كتب/ د. سالم موسى تعريف الإبداعجويس ويكوف (1991)، يفسر الإبداع على أنه العمل الذي نتفاعل معه بشكل مختلف ومتميز. والمبدع لديه، (هو من يستطيع أن يبتكر أشياء هي في حقيقتها مألوفة، لكنه يحولها إلى جماليات مبهرة عن طريق ربطها بصور لغوية أو مهارية أو فنية مختلفة وجديدة لم يسبقه إليها أحد). بينما يرى عالم السلوك سكنر (أن الأفراد المبدعين يتميزون بقدرات تساعدهم على توليد الطفرات، والطفرات لديه هي التحول الهام في الأفكار أو في أي عمل مبهر). في علوم الكتاب الكلاسيكي والقيم الإنسانية، (هاربر ورو. 1956) يوضحان: (أن النشاط الإبداعي للعالم أو الفنان هي نفسها. فالإبداع هو محاولة لاكتشاف (الشبه الخفي) في الكون. إنه البحث عن تحقيق الذات والإلحاح في طلب الاعتراف بتفوقها..). والكثير من الكتاب والفنانين والأدباء يصفون الإبداع بأنه شيء ما خارجي ومنفصل عن الجسد، ويؤمنون بأن مصادر الإلهام موجودة خارج الشخص. يصف المؤلف جوسيف هيلر تجاربه بقوله، (لا أفهم كيف تتم عملية التخيل على الرغم من علمي بأنني واقع وبقوة تحت رحمتها، أشعر بأن هذه الأفكار تطوف في الفضاء من حولي ومن ثم تختطفني واستقر عليها، إن الأفكار تأتي إلي ولا أنتجها بإرادتي). وفي جانب آخر، نجد أن سكوت ويت (1983) وهو محلل اقتصادي، (يؤمن بأن الأفكار الجديدة ليست أبدا بدون أصل أو مصدر أساسي، وأنها في الحقيقة إعادة أفكار قيلت من قبل، لكن تم توليفها وتكييفها وإخراجها بلغة مختلفة، ويشير إلى أن ألمع العلماء ورجال الأعمال والفنانين لم يكونوا إلا مجرد مقلدين مبدعين، لان أفكارهم لم تكن إلا شكلا مقلدا لإنتاج وصيغ وأنظمة الآخرين ). (تنمية الطفل) للمؤلف جوزيف شيلتون بيرس يصف الإبداع بأنه (الانتقال من المعلوم إلى المجهول). وأن الثقافة تمارس قوة سلبية على الإبداع، وانه لولا الإبداع لما وجدت الثقافة أصلاً. دونالد ايب وهو واحد من أهم منظري المواضيع المتعلقة بالدماغ البشري، يؤمن بأن كل كائن بشري لديه نوع من الإبداع، وان الإبداع لم يكن أبداً حكرا على المتميزين. أبراهام ماسلو يشير إلى أن: (تحقيق الذات، هو احتياج بشري ضروري للتعبير عما نملك من قدرات ومواهب فريدة لكي نصبح أو نحقق الإنجاز الذي نستحقه.. وأن تحقيق الذات يعتبر المحرك الذي يقودنا لإنجاز ما يمكن تحقيقه عبر قدراتنا وإمكاناتنا). ويعتقد، (أن كل فرد لديه قدرات خاصة أننا لكي نساعده في تنمية وتطوير تلك القدرات، فإنه يجب أن نهيئ البيئة التعليمية المناسبة، بمعنى أن تهيئ الأدوات التعليمية الكفيلة بصقل مواهب وقدرات الأفراد، كل حسب ميوله وماذا يريد أن يكون مستقبلا، فالرسام يجب أن نوجهه للرسم والذي لديه ميولٌ في الرياضيات يجب أن نمنحه مساحة اكبر في تعلم الرياضيات وهكذا مع باقي المهارات أو القدرات. وقد حدد ماسلو 15 صفة للأفراد الذين استطاعوا تحقيق ذواتهم، وشملت هذه الصفات ذات القيم العالية: قبول الذات، العفوية، الاستقلال، التسامح، الإيثار، الأخلاق، القدرة على حب الآخرين، والتواضع والتمتع بحس فكاهي رائع. موريس بيرمان (1989) قامت بتكييف نظرية فرويد وناقشت الكيفية التي تقوض في الطفل الصغير قدراته الإبداعية. ووجدت أن ذلك يتم من خلال ثلاثة معوقات: النوع الأول: يحدث عندما يتم عرقلة استكشافات الطفل الحسية، يتم ذلك من خلال قمع سلوكه الفضولي بحيث يتدنى ميوله في البحث والمشاركة لاكتشاف ما يدور حوله. النوع الثاني: يأتي نتيجة للاضطرابات النفسية، فبينما إبداع الطفل يبقى مستمراً إلا أن معاناة الطفل نتيجة اضطراباته النفسية والعصبية تعمل على كبح قدراته الإبداعية. النوع الثالث: يختفي الإبداع لدى الطفل نتيجة الصدمة العاطفية الناتجة عن القمع والتوبيخ أو الحرمان، ورغم ذلك فإن الإبداع يظل موجودا لدى الطفل وحتما قد يستطيع أن يعيد قدراته الإبداعية إذا ما وجد البيئة المحفزة والداعمة مادياً ومعنوياً. ونعتقد أن نموذج فرويد حول فهم طبيعة الإبداع لم يكن ذا فائدة، ويرجع ذلك إلى أن فرويد أجرى تجاربه على الأطفال غير العاديين. (فيرغسون، 1990، ص 18). (تنمية الطفولة) للمؤلف جوزيف بيرس شيلتون، يصف الإبداع بـ (الانتقال من المعلوم إلى المجهول). ويرى أن (الثقافة تمارس قوة سلبية على الإبداع، غير أنه يستدرك بالقول، (لكن لولا الإبداع، لما تخلقت الثقافة بنفسها). جوسيف بيس يؤمن بأن رفض (المثاقفة) أي قبول ثقافة الآخر والاستفادة منها، تكون من بين الأسباب التي تفكك وتخل بقدراتنا الإبداعية، ويوضح ذلك بقوله: (إن ثقافتنا الخاصة تجعل من غير المحتمل أن نعتبر أو نأخذ في الاعتبار أي شيء خارج حدود القبول الثقافي المحلي). وفي جانب آخر، بيرس يأخذ رأيا مخالفاً تماماً لبياجيه، فبياجيه ناقش الطفل في مقتبل عمر المراهقة، ووصف أنه يخضع في سلوكه وتفكيره لآلية (التكيف مع الواقع) كمرحلة أخيرة من (التفكير السحري)، وهذه حسب بياجيه تعتبر بداية النضج الحقيقي، بينما بيرس يناقش فكرة أن (التكيف مع الواقع) لبداية المراهقة، علامات تشير إلى بداية فقدان القدرة الإبداعية. ويرى أن الطفل في بداية التاسعة أو العاشرة من العمر، يبدأ في اعتماد نوع من المنطق الثقافي الذي يحدد واقعه الإدراكي والحسي. وفي عمر الرابعة عشرة يكون قد استوعب الواقع الثقافي، وأن الأفكار التي تقع خارج حدود القبول الثقافي تصبح عسيرة وربما مستحيلة. ويرى أن نظرته للعالم تصبح المحرر لكل تصوراته الداخلية). بيرس أيضا يرى أن (التثاقف) قد يفسد الإبداع لديهم لكنه لا يدمره. (بيرس، 1974، ص 1977). المؤلف جو كاتينا (1978)، يصف أربع قدرات للتفكير الإبداعي: 1) الطلاقة، وهي القدرة على إنتاج العديد من الأفكار لمهمة معينة. 2) المرونة، وهي القدرة على إظهار التحول المفاهيمي في التفكير النسبي لمهمة معينة. 3) الأصالة، وهي القدرة على إنتاج أفكار غير عادية أو ذكية، لا يفكر الكثير من الناس فيها. 4) التفصيل، وهو القدرة على إضافة التفاصيل إلى الفكرة الأساسية. [c1]الحواجز التي تحول دون الإبداع[/c]يشير ديفيد والانك (1993)، إلى أن هناك العديد من معوقات الإبداع، وأن العائق الرئيسي هو الصوت الصغير في رؤوسنا الذي يمنحنا كل الأسباب التي تجعلنا لا نستطيع أن نفعل شيئاً، أو لماذا لا نستطيع أن نعمل شيئاً. ويعتقد، (أن علينا أن نسكت هذه الأصوات أثناء المراحل الأولى من العملية الإبداعية). ويرى أن الأفكار المنطقية، والحرجة، والتحكيمية سوف تقلل من جودة العملية الإبداعية في بدايتها. ادواردز كما هو مقتبس لدى ديفيد والانك (1993) تقترح فكرة (أن اللغة نفسها قد تعيق التفكير الإبداعي). وتؤمن أن (التصور المباشر) هو جزء لا يتجزأ من تفكيرنا، وطريقة (للرؤية) دون الحاجة لاستخدام الكلمات. وترى أن (الخوف من الرفض) هو أحد العقبات الرئيسية التي قد تؤدي إلى تعطيل قدراتنا الإبداعية. ويؤكد روبرت هارس (1998)، أن (ردة الفعل حول مشكلة معينة تكون أكثر إشكالية وتعقيدا من المشكلة ذاتها). ويرى (أن الكثير من الناس يحاولون تجنب المشكلة أو إنكارها حتى فوات الأوان). والسبب حسب اعتقاده (أن هؤلاء الناس وإلى حد كبير لم يتعلموا الاستجابات النفسية والعاطفية والعملية الصحيحة لمواجهة المشكلة). فالمشكلة كما يتصورها، (هي في الواقع فرصة يمكن أن نتعلم وتستفيد منها). ويعتقد (أن أسعد الناس دائما يرحبون بمواجهة المشكلات واعتبارها (تحديا وفرصا لتطوير الأشياء). ويرى ان مواجهة المشكلة تجعلك قادراً على: 1 - رؤية الفرق بين ما لديك وماذا تريد. 2 - إدراك أن هناك شيئا ما أفضل مما لدي في وضعي الراهن. 3 - فرصة للعمل الإيجابي، حينما نحاول أن نخاطر في خوض المشاكل التي نتخوف منها، فإننا نقوي ثقتنا بأنفسنا، وننمي السعادة لدينا، وتعطينا أحاسيس جميلة تساعدنا في التحكم والسيطرة على حياتنا بشكل إيجابي). ويقول: إننا إذا سلمنا أنفسنا للمشكلة فإننا نمنحها القوة والمنعة التي لم تكن فيها من قبل. ولخص الموقف المناسب بالمقولة التالية: (ما يصعب علينا تحقيقه في البداية، سيكون مستحيلا إذا ما منحناه وقتا أطول). وهنا يشير إلى أن احد أشكال الإبداع هو التدخل السريع لحل المشكلة قبل أن تصبح حلولها مستحيلة. وهذا يسري على كل شيء في حياتنا، ومن ضمنها تطوير مناهج التعليم التي يراها أغلب الناس إشكالية كبيرة، بينما هي في واقع الأمر فرصة للتطوير والتحسين وحل للمشكلات التي لم تطفُ على السطح بعد. [c1]الإبداع يتجلى في قصيدة (بين نهرين يمشي)[/c]ولأن الموضوع يتحدث عن الإبداع فلا بد أن نجلب مثالا حيا لجماليات العمل الإبداعي، ولماذا يأسر أحاسيسنا ويحلق عاليا بمشاعرنا فتتوهج ذواتنا وكأنها تكتشف للتو الجمال الذي في دواخلنا، الجمال الذي لم نلامسه إلا بعد أن تجسده وتصفه لنا ريشة الإبداع البشري. اخترت لكم قصيدة من ديوان الشاعر الكبير أحمد فضل شبلول بعنوان (بين نهرين يمشي)، وهي قصيدة رثاء في فقدان والد الشاعرنا. يقول الدكتور حسان الشناوي في القصيدة، (ويكشف المقطع الأخير في مفرداته وصوره عن الوفاء في أجلى صوره، حين يؤمل المرء العودة، فيؤم ما يمكن أن يعيده اليها من أماكن، ويوضح (وكما في نصك طزاجة الصورة.. فيه أيضا وحدة الشعور ووقدته، وأسباب الفكرة في سلاسة وعفوية، كأنها قطعة من النفس البشرية وليست شعراً). ويختم: (لك الله من شاعر كبير، وإنسان كبير). وأتصور أن الشناوي قد أبدع في وصفه، (كأنها قطعة من النفس البشرية) انني أجد في هذه العبارة التشبيه الذي يجاري كلمات القصيدة، فالقصيدة تجسد (ضمنا) العلاقة البايولوجية والروحية والبيئية التي امتزجت مع كيمياء الحياة لتكون أحد المكونات الأساسية لجوهر الإنسان. فكأن الشاعر أراد أن يعبر عن مكنونات ذاته والتصاقها العضوي والنفسي والمكاني بالذات الأبوية عبر حقبة زمنية مديدة مليئة بتجارب الحب والبذل والعطاء والحزن والخوف والرجاء، وكانت الذات الأبوية تقف في كل ثانية ودقيقة وساعة، وعلى مدار هذه المساحة الزمنية الكبيرة إلى جانب الذات الصغرى محامية ومدافعة ومواسية، إنها تجارب مليئة بكل شيء، وهكذا نجد القصيدة تختصر هذه العلاقة، وهذا الفراق بكلمات يفوح منها الوفاء والحب والعرفان لتلك الذات النبيلة والنقية. والعجيب في القصيدة أنها قد تفهم على أن الأب المقصود في القصيدة هو الأب والوطن، كما تتصوره الدكتورة أمل الجمال. في الختام نحن أمام ريشة فنان مبدع استطاع من خلال عبقريته الشعرية أن يغوص في أعماقنا ليضيء فيها جماليات الحب والوفاء للإنسان (الأب والأم) الذين كثيرا ما نقسو عليهما أحياءً ونتجاهلهما أمواتا. [c1]القصيدة[/c]هناك .. على ساحةِ الروحِ حطت طيور الربيعِ، وغنت زهور البنفسج، وفرت من الحقلِ سنبلةٌ من هجيرٍ، فأطعمتها من رحيق الشروقِ، وقمت أردد شعري، ذاك الذي لم أقله لغيرِ الأحبة وجاءتْ شموسُ الصباحِ، تلفُّ الحروفَ، وتبعثُ دفءَ الحياةِ بقلبِ الصبي هناكَ .. رأيتُ أبي .. بين نهرين يمشي، ومن حولهِ كانت الأغنياتُ، وكان النهارُ يصلِّي رأيتُ أبي .. ولكنه لم يشاهدْ خطايَ إليهِ، وكانت تباعدُ بيني وبين حنانِ يديهِ طيورُ الظنونِ، ووهمُ الصحارى فناديتهُ، ولكنه كان يمضي إلى نهرِهِ، ولم يلتفتْ للنداءِ الجريح وقفتُ على حافة الحلمِ، وبين امتدادِ الطريقِ، وعمقِ السؤال تدور العيون تعود إلي بغير اليقين فهل ضاعت الأرض تحت الخطأ؟ وهل تاهت الموجة الخالدة؟ رأيت أبي .. يصاحبُ تلك الحقولَ التي أَفْرَرَتْ سنبلةْ، من العودِ والريحِ والأسئلة، فأطعمتها من رحيق الشروقِ، وأسقيتها من مياهِ القلوبِ التي كنتَ تسقي فهل أغضبتك رياح الحصادِ، وهل أسلمتك السواقي إلى كلِّ هذا الخصامْ ..؟ رأيتُ أبي .. لا ينام وفي كمهِ زهرةٌ من وئام فناديتهُ .. ولكنه كان يمضي بعيدا إلى نهره والأغاني تعبد درب المساء، فقلت : أعود إلى شاطئي، لعل البحارتجيء بوشوشةٍ من نداءِ أبـي. [c1]الخلاصة[/c]يرى طيف من علماء الاجتماع أن الإبداع وتنميته يجب أن يكون الغاية العظمى لمجتمعات العالم الرقمي المعاصر، واعتباره المجال الأهم للتنمية البشرية. والتحذير من أن طرق الرؤية التقليدية للعالم في التعامل مع القضايا الاجتماعية المعقدة لم تعد مناسبة، وأنه حان الأوان إلى استحداث طرق ومناهج أكثر إبداعا لحل مشاكلنا، ويؤكدون أن دعم وتطوير قدرات الإبداع لدى الأفراد ستكون الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح. ونحن كعرب وكمسلمين يجب أن يكون لدينا الإرادة في مواجهة تحدي التردد في تطوير مناهجنا الدراسية بحيث تشمل وسائل ومقررات تحفز لديهم الدافعية للتعلم النوعي الشامل، وتحثهم على التفكير الإبداعي والتحليل النقدي والتأمل وحل المشكلات، انطلاقا من المسلمة التي موادها أن أبناءنا أمانة في أعناقنا وأنه لذلك يجب ان نؤهلهم للنجاح والعمل كل وفق قدراته التي يجد ذاته فيها والمتناغمة مع متطلبات مكنة سوق العمل. هذا بالاضافة الى أننا يجب أن ننوع من تعدد المهن الوظيفية وذلك من خلال دعم وتشجيع الانخراط في الألعاب الرياضية بكل أنواعها، والهدف هو استغلال قدرات البعض الذين يجدون صعوبة في مواصلة تعليمهم، وليس أمامهم الا ان ينخرطوا في الألعاب التي تناسب قدراتهم أو الضياع. ولذلك فنحن حينما ندعم ونشجع الأقل ميولا لمواصلة تعليمه في المهارات التي يبدع فيها، فإننا نوجههم للاستثمار في قدراتهم وبالتالي نحن آليا ندفعهم للانشغال بتطوير هذه القدرات واعتبار الإبداع فيها ارتقاءً بذواتهم وصولا لـ (تحقيق الذات) وهو (الاحتياج) الذي يضعه أبراهام ماسلو في رأس هرم الاحتياجات الأساسية للإنسان، وانعكاس ذلك بشكل إيجابي على سلوكهم وانضباطهم واستمتاعهم بالحياة.
|
ثقافة
الإبـــداع .. ضـرورة اجتماعيـة
أخبار متعلقة