما يفرز الإنتاج الإنساني - العالمي لمكانة الإبداع والثقافة في الحياة. ومما يطرح علينا في قراءة نصوص ادوارد سعيد إشكالية اللغة والفكر بين الشرق والغرب بمعنى هل تمتلك اللغة العربية المقدرة على منح عقل ادوارد سعيد هذا المستوى من الفكر لو ظل يتحرك في مساحتها؟ وهل خلقت اللغة الانجليزية عنده ما عجزت اللغة العربية أن تقدمه لعقل المفكر؟ ذلك هو مربع التصدع الذي تقف عليه العلاقة الثقافية بين الشرق والغرب لغة حدود رؤيتها لا تعيد إنتاج المعرفة ولغة تعيد إنتاج الفكر عبر الهيمنة الحضارية لقوة حضورها في العالم. وفي عمق هذا التصارع الفكري توجد أزمة العلاقة بين الشرق والغرب . هل المعرفة هي إعادة إنتاج للعلاقات مع الشعوب أم هي هيمنة وإعادة فرض تصور للعالم يتحول عبر التعامل إلى وصاية تدخل في الوعي الغربي كإحدى مكوناتها الثقافية صلة لا تدرك الإ من خلال مساحات تواجدها في العالم واللغة الانجليزية فيها العامل الأهم ليس في قراءة نص الآخر بل في محاولة تركيب وجوده في الحياة وهو في هذا يدخل ضمن منظومة إنتاجها الذي يضع الإنسان والحياة في منغلق لا يمكن الخروج عنه. يقول الكاتب رشيد خالدي : ( نظراً لتأثير ادوارد سعيد في مدى متسع من المجالات فمن السهل أن تغيب عنها إحدى التمييزات المهمة أي الفرق بين مجال الأدب والثقافة الذي يشكل الأثر الرئيسي لسعيد ومجال قضية فلسطين المختلف تماماً . وهناك بالطبع أوجه شبه بين الوسائل التي احدث بها سعيد أثره في فهمنا لكل من مجال الأدب والثقافة وللقضية الفلسطينية فعلى مدى ما يقرب من عقود ثلاثة غيرت إصداراته الأكاديمية الخلافة ومحاضراته العامة الرسمية وتدريسه لطلبته الطريقة التي ينظر بها الأمريكيون وآخرون في جميع أنحاء العالم إلى شعب فلسطين والخطوط المحددة للصراع العربي الإسرائيلي. وكان لإصدارات سعيد التي من بينها “ القضية الفلسطينية” و “ حجب الإسلام “ و “ السلام وفحواه السلبي “ تأثير ملحوظ ودائم وما زالت معظم هذه الإصدارات تتداول ويعاد طباعتها مما يعد شاهداً على أهميتها وتوافقها مع الأحداث. أما فيما يختص بقضية فلسطين فعلينا اخذ عامل آخر في الاعتبار ويخرج هذا عن نطاق البحث والمحاضرات والتدريس، وهو تأثير سعيد غير العادي كمفكر عام على الخطاب السياسي في الولايات المتحدة.ويكتسب أثر سعيد أهمية أكثر نظراً لأن هذا الخطاب السياسي الامريكي العام، ووسائط الإعلام التي تتعدى عليه وتثريه، كان ومازال في غالبيته، وغالبيتها، معادياً للفلسطينيين. وحقاً ،فإذا قمنا بتقييم المواقف الأمريكية منذ الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967م، يتضح لنا مباشرة أن صوت سعيد عبر شاشات التلفزيون والإذاعة، وفي مقالاته في العديد من المجلات والدوريات، كان المصدر الرئيسي، وربما الأوحد، للترياق المضاد للبلاهة المهيمنة على الوسائط الإعلامية الرئيسية لدى مناقشتها للقضية الفلسطينية.وعلى حين أنه لم تمح بعد الصورة السائدة المسيطرة للفلسطيني الإرهابي، بل تم تدعيمها بشكل ما يسبب هجمات بشعة تعرض لها مدنيون إسرائيليون في السنوات الأخيرة.وبينما يظل لفظ فلسطيني في ارتباطه بالدمار قوياًـ فقد فعل سعيد، دون شك أكثر من أي فرد آخر، الكثير كي يؤسس فكرة في الإنسانية الاساسية للشعب الفلسطيني في عقول الجمهور الأمريكي.وقد يبدو أثر سعيد على مواقف الجمهور الأمريكي إزاء قضية فلسطين غير مهم نسبياً مقارنة بانتاجه الفكري كشخص ظل مؤثراً في مجالات أكاديمية شتى من بينها الأدب المقارن ودراسات ما بعد الكلونيالية والانثرو بولوجي والدراسات الثقافية.هل تصبح الكلمات هي آخر حدود الدفاعات لقهر سياسة إلغاء الآخر وطمس الهوية واستحضار الوعي القومي في تلك المسافات التي تتخطى قضية شعب ومكانة تاريخ.ذلك ما سعى إليه ادوار سعيد من خلال عملية تصحيح النظرة في المجتمع الأمريكي ـ الغربي حول مسألة فلسطين.فقد وضعت تلك الاجتهادات الفكرية حقيقة الأمر عند مستوى من الادراك والتفكير لمفهوم هذه القضية، ومن هنا كان لابد له من الدخول إلى دوائر المواجهات مع قوة استحكمت مقدرتها على ركائز المجتمع الأمريكي إلى حد اصبحت هي الرؤية الاحادية الجانب، والعقلية التي تفرض على الرأي العام كيف يصنع شكل علاقاته مع الغير.وفي هذا المحيط استطاع ادوارد سعيد وضع آلية عمل تسعى لجعل العامة تنظر إلى الاتجاه الآخر الذي يملك جزءاً من حق الكلام والتحاور على مبدأ لا تنفرد به أطراف أوجدتها علاقات دولية صاحبة مصالح متداخلة، فالجانب الفلسطيني ظل الصوت الخافت في ذلك الضجيج الذي تسيد لفترة من الوقت على منابر الإعلام في أمريكا وجعل من صورة الفلسطيني مجرد مجرم فاقد الانتماء للحضارة وهو بذلك ليس له تاريخ بينما إسرائيل كدولة هي من أوجد الإنسان والحضارة في هذا المكان والذي صور للعالم على أنه مجرد فراغ جغرافي لم يعرف الحضور البشري.تلك هي ثنائية التناحر في العقل الغربي والعقل العربي، لأن فلسطين لم يتم اسقاطها عن ذاكرة الوعي الغربي كقضية وشعب، بقدر ما رهنت موازين التصارع والمصالح والمتاجرة في الشرق والذي يجب ان يكون صاحب الحق الأول في هذا الجانب، فكيف بالغرب ـ أمريكا ـ إسرائيل الاقطاب المتحالفة على مصالح النفوذ واقتسام مساحات شعوب كان من المفترض لها حق المشاركة في صياغة الاحوال والافكار والقيم في هذا العالم.يقول الدكتور ادوارد سعيد عن نوعية العلاقة بين الشرق والغرب: (هناك نماذج من تلك المواقف المزدرية للعالم العربي ترجع إلى أيام القوى البريطانية الغازية التي ارسلت إلى مصر عام 1882م، لقمع عصيان عرابي حتى الهجوم على مصر عام 1956م، الذي نفذه انطوني إيدن بالتواطؤ مع إسرائيل وفرنسا.ويستبق موقف إيدن الذي عبر عنه بلهجة عناد انتقامي حقير، بشكل غريب بغض بوش ذا الطابع الشخصي لصدام حسين .. فقد عامل بوش صدام حسين على انه موبي ديك الشخصي الخاص به الذي يجب معاقبته وتدميره.وقد ظلت ثمة حرب ثقافية مشتعلة في أمريكا لعقود ضد العرب والإسلام، وكانت الرسائل التي حملتها معظم هذه الكاريكاتيرات، أو أنهم شيوخ يعيشون في منطقة قذرة قاحلة لا تصلح إلا للتربح منها، أو لشن الحرب عليها.ولم يحدث ان ظهرت فكرة انهم قد يكون لهم تاريخ أو ثقافة أو مجتمع ـ مجتمعات عديدة في الواقع ـ أو فكرة التفكير فيهم كشركاء في الحوار سوى للحظة أو لحظتين.وأغرق الأسواق طوفان من الكتب التافهة التي كتبها عنهم بعض الصحفيين، ولاقت تنميظاتها القليلة التي تنتزع عنهم الصفات البشرية، رواجاً ومصداقية).سطوة عقلية الانحياز لجانب دون آخر هي ما انتجت ذلك الصراع المذهبي ـ التاريخي بين الشرق والغرب، فالسياسة لم تخرج من دائرة إعادة صنع الصورة لوضع العرب والإسلام، وفي هذا كانت ثقافة الإعلام هي من يدفع بالاوضاع إلى مستويات من الفرض والتجريد إلى حد يصل إلى حالات الالغاء من الحضور ـ التاريخ، فالجانب الآخر لا ينظر إليه من خلال مربعات حصر بها، فهنا لا توجد غير شعوب هي تحت المستوى البشري وفاقدة للانتماء لروح الحضارة وتنطلق دونية المكان من دونية الإنسان فهما وضعية لا يمكن لها أن تتجاوز هذه الدرجة من السقوط لأن هذا جزء من تكوينها الذاتي.لم تقف افكار الدكتور إدوارد سعيد عند حدود الرد على تلك المواجهات الفكرية لحالة العرب من الرؤية الغربية، بل عمل على إعادة هيكل التصور ورسم جغرافية فكرية مغايرة لأوضاع لم تفرضها موضوعية حوار الحضارات بل أوجدتها مصالح، وهيمنات مازالت تحكم الثقافة والتاريخ.
|
ثقافة
الدكتور إدوارد سعيد .. الحق يخاطب القوة
أخبار متعلقة