كتب/إلياس خلفتزخر الآداب العالمية بصورة الأم الرؤوم التي تضحي بنفسها في سبيل أبنائها ، و تشكل هذه الصورة هاجساً في تجربة الأديب مهتدي مصطفى غالب الذي نذر إبداعاته للإنسانية و الوطن .و لكننا في عجالتنا هذه سنسلط الأضواء النقدية على تمظهرات صورة الأم المفدية في أقصوصة قصيرة جداً موسومة بـ( بكاء)، و هذا نصها :[c1]( ركضت عصفورة أمام ابنها، و قالت له : سابقني .حاول أن يسبقها، لكنها سبقته إلى لقاء طلقة الصياد.)[/c]تنضوي هذه الأقصوصة تحت جنس أدبي عريق عرف بـ( Epigram) الذي يعني باللغة اليونانية : (النص المنقوش على النصب التذكارية و تماثيل العظماء )، و لكن سرعان ما تطور هذا الكلام المنقوش فغدا نصاً، منظوماً أو منثوراً، وجيزاً طريفاً ذا أغراض مدحية، أو قدحية، أووعظية .عرف الشاعر الرومانسي البريطاني كولريدج هذا الجنس الأدبي قائلاً : ( إنه بناء لغوي مقتضب ... كلماته قليلة ، لكن مراميها بعيدة ). في أضواء هذا الجنس الأدبي، يمكننا القول إن هذه الأقصوصة تبرز مديحاً للعصفورة المسكينة التي لا حول لها و لا قوة مقارنة بالصياد و آلة القتل التي يصوبها نحوها و نحو وليدها . و الجدير ذكره هنا أن غريزة الأمومة الصادقة التي تموج في أعماقها تأبى أن تبث الرعب في نفس ابنها، فتحول مشهد الخطر و العنف إلى لحظة مداعبة، إذ تدعوه إلى لعبة السباق.فيشكل سباق العصفورة إلى الموت انتصاراً معنوياً لأنها فدت فرخها بنفسها بعد أن استسهلت الموت في سبيل فلذة كبدها، أو كبدها على حدّ تعبير الشاعر حطان بن المعلى . بيد أن عاطفة الأمومة لدى عصفورة الأديب : مهتدي غالب تفوق عاطفة الأبوة التي تحدث عنها حطان بن المعلى في قوله :[c1]إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرضِلو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمضِأجل ، لقد آثرت العصفورة الموت الزؤام ، لأنها لا تستطيع رؤية فرخها صريعاً أمامها.و يظهر البعد القدحي في الأقصوصة حين يقتصد أديبنا في وصف مأساة الإرهاب هذه، أذ إنه يفرد لها كلمتين فقط : ( طلقة الصياد)، ما من شك في أن وظيفة كلمة ( الصياد) بوصفها مضافاً إليه تعزز صورته السلبية، لأنه مجرم مدان، فقد حرم العصفور من حنان أمه ، فالأم نعمة من نعم الله التي أسبغها على مخلوقاته.و يتراءى مغزى هذه الأقصوصة في احتفائها بصنيع هذه الأم الفدائية التي تأنف أن تتكتف و ترى وليدها يلقى أمام عينيها . إن هذه الأقصوصة تحضنا على الانتصار لبلادنا و الدفاع عن ثراها الطيب .و كما ذكرنا آنفاً ، تحمل هذه الحكاية الرمزية في طياتها صورة الأم بوصفها وطناً ، فمن رحمها و رحم الوطن ولد الأبناء، لذا فحماية الأم والأهل حماية للوطن ذاته . ففي مسرحية ( الملك إدوارد الثالث) لمجهول يبرز الأمير إدوارد البطل بمنزلة البجعة التي تنقر صدرها فيتدفق دمها فيقتات صغارها . و غني عن القول هنا أن هذا الأمير الفارس يرى نفسه أما لرعيته التي يحميها و يغذيها بدمه الزكي عند الضرورة.و في مسرحية ( كوريولانس) لشكسبير تبدو فولامنيا أما لبطل المسرحية التي سميت باسمه و لأبناء روما برمتها ، حين تشجب وعيد ابنها بحرق روما و تذكره بنيرون الطاغية الذي حرق أمه روما ، فدخل مزابل التاريخ. و حين تنجح فولامنيا ينجو أبناء روما لأنها أقنعت ابنها ببلاغتها ووطنيتها، فتحول عن موقفه الخياني .و في مسرحية ( تمبرلين العظيم ) للكاتب المسرحي و الشاعر البريطاني (كريستوفر مارلو) تبرز أنثى النسر الدمشقي الذهبي ساهرة باسطة جناحيها الكبيرين على برج مدينة دمشق لينام أهلوها تحتها قريري الأعين .و تتمثل روح التضحية في نفوس العذراوات الدمشقيات اللاتي يهبن لاستعطاف الغازي ( تمبرلين) كي يعفو عن أبناء بلادهن ، و تبلغ فدائية هؤلاء الفتيات أوجها حين يمتن في سبيل دمشق و أهلها .و في مسرحية ( وود ستوك ) لمجهول يظهر بطل هذه المسرحية التي سميت باسمه بمنزلة الفدائي الذي يضحي بنفسه قبل أن يرى مرتزقة الملك ريتشارد الثاني يدكّون عروش عزة إنكلترا و منعتها لتغدو فريسة يتراكضون على التهامها.و تتمظهر هذه الصورة الناصعة لمفدي الوطن في شخصية ( جيفري كلوستر ) الذي يتقلد مهامه بوصفه حامياً للملك و الوطن و أبنائه . ويشير النظر الفاحص إلى ( الملك هنري السادس) . لكن الطفيليين يتآمرون عليه، فسقوطه كارثة وطنية تجعل من إنكلترا لقمة سائغة أمامهم . و أما كلوستر حامي الملك و الوطن فإنه يؤكد استعداده البطولي للشهادة في سبيل بلاده، فيقول الملك ما مفاده :( ليت موتي ينهي هذه الفتنة العصية التي تحيق ببلادنا !إنني أخشى أن ينقض عليك هؤلاء الذئاب فينهشونك !لكنني سعيد لأنني سأموت قبل أن أرى مأساة ... بلادي أمام ناظري)هذه هي دلالات أقصوصة ( بكاء) التي اتخذت من العبرة الأثيرة (خير الكلام ما قل و دل ) مبناها و معناها و مغزاها .
|
ثقافة
صورة المفدية في النص القصصي (بكاء) للأديب مهتدي مصطفى غالب
أخبار متعلقة