يوم دمعت عينا أبوبكر سالم بلفقيه وقال «هذه عدن»
[c1] كتب/نصر مبارك باغريب[/c]اعتقدت للوهلة الأولى أن النبأ السعيد الذي أنتشر همساً بين أعضاء وفد جامعة عدن للسعودية في مقر إقامته لا يعدو أن يكون مجرد إشاعة أو تمنٍ داعب مخيلة من أطلقه، ولابد أن الخبر غير جدي رغم أنه شق مساره بيننا كالنار في الهشيم.وسبب اعتقادي المسبق هذا، هو علمي أن برنامج عمل أعضاء الوفد أثناء زيارته العملية القصيرة للمملكة العربية السعودية (الأسبوع الأول من شهر مايو2012م)، مزدحم باللقاءات الأكاديمية المكوكية والمباحثات الطويلة، والزيارات الاستطلاعية والعلمية، وبإبرام الاتفاقيات الجامعية، وكلها أمور مجهدة للذات ومقيدة لها بالرسميات المعتاد عليها في هكذا أمور برتوكولية.غير أن الأمر هذه المرة لم يكن خبراً أو إشاعة عابرة، بل معلومة حقيقية..، وليطمئن قلبي أكثر سألت منسق برنامج الوفد وسكرتير مجلس أمناء جامعة عدن “الدكتورأبوبكر محمد بارحيم”، الذي أكد لي أن رئاسة الجامعة ممثلة برئيسها الدكتور/عبدالعزيز صالح بن حبتور بصدد تكريم الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه بدرع الجامعة تقديراً لدوره في تطوير ونشر الأغنية الحضرمية واليمنية وتأسيسه لمدرسه فنية متميزة يستلهم كل الباحثين والدارسين منها درر الإبداع والرقي الفني القادم من تاريخ وتراث حضاري أصيل.[c1]لحظات الانطلاق بالسيارة[/c]تجهز الكل على عجالة، وهالات الحبور تنضح من الوجنات والمآقي، وكلنا إمتنان لايوصف لمن بادر بترتيب هذه الزيارة المفاجئة لنا والتي لم تخطر على بال أحد منا، فرتابة برنامج الزيارة العملية وازدحامها المرهق، ستترك لنا أخيراً نزهة مقتضبة لإظهار ذلك الإنسان ومشاعره التي تتوارى فينا أثناء ممارستنا للطقوس البروتوكلية والعملية الصنمية..، فقد حان الآن المجال لها دون مواربة. استقللنا ثلاث سيارات، توزع أعضاء الوفد بداخلها دون ترتيب بروتكولي، دارت عجلاتها التي ستقلنا إلى مقصدنا المأمول للالتقاء بأبي أصيل لتكريمه من جامعة عدن، وكل منا يناجي نفسه بكيفية استغلال هذه الفرصة التي لن تتكرر لأغلبنا - حسب اعتقادي - للتعرف على “بلفقيه” مباشرة دون وسيلة اتصال أو موانع جغرافية، بعد أن عرفناه حيناً من الدهر عبر الأثير المسموع والمرئي، وحكايات الرواة وكتابات الصحفيين.انطلق الركب بتتابع سيارة تلو الأخرى وكان نصيبي أن أستقل السيارة الأخيرة، وظني إن السيارتين اللتين تتقدماننا لن تتمكنا من بلوغ مآلهما قبل سيارتنا، إلا أن ظني لم يكن في محلة بداية الأمر ولكنه أصاب في النهاية، وبينما السيارتان اللتان تصدرتا سيارتنا تتسارع سرعتهما بالسير، كان يبدو لي أن سائق سيارتنا غير مكثرت بسرعة الوصول وظل يلتفت يمنة ويسرة وكأنه يبحث عن شيء فقده.أردت أن أصرخ بوجه السائق الذي يقلنا على سيارته بعد أن شاهدته يسوق الهنيهة، ثم يتوقف فجأة على جانب الطريق ويترجل من السيارة متثاقلاً بجسمه الضخم ليملأ خزان السيارة بالوقود بكل هدوء بال، ولم يعر أحداً منا اهتماماً يذكر، فتمالكت نفسي التي كادت أن تخرج عن طورها الهادئ المعتاد، - وأظن أن صحبتي بهذه السيارة يشاطرونني تلك المشاعر - ، تمتمت بداخلي اصبر..اصبر، وبالصبر تنال الأماني..، فالموعد المقرر للقاء لم يحن بعد. ورغم وجود رحابة موجزة من الوقت حتى نصل بالوقت المعلوم بيننا إلا أن القلق من التأخير أو تجاوز الموعد المحدد سلفاً ظل هاجسي الذي لم أتخلص منه حتى التقائنا بـ “بلفقيه” وجها لوجه في داره بمدينة الرياض الجميلة.انطلقت بنا السيارة قاطعة شوارع عاصمة المملكة العربية السعودية “الرياض”، تنساب طولياً ثم تنعطف شمالاً ثم تساق مهرولة يميناً، وما تلبث أن تختط طريقها مجدداً للإمام..، أحسست أني لم أعهد طريقا طويلاً كهذا من قبل، حتى وأن كان جمال شوارع المدينة وتنسيقها وأشجارها وورودها المتناثرة على جنبات الطريق أو داخل المساحات الأفقية الممتدة بين اتجاهاتها تشد الناظر اليها وتسعده، إلا أن تطلعي حينها كان يشرئب للقاء “الأصيل” أبو أصيل، وكنت أطالع بتوجس ساعة يدي، ثم أختلس النظر لساعة زميلي الجالس إلى جواري بالسيارة لأتأكد أن عقارب ساعتي لاتختلف عما تشير إليه دقائق وثواني ساعته. [c1]الابتسامة علامة الترحيب[/c]وقبل أن يتسرب اليأس إلى نفسي من طول الرحلة على هذه السيارة السلحفائية وسائقها المتمهل، بلغنا مبتغانا، وعندها ارتفعت معنوياتنا كثيراً خاصة بعد أن وجدنا السيارتين اللتين أقلتا بقية وفد جامعة عدن، تنتظراننا خارج أسوار المنزل المنشود، في موقف تضامني رائع مع سيارتنا المتأخرة وركابها الصابرين عليها وعلى سائقها، ترجل الجميع عن مقاعدهم بالسيارة مسرعين، ولم يلتفت أحد إلى رفاقه فالكل يحث الخطى مهرولاً إلى باحة فيلا “بلفقيه”.وجدنا شخصا بجوار باب المدخل الرئيسي للفيلا ينتظرنا ويدعونا بابتسامة للدخول، ويؤشر لنا عن مكان المدخل لقاعة الاستقبال الخاصة، وفيما نحن نهم بالدخول واجهنا في باحة الفيلا شكلاً تعبيرياً بديعاً محفوراً على الجدار الداخلي لفناء الفيلا، وهو عبارة عن مجسم تشكيلي لآلة العود العربية بحجم يتجاوز خمسين مرة حجمها الطبيعي المعتاد، فأعجبنا بهذه الاستهلاله، وكأنها رسالة موجهة لكل الزائرين، تختزل بتعبيرها الفني التعريف بصاحب المنزل وهويته.وتدل التحف التي تزين قاعة الضيوف على حب وتعلق “بلفقيه” بمدن عشقها حد الثمالة، فنرى على رفوف زجاجية وضعت في يمين قاعة الاستقبال، مجسمات صغيرة لمنارة عدن، ولمنارة مسجد المحضار بتريم، ولقصر سيئون، ولحصن الغويزي بالمكلا، وقلعة صيرة..إلخ، فيما زينت الجدران بصور للحرم المكي والمسجد النبوي الشريف، وكلها علامات تذكر فناننا الكبير بأماكن عاش فيها وله ذكريات جميلة فيها، ولازال قلبه متعلقاً بها ويهيم بحبها.وما أن أخذنا أماكننا بقاعة الضيوف المتواضعة، امتزجت لدينا بهجة اللقاء مع إحساس الانجاز بتحقيق حلم خلته ردحاً من الزمن صعب المنال.نعم إني أقف الآن أمام الموئل الخاص لفنان كبير، بل ظاهرة خاصة في الإبداع الفريد للفن والغناء والأدب، استطاع دون منافس اقتحام قلبي والتعبير عما يجيش فيه بانسجام عجيب مع خلجات مكنونات نفسي..، فكلما شنفت أذناي لسماعه يخفق فؤادي مع نغماته، ويترنم وجداني لصوته الطروب، وتداعب ألحانه المحملة بكلماته أعماق أحاسيسي..، “لقد أسس بلفقيه بشهادة الباحثين وكبار الأدباء والفنانين مدرسة فنية متفردة مهدت الطريق للجيل الجديد أن يستلهم إبداعها وينهل من كنوزها”.[c1]مدرسة فنية خاصة[/c]ها نحن وجها لوجه مع “بلفقيه” في غرفة استقبال الضيوف تبادلنا السلام والتحيات، وتلقينا عبارات الترحيب بصدور خافقة بالفرح وبعيون تشع إشراقًا وسرور، قعدنا وكل منا يحاول أن يحتل مقعدًا قريبا من مضيفنا لعله يحظى بحوار إنساني خاص معه، وكان حظ الدكتور/عبدالعزيز صالح بن حبتور قد دمغ بموقعه الرسمي وأستحوذ برضا وإلحاح الجميع على مقعد الصدارة وجاور مضيفنا “بلفقيه” بالجلوس إلى جانبه، في حين توارت مشاعر الحسد عنا وراء الضلوع وحل الإيثار بدلاً عنها مهنئين له على هذا التميز الذي حظي به الشخص الذي كان له السبق في تجسيد حقيقة هذه اللحظات التي لا تتكرر في حياتنا كثيراً، وأحال تطلعاتنا الإنسانية النقية بهذا اللقاء إلى حال نعيشه برهبته وسعادته الآن.أجزم قطعيا أن أحداً منا لن يستطيع حتى اللحظة أن يفسر كيف بدأ اللقاء ومن بدأ الحديث فيه، وكيف كسر حاجز اللقاء الأول مع “بلفقيه” رغم عدم المعرفة المسبقة لنا معه، فالحديث انساب تلقائيا وكأن الصداقة والمعرفة تربطنا بالفنان/أبوبكر سالم بلفقيه منذ زمن طويل، وذكرياتنا كادت أن تكون متشابهة لتشابه البيئة والتاريخ الشخصي لبلفقيه مع بيئتنا جميعاً.فكل من تذوق الفن الأصيل من معينه الدافق الصافي، لابد وأنه تزود ونهل من مدرسة أبوبكر سالم بلفقيه، وتشرب من زلال أغانيه العذبه، وتناجى مع كلماته ودندناته بسرورها وتنهداتها وأناتها وصبابتها بوجد، فكل ما أردنا أن نفضح أحاسيسنا تجاه محبوبتنا استمعنا إليه، وعند الهجر والغربة عن الوطن لم نجد غير صوته لنأنس به، ذلكم الصوت الذي عبر بصدق عن معاناة البعد عن الأحبة والأهل ومراتع الصبا.في هذا اللقاء في منزل الفنان بلفقيه حاول كل فرد منا أن يتحدث مع عملاق الأغنية العربية والعالمية، تحدثنا عن أشياء ليست ذات أهمية، فالمهم في حديثنا مع أبوأصيل كما اعتقدنا كلنا في قراره أنفسنا ليس مضمون الكلام وإنما الحديث بحد ذاته مع من أحببنا فنه وإبداعه وتفرده عن غيره في هذا الفضاء الرحب في سماء النغم والكلمة والأحاسيس المرهفة.[c1]أحاديث وذكريات العمر[/c]جاشت مشاعر ابوبكر بلفقيه وحدثنا عن نشأته الأولى في مدينة تريم حضرموت، وقيامه وهو لم يتخط بعد أعوامه العشرة بالأذان للصلوات بالمسجد المجاور لدار أهله وقيامه بتلك السن المبكرة بأداء الأناشيد الدينية والموشحات، معتذراً من خلالنا من جيرانه في مدينة تريم الذين أزعجهم بصوته العالي وهو طفل وفي أوقات غير مناسبة - حسب قوله-.قال لنا الفنان بلفقيه انه تعلم القرآن الكريم، ودرس اللغة العربية بمدينة العلم والحضارة تريم حضرموت في طفولته، واجتهد بدراسته وتفتقت مداركه مبكراً لإحساسه بأن الدراسة وسيلة صحيحة لفهم الحياة التي لم يعشها “أبوبكر سالم بلفقيه” مع والده الذي توفي وهو لم يتجاوز الأشهر التسعة من عمره، وقد سماه أبوه “أبا بكر” بعد أن رأى رؤية من لدن آل الشيخ أبوبكر مولى عينات تدعوه إلى تسميه المولود الجديد بـ“أبي بكر”.وأجاد “بلفقيه” التجويد للقرآن والنحو والصرف للغة العربية وعروضها وقواعدها وبحورها، ونظم الشعر وهو لم يزل في سن الطفولة، وعرف طرق الإنشاد، وأتقن بتميز نادر أداء الأصوات بطبقاتها ومخارجها المتعددة، وتشبع بالتراث الحضرمي الغني بألوانه الغنائية والإيقاعية والموسيقية والشعرية خلال مرحلة صباه الأولى بمدينة تريم الغناء، وهي مداميك صلبة لتكوينه، استفاد منها كثيراً جداً وصقلها وطورها وأبدعها في فنه فيما بعد. انتقل ابوبكر سالم بلفقيه إلى عدن للعمل كمدرس للغة العربية ولم يزل هاجس الفن يمور في وجدانه وعقله، عمل بالتدريس بعدن وانخرط في الوقت ذاته بالفن ليعبر عما يختزل في صدره وقلبه من أحاسيس مفعمة بالحب والجمال، غنى لمدينة عدن التي أحبها ولازال، غنى للحب والمحبين، غنى للإنسان.[c1]عدن الانطلاقة الأولى[/c]عاد بلفقيه بذاكرته وهو يحدثنا عن عدن في حقبة الستينيات من القرن الماضي، وذكر لنا إنه بالإضافة لعمله كمدرس للغة العربية، أشترك بعضوية فريق نادي القطيع الرياضي الثقافي بكريتر ولعب كرة القدم معه، وكان يقيم حفلات غنائية يذهب ريعها لفريق القطيع العدني “سعر تذكرة دخول الحفلة الفنية حينها خمسة شلن”.وقدم فناننا أبوأصيل في تلك الحقبة الزمنية عدة أغان خالدة بلغت من الشهرة مبلغاً عظيما وطاف بعدة مسارح شعبية بكريتر والشيخ عثمان ودار سعد، وشارك بالعديد من الاحتفالات الغنائية مع كبار الفنانين والأدباء حينها في المدينة (محمد مرشد ناجي، وأحمد قاسم، ومحمد سعد عبدالله، والشاعر لطفي جعفر أمان..إلخ)، وسجلت أغانيه بإذاعة عدن.كانت النكتة حاضرة في حديثتا وتعليقاتنا خلال اللقاء، قلنا له، أنت يابلفقيه عاصرت الفنان محمد مرشد ناجي أي أنك بعمره، ضحك..وقال لا الفنان المرشدي أكبر مني بعشر سنوات (عمر المرشدي الآن 84 عاماً).جاء ذهاب “بلفقيه” مع فريق نادي القطيع من عدن إلى مدينة المكلا للتباري الرياضي مع فريق المكلا الرياضي بحضرموت فرصة مهمة للانتشار الفني، حيث أحيا “بلفقيه” بالمكلا حفلاً غنائيا كبيراً شكل له فتحاً فنياً جديداً لدخول قلوب المكلاويين بحضرموت، وجنى منه نحو ألف شلن، ولكن الأهم من ذلك - كما قال لنا - هو ربح بلفقيه ألف بسمة وبسمة، وكذا التعرف على الشاعر الكبير الفقيد/ حسين أبوبكر المحضار.[c1]المحضار الشاعر الخجول[/c]قال لنا “بلفقيه” مواصلاً ذكرياته عن تلك الحفلة الغنائية التي أحياها بالمكلا: “عقب انتهائي من تقديم فقراتي الغنائية على مسرح المكلا، في ختام مباريات فريق نادي القطيع العدني وفريق المكلا بمدينة المكلا، إذا بشاب خجول يقف خلف المسرح يتقدم ناحيتي ويناولني عدة أوراق ويقول لي هذه قصائدي، هذه أشعاري، أنظر إليها وأختر ماشئت منها لتغنيها”.قال “بلفقيه” أعجبت بأربع قصائد من جملة القصائد التي قدمها المحضار لي “وهنا تنهد بلفقيه وترحم على الشاعر المحضار”، قال “بلفقيه” المحضار كان شاعرا كبيرا ومبدعا، وقد اخترت أغنية “رمز عينه” وأغنية “يازارعين العنب”، و “ما على الحاسد ملامة”...إلخ، وجاءت بعدها مباشرة فرصة ذهابي إلى لبنان وسجلت هذه الأغاني وغيرها هناك في أول أسطوانة لي سوقت على المستوى العربي، وأضاف بالقول: ما أن نسخت تلك الأغاني باسطوانات شمعية حينها حتى تهافت عليها الناس لشرائها من كل مكان وأعجبوا بالأغاني أشد الإعجاب.وقال بلفقيه: “أعجبت حينها بشعر “المحضار” ومالفت نظري رهافة أحاسيسه وإبداعه بالمعنى الشعري، فتعبيره بقصيدته مثلاً: “رمز عينه” في الأغنية كان تعبيراً جديداً ورائع، ولم يسبقه أحد إلى هذا التعبير، فكل الشعراء من قبله يرددون عبارة “رمش عينه” ولكن المحضار جاء بشيء جديد وهو مالفت الأنظار إليه، وأثار إعجابي به، وهو مادعاني بعد قراءتي لهذا التعبير أن أقول دوروا لي على المحضار أريد أن أغني شعره”.وتشارك “بلفقيه” مع “المحضار”، كما صرح بذلك لنا أبو أصيل بأحاسيسهما المرهفة، وهمهما الواحد، وشعورهما الدائم بالغربة عن الوطن والأهل والأصدقاء، وقال: “الغربة أثرت علي كثيراً..كثيراً، وظهرت جليا في فني”، توقف بلفقيه هنا وصمت قليلاً وكأنه يحدث نفسه بما صدح به في إحدى أغانيه:واويح نفسي لا ذكرت أوطانها حنت حتى ولو هي في مطرح الخير رغبانة وعلى الموارد لا جات للشرب تتنغص قدها مقالة شرب النغص يتعب الإنسان لدموع تجري من طولة البين ما كفت والفكر حاير والجوف يشعل بنيرانه[c1]ميلاد أغنية وأهل عدن[/c]وسرد لنا “بلفقيه” كيف يأتيه إلهام تلحين أو كتابة بعض أغانيه، مستذكراً ولادة إحدى أغانيه وهو يقود السيارة بمعيه أحد أصدقائه أثناء توجههما من مدينة جدة إلى مدينة المدينة “طيبة”، وقال: بينما كنت أقود السيارة تفجرت قريحتي بكلمات القصيدة وألحانها ونحن سائرون بالطريق كنت أنا أدندن بلحنها وما أن وصلنا إلى المدينة كانت الأغنية جاهزة للإعداد النهائي لبروفات الأداء.وتذكر “بلفقيه” خلال حديثه معنا عن عدن وأهلها وحالها زمان، والآن، تذكر أصحابه بعدن من الفنانين والأدباء والناس البسطاء، وكذا الشخصيات السياسية التي لازالت بمعترك السياسة حتى الآن، وقال: محمد سالم باسندوة، وعبدالله الأصنج زملائي ولي مواقف وذكريات معهما، وشاءت الأقدار أن يسير كل إنسان بطريق مختلف عن الآخر فأنا اخترت الفن والأدب، وهم اختاروا السياسة، ولكنه أستدرك بالقول: “السياسة وجع رأس..السياسية وجع رأس.. أيش نبغي منها”، في إشارة منه إلى أن السياسية في اليمن لم تجلب للناس سوى الماسي والفرقة.غير أن الأوضاع السياسية وإفرازاتها الاقصائية والتصادمية التي شهدتها عدن أواخر الستينيات من القرن العشرين - كما ذكر لنا بلفقيه - أدت إلى هجرة ابوبكر سالم بلفقيه إلى بلاد الخير المملكة العربية السعودية، وفور وصوله إلى مدينة جدة بالسعودية عرض عليه العمل بالتدريس لمادة اللغة العربية بمدارس الفلاح غير أن القدر أختط له وجهة أخرى، فعندما علم أن راتب المدرس وقتذاك مائتي ريال سعودي فقط، وهو مبلغ لايفي باحتياجاته، والجهد المبذول في تدريس النحو والعروض وقواعد اللغة، كما قال لنا بلفقيه خلال لقائنا به، وكشف لنا بأنه حدث نفسه حينها بأنه يمتلك حنجرة وصوتاً وقدرة على الإبداع الفني بالغناء وكتابة الشعر وهو مجال يمكن أن يحقق ذاته من خلاله.[c1]دندنة أدمعت العيون[/c]بلكنة عدنية اخترقت شغاف فؤاد العاشق لعدن تحدثت “د. مهجت” عن عدن وبساطة الناس فيها وحب أهلها لفن بلفقيه، وانتظارهم الدائم لكل جديد تجود به قريحة الفنان أبو أصيل بين الفينة والأخرى، وعلى ميعاد زمني امتد منذ ستينيات القرن الماضي إلى دزينة السنوات المنصرمة من القرن الجاري.تنافس الجميع محاولين كسر احتكار القول للدكتورة/ مهجت واغتنام فرصة قد لاتتكرر مرة أخرى، للحديث مع بلفقيه، فالكل يريد أن يتكلم معه وإيجاد ذكرى مشتركة معه ليحقق شيئاً من أمل مختبئ في النفس للاقتراب من هذا الفنان الذي سحر بفنه كل من استمع إليه، وأطرب النفوس ودغدغ الأحلام، تداخلت الأحاديث وتبارى الجميع لكسب انتباه بلفقيه وأسمعوه قصصا عن عدن وناسها ونكاتا رائعة فيها، وتخللت القهقهات وأزيلت الرسميات وبات الجميع كأنهم على معرفة طويلة ببلفقيه والتقوا معه ببساطة أبناء عدن وسليقتهم المعروفة، ونقاء سريرتهم وبساطتها.شنف الفنان بلفقيه كل حواسه وهو يستمع لحديث الجميع عن عدن وساكنيها واعتزازهم بفنه، فقد كانت محطة انطلاقته الأولى إلى آفاق الفن الرحيبة في الخليج وبلاد العرب الفسيحة كل الحاضرين من جميل الكلام إلى بديع الغناء والإلحان، فمن غير بلفقيه يستحق أن نشدوا بفنه، فدندن الجميع بمشاركة من استحسن بنفسه صوته أغنية “يازرعين العنب ما باتبيعونه.. صبر على الصبر ساعة..عسى بعد الصبر تشرب من الحالي والصبر عند العرب طاعة....، وأغنية “ياسهير العين لك أيام مسهونة...برقت عينا “بلفقيه” وفضحت مشاعرة التي أجتهد أن لايظهرها لنا منذ أن ولجنا إلى منزله مساء ذلك اليوم من شهر مايو2012م، والمعرف يعلن وصول أُناس من عدن لزيارته في بيته بمدينة الرياض بالسعودية، وأغروغرت عيناه بالدمع وتدلت دمعه تلتها دمعه، أخرى على وجنتيه، وأنكشف للجميع حجم التأثر الكبير لـ “بلفقيه” ولقلب فنان مشبع بالأحاسيس الشفافة بتلقائية براءة الأطفال وعمق مشاعر الفلاسفة والعشاق الكبار.تنفس بلفقيه بعمق وعيناه ممتلئة بالعبرات، والآهات تسبق كلماته وذكرى البعد يتذوقها كالعلقم في نفسه وقال بفرحة الملاقي بعد البعاد “هذه هي عدن ،هذه عدن،هذه عدن ، لقد أعدتموني إلى عدن وذكرتموني بأهلها الطيبين وأيامي الجميلة التي عشتها في هذه المدينة الطيبة التي عشقها كل من سكنها وتلحف بسمائها وداعب مياه بحرها وأصبح جزءاً من مكوناتها، هذه المدينة احتضنت كل من قطنها ووهبت حبها لكل من قدرها واحترم أهلها”.وقال: “إن شاء الله أزور عدن عندما تتحسن الأحوال فيها، وتتحسن صحتي وألتقي بأهلها الطيبين، وأزور المسكن الذي سكنت فيه”، سكن العزبة في منطقة الخساف أو بسكن العم بشارع أروى بجوار السينما الأهلية بكريتر، وتحسر على ماآلت إليه الأوضاع في عدن والوطن عموماً، داعيا الله أن تصلح الأمور ويعم الأمن والاستقرار والخير في اليمن.وفي سكنه الجميل ومزرعته الأثيرة ومحبيه الكثر في مدينة الرياض، بقي “بلفقيه” يحس بمرارة الغربة رغم السنوات الطويلة التي عاشها في الاغتراب بعيداً عن دياره وربعه وذكريات طفولته وشبابه، ولكن يبدو أن البعد عن الوطن ومسقط الرأس عند “بلفقيه” ظل مصدرا لألم وأسى دائم عند هذا الفنان الرقيق، فالوطن عند الفنان هو الحياة والإلهام والأمل. وكان حب الجمهور والعطاء الفني المميز لـ “بلفقيه” هو السلوى له، والبسلم الشافي لكل قلوب مستمعيه الذين كانوا ولازالوا ينتظرون كل عام بلهفة المحب الواثق انهمار إبداع “بلفقيه” بقطرات من الندى المعطر بالشذى العابق، وبعبارات أحلى من الشهد تترنم بألحان تتنادى مع انبعاجات النفس، تنساب إليها دون الحاجة لاستئذان لتفتح قلاع أي قلب نابض ولو أوصد بحجارة القسوة الصلدة واللامبالاة، فصوت بلفقيه وحده كفيل بأن يحيل صحراء القلوب إلى واحات تزخر بالحياة والإنسانية المفرطة.[c1](علمتني الحياة،) جديدي[/c]وهلت علينا مفاجأة رائعة عندما أعلن لنا الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه بتصريح له بأنه يحضر حاليا لغناء عدد من الأغاني الجديدة، وسيستكمل إعدادها لحنا وتوزيعاً بعد عودته من الخارج لإجراء عملية جراحية في القلب في شهر يونيو2012م.وقال: لقد اخترت عدة قصائد شعرية لشريطي الغنائي الذي أعده حالياً، ولعل أجملها قصيدة لشاعر مغمور أسمه (مصطفى حمام)، وأنا بصدد الانتهاء من تلحينها بلحن ذي صبغة يمنية شاملة وفيه دانات، والقصيدة طويلة وتحمل مضامين إجتماعية وسياسية..إلخ، وهي بعنوان “علمتني الحياة”.وكشف لنا عن جزء من أبيات قصيدة “علمتني الحياة” وهي كما سمعتها منه مباشرة تقول:رأيت الرضا يخفف ابداني ويلقى على الماسي سدولهوالذي ألهم الرضا لا تراه أبد الدهر حاسداً أو عدولَ علمتني الحياة بأني مهما أتعلم فلا أزال جهولأكثر الناس يحكمون على الناس وهيهات أن يكونوا عدولَفلكم لقبوا البخيل كريمَ ولكم لقبوا الكريم بخيلَأعطوا المُلحَ فأغنوه ولكم أهملوا العفيف الأصيلَرب عذراء حرة وصموها وبغي قد صوروها بتولَوقطيع اليدين ظلما ولص أشبع الناس كفه تقبيلَيوم سنَ الفرنج كذبة أبريل غدى كل دهرنا أبريلَنشروا الرجس مجملاً فنشرناه كتاباً مفصلَوأخذنا القبح منه ؟؟؟من الطيبات إلا قليلَعلمتني الحياة أني مهما أتعلم فلا أزال جهول......إلخ[c1]كنت أود أن لاينتهي اللقاء[/c]قبل نهاية اللقاء تمنى الدكتور.عبدالعزيز صالح بن حبتور للفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه السلامة والشفاء ونجاح العملية المزمع أن يجريها بلفقيه في يونيو2012م، وأن يعود لإكمال تسجيل أغانيه الجديدة التي ينتظرها جمهوره بشغف، أنتهى اللقاء مع “بلفقيه” وكأنه حلم وردي أردت أن لاأستيقض منه، وكنت أود أن لا ينتهي الوقت، ولكنها مواقيت معلومة تحكمنا، ولن نستطيع أن نوقف عقارب الساعة أو نرجعها للخلف أو ندفعها إلى الأمام، وكُلل اللقاء بقيام الدكتور/عبدالعزيز صالح بن حبتور بمراسم منح درع الجامعة وشهادتها التقديرية للفنان أبوبكر سالم بلفقيه، وودعناه على أمل اللقاء في قادم السنين ان شاء الله.كان حاضراً وشاهداً على هذا اللقاء مع الفنان أبوبكر سالم بلفقيه، كل من الدكتور/عبدالعزيز صالح بن حبتور رئيس جامعة عدن، والدكتور/محمد أحمد العبادي نائب رئيس الجامعة، والدكتور/صالح مبارك بن حنتوش عميد كلية الهندسة، والدكتور/مهدي أحمد الحاج عميد كلية الصيدلة، والدكتورة/مهجت أحمد علي عميدة كلية طب الأسنان، والدكتور/فضل ناصرمكوع رئيس نقابة التدريس بالجامعة، والدكتورة/نوال عبدالله سالم رئيسة مركز الحاسب الآلي بالجامعة، والدكتور/أبوبكر محمد بارحيم مدير مركز الاستشارات الهندسية، والدكتور/أمين باوزير أستاذ زائر من جامعة عدن إلى جامعة الملك سعود، والأخ/نصر مبارك باغريب مدير عام إعلام الجامعة، والشيخ/حسين باهميل الأمين العام للجالية اليمنية ومدير مكتب الجامعة بالسعودية، والأخ/محمد عوض طالب التدريب العملي بكلية طب الأسنان بالجامعة، وأحد مسئولي السفارة اليمنية بالرياض وعدد من محبي بلفقيه من حضرموت والرياض.