الذكرى الثانية لرحيله
علي عبدالله الدويلة لقد خسرت الساحة اليمنية الثقافية بل والوطن العربي بأسره الفنان الكبير والعملاق والعبقرية الفذة هاشم علي الذي يعتبر الرائد الأول في الحركة الفنية التشكيلية في اليمن عموماً ومن رواد ومحترفي الفن التشكيلي الراقي الذي تبدو وخصائصه الفنية غير واضحة عند البعض ولكن في الحقيقة أثارت الحداثة كثيراً من الحوار والجدل في المدارس المختلفة حيث كانت المؤشرات إيجابية تصب في بوتقة ومعرفة العمل الإبداعي الخلاق بما يمكن من معرفة الأسس التي يجب أن نستند إليها وكيفية استعمال الأدوات الفنية في البحث عن القيم الجمالية من خلال المزايا الجمالية الروحية الساحرة في العمل الفني التشكيلي التي تتجسد فيها الأفكار الإنسانية ورؤى الفنان المنعكسة عن تجارب مختزنة في وعيه. تعلم الفنان هاشم علي فن الرسم بالفطرة والممارسة والاجتهاد الذاتي من دون أن يلتحق بفصول التعليم النظامي لان موهبته تجاوزت بخلفيتها الفكرية ورؤيتها البصرية وعن وعي وإدراك المدرسة الواقعية لوظيفة الفن ودور الفنان إزاء الارتقاء الجوهري الإنساني بجمال الواقع الاجتماعي حيث إن الفنان هاشم علي يعتبر من الفنانين القلائل الذين لعبوا دوراً حقيقياً وبذلوا جهوداً غير عادية برغم كل الصعوبات والظروف الاجتماعية المتردية في اتجاه هدفهم المنشود وتمكنوا بجدارة من إظهار فن عريق يعبر عن حداثته وأصالته و رؤاه الصادقة باعتبار أن الفن التشكيلي الإبداعي الخلاق قد تمكن من توصيل المفاهيم والقيم المادية الجمالية الروحية ونحن نشاهد الفنان هاشم علي عندما يقوم بالأداء الفني الذي لم نتوقعه من قبل ولنأخذ نموذجاً في الفن السريالي الذي يكاد أن يكون ابداعاً جمالياً متجاوزاً للمألوف والسائد لاحتوائه اللا معقول من حيث حركته الإبداعية واستخدام أدواته الفنية وطرح الألوان الزيتية في اللوحة الفنية .. والسريالية مدرسة فنية حازت على انتشار واسع بين الفنانين في دول الغرب بما قدمته من تحديث لأدوات الفن ومواضيعه وفي الواقع فإن هاشم علي لم يتأثر بالتربية الدينية التقليدية والعادات والتقاليد السائدة الموروثة،وهذا يفسر مدى ثقافته وميوله نحو الطابع العقلاني المتميز حيث انه التهم الكثير من مؤلفات الإغريق والأساطير البابلية والسومرية والفلسفات الشرقية القديمة وكان يجيد قراءتها عن ظهر قلب ، ولكن في بداية حياته الفنية قام بتقليد الفنانين الأوروبيين أمثال كلودمونيه وفان جوخ وبيسارو إلا أن الانطباعية لم تغنه شيئاً من هذا القبيل كمدرسة متكاملة وظل يبحث لفترة طويلة عن غايته الفنية في معظم المدارس الحديثة والقديمة ابتداء من اليونان إلى الرومان والى التكعيبية التحليلية التي ينتمي إليها براك وبعد أكثر من عشرين سنة توصل إلى اقتناع بالاستقلالية حيث يرى الفنان هاشم علي أن الفن الصادق هو في الحقيقة الذي يعبر تعبيراً مباشراً عن ثقافة المجتمع الإنساني وعليه أن يكون مقياساً صحيحاً لطموحاته وحجم حريته. الأعمال الجليلة الرائعة التي قدمها الفنان هاشم علي في فن لوحات الجرافيك أو لوحاته الزيتية تميزت من حيث العطاء الفني في مرحلة الثمانينات بالاحتفاء باللونين الأسود والأبيض وانجاز الكثير من لوحات الجرافيك بالحبر الصيني ويستخدم الفنان هاشم علي الأسود لأنه يوحي بالقوة ولا يحتاج إلى مؤثرات أخرى حيث تعتبر الفلسفة الشرقية اللون الأسود هو أول الألوان والبداية التي تنطلق منها الألوان وانه لولا الظلمة لما كان هناك ضوء أما بالنسبة إلى لوحاته الزيتية التي تعبر عن الإثارة والاندهاش فهي في الحقيقة تمثل منحى السهل الممتنع فالمواضيع الهادفة الرائعة من حيث الشكل والمضمون تتجسد من خلال لوحاته الفنية اليومية حول الإنسان البسيط مثل المحطات والفلاح والراعي وبائعة الفواكه والراقصين والوجوه المتأملة والشاردة والمتصوفين والنساء ولكن في الواقع هاشم علي ليس امتداداً لتلك المرحلة وليس لدية غاية سوى التعبير عن فعالية اللحظة المتعلقة بمتعة وجدانية لاحس فيها سوى الأثر الميتافيزيقي فالذاكرة التي يسكنها مخزون هائل من الصور تتحول من علاقة ما لدى الفنان هاشم علي إلى حالة عامرة بالسيطرة حالة لا ينقلب فيها السحر على الساحر فهذا المفهوم لا تتجه الذاكرة بل لا تتجرأ حتى على الاقتراب منه وفي اللوحات عناصر جوهرية تختلط بعناصر جوهرية أخرى تتجسد في امتداد الخطوط وانحنائها وتقاسيمها وتراكيبها الفنية وروحها من هنا تخلق الألفة من رحم الأرض وتسفر من نفس الثقب حيوانات شغوفة بامرأة قروية تعصب الزرع وتحمله فوق رأسها في هذه اللوحات الفنية يظهر الفنان أزمان التاريخ اليمني ومن خلال ذلك المشهد نرى رجلا اجتز جذع شجرة كبيرة ويهرول في الانعطافات الجبلية متعرقاً ومنهكاً. ومن هذه اللوحات الفنية التي اخترتها حاملة (الطعام وبائعة) و(بائعة العمب) و(بائعة اللبن) و(أشعة الشمس) و( الحداد) وقد لا يدخل اللون في قسماتها لكن الروح تدخل في روحها والأحلام تندفع في رذاذتها السوداء والأحلام تراوغ والرذاذ ينهمر على الوجوه التي تستملح ذلك.من هذه اللوحات التي اخترتها تبزغ عيون إلهية وتفر إلى العمق لحظة ما تشبه السحر وتتوارى في أسرارها خطوط الاضاءات قد تكون ثورة حب جموحة تصل الشيء بنفسه وصمته وعمقه كبرق أشعل ضاحة ثم غاب وعاد.لذلك وصف احد النقاد الأجانب عيون بيكاسو بأنها تقتحم ولا ترحم أما عيون هاشم علي فإنها تقتحم برفق لذلك تنسل إلى تجاويفنا ربما استقلت على سرير خشبي بسيط لملاحقة لحظة السحر الهاربة لذلك دائماً أفكر بكيفية مشاهدتي لعين هاشم علي ولأول مرة شعرت يومها أن كل هزة رمش تعني ضربة لونية عابرة تعني ولادة متكررة لمنازل على حواف جبلية نشاهد رجالاً يحملون وجوهاً داكنة كالصخور ورمش منتظمة لنساء جميلات يتخفين خلف الآلام الكثيرة أصداء لونية عملاقة تنسحب لتصبح موسيقى لا متناهية رقصات وثمالات وارتعاشات وفضاءات سحرية شعرت من خلالها أنني رأيت خيطاً اتضح لي بعد ذلك انه خيط من السحر أراه ولا أجده أحوم حوله وامسك به أتحسسه وهو في الحقيقة ما هو إلا طائر إلى أعالٍ لا حدود لها ولا أرى في لوحات الفنان هاشم علي سوى السحر وحده وما نرى من خلال ذلك المشهد سوى مكعبات تلتقي وتفترق لتكون دور عبادة واشجاراً وبيوتاً ووجوهاً ليس هناك تجريد يتجاوز ماهو حسي إلى أسرار خاصة فلا خصوصية سوى اللقطة الفنية بذاتها ولا توجد أية خطوط رياضية تكون أبنية حسابية وفلكية والأجمل انه لا يمتلك سوى ضمير مشتعل ممسوس بالعاطفة مستقل بالحب ليس ثمة جنون متوحش يسوق للذاتية فقط ، هناك اعتزال خفيف يغذي اعترافات الجسد بأهمية الروح لذلك فإن لوحات الفنان هاشم علي المعلقة على الحائط تنادي المعرض عنها إذ أمر وان لم يسمع تظل تناديه حتى يرى فإذا أصبح عاشقاً لشيء خفي ولذيذ ظن في لحظة ما انه امتلك شيئاً ولا شيء نستطيع امتلاكه خلف الفنتازيا لذلك تقف اللوحة على الحائط فتتحدى الزمان والمكان وتتحدى المعارض والنظريات والمدارس وما نعرفه في هذه اللوحة سوى أنها تقف في لحظة ما ربما داخل متعة وربما خارجها ولكنها في الأخير تقف على حائط جبلي وتوسط ايضاً حائطاً من الثلج تقف فوق وزن الريشة وتحت وزن الريشة هي لوحة لا حدود لقامتها ينحني أمامها الفراغ اللا متناهي وينتشر حولها الشكل الآدمي في اللوحة الواحدة يتراكم الإنسان داخل نفسه ويخرج هكذا كما شاء له معطراً بتاريخ إيقاعي في هذا الحد الجغرافي القديم الجديد الممتد بين عشرة آلاف عام قبل الميلاد وألفين بعده تصعد اللوحة هكذا في الجدار حينها تصبح اللحظة المعنية وهي تعني نقطة الارتكاز أو نقطة الاتزان لحظة العري الحقيقي والموت الحقيقي لحظة التشريح في معمل الاعمار لذلك يقولون أن براعة الفنان تكمن في استخدامه للون والمكونات الفنية الأخرى ويقول هاشم علي في تشكيله كما لاحظ اللا فائدة من ذلك أنا سأضع الخطوط وانتم قوموا بالتلوين لذلك النتيجة تكون خطوطاً مليئة بالصدق والحياة فلا فائدة من تلا وينكم إذا لم تضعها أصابعي. رسم هاشم علي اللوحة تكون محملة بأهوائها وندائها ففعلت فعلها في اللونين لم أجد أية قيمة لثقل اللون وثقل الكتلة وجدت فقط قيمة لثقل الجمال الساحر اللامتناهي .